ترجمة وتحرير: نون بوست
إن دونالد ترامب رجل تتجلى فيه التناقضات؛ فهو بهلوان سياسي يتراقص بين الوعود الجذابة والخيانة الصريحة، وشعبوي لا يتردد في التحدث عن السلام، بينما يصافح أيادٍ ملطخة ببارود الحروب.
وعندما يُذكر المُجمّع الصناعي العسكري، ذلك التشابك المعقد من القوى المكوَّن من الجنرالات وشركات تصنيع السلاح والمال العام، يُقدّم الملياردير القادم من كوينز عرضًا يستحق دراما شكسبيرية: مزيج من الاتهامات، والمجاملات، والغموض، يترك الجميع يتساءلون: هل هو متمرّد… أم دمية؟
على بُعد قرابة ثلاثة أشهر من بداية ولايته الثانية، ومع توقيع هدنة البحر الأسود في 25 مارس/آذار 2025 لتوّها، حان الوقت لتجاوز الخطابات الرنانة وفهم ما الذي يربط حقًا ترامب بآلة الحرب التي وصفها دوايت أيزنهاور في عام 1961 بأنها تهديد للديمقراطية الأمريكية.
هل هو حقًا متمرد على صقور القرار العسكري؟
يحب دونالد ترامب أن يصف نفسه بأنه الغريب عن النظام، الفارس الوحيد المستعد لـ”طرد محبّي الحروب” و”تطهير المجمع الصناعي العسكري”. وقد صرخ بذلك بأعلى صوته خلال تجمّع انتخابي في ولاية ويسكونسن في سبتمبر/أيلول 2024: “صواريخ تكلفتها 2 مليون دولار، لهذا السبب يحبون إسقاطها في كل مكان. لم أبدأ الحروب، سأقوم بإيقافها”.
خطاب يبدو وكأنه مشهد من أحد أفلام أوليفر ستون، حيث يلعب الملياردير دور البطل المناهض للمؤسسة. وقد صدّقه بعض الناس: جزء من قاعدته الشعبية، المرهقة من الحروب اللانهائية في العراق وأفغانستان، يرون فيه مسيحًا للسلام، ورجلاً يجرؤ على قول ما يهمس به الآخرون في ممرات واشنطن.
غير أنه خلف هذه الكلمات تختبئ حقيقة أكثر قتامة. فترامب ليس مسالماً يحمل غيتارًا، مستعدًا لغناء “أعطوا السلام فرصة”. بل هو براغماتي، رجل أعمال يعرف كيف يشتمّ الرياح ويركب الموجة. فخلال حملته الانتخابية عام 2016، كرر معارضته للحرب في العراق – “كارثة”، كما قال – ووعد بإعادة القوات إلى الوطن.
ومع ذلك، ما إن وصل إلى السلطة، حتى تحوّل عهده الأول (2017-2021) إلى نشيد تمجيد للمجمّع الصناعي العسكري، وكأن سياسته محكمة طيّعة مقنّعة بانتقادات متفرقة لتوهم الناس بأنها مستقلة أو معارضة للنظام العسكري، فقد ضخّم ميزانية البنتاغون لتتجاوز 700 مليار دولار سنويًا، في رقم قياسي تاريخي، متباهياً بأنه “أعاد بناء” جيش كان ـ على حد قوله ـ أوباما قد تخلّى عنه.
وأسس “قوة الفضاء”، كفرع جديد من القوات المسلحة، والتي تبدو أقرب إلى هدية مقدّمة لرجال الأعمال في وادي السيليكون (مثل “سبيس إكس” التابعة لإيلون ماسك) منه إلى ضرورة إستراتيجية.
