يتوجّه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، يوم الاثنين 7 آذار/مارس الجاري، في زيارة مفاجئة لم يُعلن عنها مسبقًا، تأتي في وقت بالغ الحساسية، إذ تقف منطقة الشرق الأوسط على صفيح ساخن بفعل التوترات مع طهران حول الملف النووي، وحرب الإبادة المتواصلة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، فضلًا عن التصعيد في لبنان وسوريا واليمن.
ووفق ما كان مخططًا له، فقد كانت زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة مقررة في وقت لاحق من الشهر الجاري، أو خلال عيد الفصح الذي يبدأ في 14 نيسان/أبريل، غير أن مكالمة هاتفية مفاجئة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونتنياهو، خلال زيارة الأخير إلى العاصمة المجرية، غيّرت الجدول الزمني، فبعد ساعات قليلة من الاتصال، صرّح ترامب للصحفيين بأن نتنياهو “قد يزور واشنطن الأسبوع المقبل”، دون تحديد موعد دقيق.
وهذه الزيارة هي الرابعة لنتنياهو إلى واشنطن منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والثانية منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير 2025. ويعوّل نتنياهو على أن يحظى بدفعة دعم جديدة، مشابهة لما حصل عليه خلال زيارته الأخيرة أوائل شباط/فبراير، في مسعى منه لتثبيت أجنداته التوسعية، وتجنّب المصير السياسي المجهول الذي يطارده منذ بداية الحرب على غزة؟
الوضع في غزة
يتصدّر