زواج مصلحة
إن العلاقة بين ترامب وصناعة الأسلحة هي زواج مصلحة، بكل ما فيه من شهر عسل وخلافات علنية؛ ففي مايو/أيار 2017، قام ترامب بأول رحلة خارجية له كرئيس، وكانت إلى المملكة العربية السعودية. هناك، قام بتنسيق صفقة بيع أسلحة ضخمة بقيمة 110 مليارات دولار، وكانت شركة لوكهيد مارتن في الصدارة لتزويد أنظمة الدفاع الصاروخي ثاد بقيمة 15 مليار دولار.
ولإتمام الصفقة، اتصل جاريد كوشنر، صهره الحاضر دائمًا، شخصيًا بالمديرة التنفيذية لشركة لوكهيد، ماريلين هيوسون، للتفاوض على خصم يثير إعجاب السعوديين. فبعيدًا عن شعار “تطهير الساحة من المستفيدين من الحروب”، كان ترامب أفضل بائع لديهم.
وعندما قام النظام السعودي باغتيال جمال خاشقجي في عام 2018، دافع ترامب عن تلك المبيعات من الأسلحة برباطة جأش مذهلة: “لا يمكننا أن نخسر تلك الوظائف، وإلا ستأخذ الصين وروسيا مكاننا”.
وقام بتضخيم الأرقام، مشيرًا إلى “500,000 وظيفة” على المحك، بينما توقع المحللون حدًا أقصى يبلغ 50,000 وظيفة، لكن الرسالة كانت واضحة: الأعمال تأتي أولاً وقبل كل شيء. وتحت إدارته، ارتفعت مبيعات الأسلحة إلى الخارج لتصل إلى 55.6 مليار دولار في عام 2018، مقارنة بـ 33.6 مليار دولار في العام الأخير من رئاسة أوباما.
إن وزراء الدفاع في عهد ترامب لم يكونوا إلا وجوهًا مألوفة من قلب صناعة السلاح: جيم ماتيس الذيىشغل سابقًا منصبًا في مجلس إدارة “جنرال دايناميكس”، وباتريك شانهان الذي كان مديرًا تنفيذيًا في “بوينغ”، أما مارك إسبر فكان لوبيًا بارزًا لصالح “رايثيون”. وهي اختيارات تؤكد وجود “باب دوّار” بين السلطة والمصالح العسكرية، بابٌ يدور بسرعة تكاد تُحرج حتى دوايت أيزنهاور نفسه، الذي حذّر من هذا التداخل قبل عقود.
ثم هناك مشروع الـ F-35، وهو أغلى برنامج عسكري في التاريخ (بتكلفة 1.7 تريليون دولار)؛ حيث كان ترامب قد انتقده خلال حملته الانتخابية بسبب تكاليفه الباهظة، لكنه، بعد انتخابه، امتدحه، وذهب إلى حد القول – عن طريق الخطأ – إنه “غير مرئي”، وهو ما يعني أنها علاقة حب وكراهية تفوح منها رائحة النفاق.
تناقضات: الخطاب في مواجهة الواقع
مع ذلك، لم تكن صراعات ترامب مع المجمع الصناعي العسكري مجرد خيال محض، فهناك بعض الحقيقة في اتهاماته. ففي سبتمبر/أيلول 2020، وبعد أن اتهمه مقال في مجلة “ذا أتلانتيك” بأنه وصف الجنود القتلى بـ”الخاسرين” و”الأغبياء”، وجّه ترامب أصابع الاتهام إلى قيادات البنتاغون قائلًا: “هم لا يحبونني لأنهم يريدون أن تكون الحروب مصدر متعة لشركات تصنيع القنابل”.
وهو تصريح أثار ضجة كبيرة، وأعاد إلى الأذهان شبح تحذيرات أيزنهاور. ولم تكن هذه المرة الأولى، فقد دخل ترامب في صدامات متكررة مع الجنرالات خلال ولايته، مثلما حدث حين أمر بسحب القوات من سوريا في عام 2018، معلنًا هزيمة تنظيم الدولة،وذلك خلافًا لرأي مستشاريه العسكريين.
وتكشف هذه الحوادث عن توتر حقيقي: ترامب، بأنانيته المفرطة، لا يتقبل بسهولة أن يُعارَض من قِبل “أصحاب البزات العسكرية”، فهوسه بالسيطرة جعله يرى القيادات العليا كعقبة، وكطبقة نخبوية لا تفهم “عبقريته”، لكن تمرّده هذا كان شخصيًا أكثر منه أيديولوجيًا، فهو لم يقطع يومًا الحبل السري الذي يربطه بصناعة الأسلحة؛ بل حاول فقط تطويعها لخدمة أهدافه.
إن محاكمة العزل في عام 2019، المرتبطة بتجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا مقابل تحقيق مكاسب سياسية، تُعد مثالًا واضحًا: ترامب لم يكن يريد وقف تدفق الأسلحة (كصواريخ جافلين)، بل أراد استخدامها كورقة ضغط في ألعابه السلطوية.
الولاية الثانية: ماسك والوجه الجديد للحرب
اليوم، في عام 2025، تغيّر المشهد؛ حيث تبدأ الولاية الثانية لترامب بحليف مزعج: إيلون ماسك، الذي تم تعيينه كـ”قيصر الكفاءة” في الحكومة. ويمثل ماسك، إلى جانب شركتيه تسلا وسبيس إكس، الحدود الجديدة للمجمع الصناعي العسكري: فلم تعد الحرب تدور حول القنابل والدبابات، بل حول الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة والتقنيات الفضائية.
لقد أطلقت سبيس إكس بالفعل أقمارًا صناعية عسكرية، وقدمت خدمة “ستارلينك” لأوكرانيا، وهو نظام يمكن لترامب أن يروّج له من أجل “قبته الذهبية” المفترضة، وهو درع صاروخي مستقبلي أعلن عنه في خطابه أمام الكونغرس في 4 مارس/آذار 2025.
وقد تمثل هدنة البحر الأسود، وهي اتفاق هش بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، اختبارًا حاسمًا؛ حيث يتفاخر ترامب بأنه “أنهى الحرب”، لكن المنتقدين يرون في ذلك نعمة لصناعة السلاح: فسلام مؤقت لا يوقف سباق التسلّح، وشركات مثل “لوكهيد” و”نورثروب غرومان” بدأت بالفعل توقّع عقودًا لتعزيز الدفاعات الأوكرانية أو الأوروبية.
أما ماسك، بما لديه من مصالح ضخمة، فقد يدفع ترامب نحو عسكرة عالية التقنية، بعيدة عن الخطاب المناهض للحرب، لكنها مثالية لغروره كرجل “يمثّل مستقبل العالم”.
لعبة خطيرة
من هو ترامب في هذه القصة؟ هل هو صليبي ضد “محبّي الحروب” أم شريك متردد لهم؟ الحقيقة، كما هو الحال دائمًا في قضيته، هو في المنتصف. لقد غازل المجمع الصناعي العسكري، وفتح له خزائن الدولارات وقدم له التسهيلات، وفي الوقت ذاته، كان يوجه له بعض اللكزات، بدافع الغرور أكثر من المبدأ.
إن صراعاته – سواء كانت حقيقية أو مسرحية – لم تمسّ يومًا جوهر النظام: الربح.
في عمر الـ78، يخوض ترامب لعبة خطيرة: يريد أن يُخلّد في التاريخ كرئيس السلام، لكن ماضيه وحلفاءه يشيرون إلى مستقبل من الحروب الأكثر تكنولوجيا، لا الأقل تكرارًا.
لقد سبق أن حذّر أيزنهاور: المجمع الصناعي العسكري لا يُواجه بالكلام، بل بالأفعال. وحتى الآن، تُظهر سلوكيات ترامب أنه أقرب إلى أن يكون زبونًا منه إلى عدو. وفي هذه الرقصة داخل قاعة من المرايا، يخاطر الملياردير بالتعثر، ساحبًا معه والعالم كله الذي يراقب بحذر خطوته القادمة.
المصدر: ليه ديبلومات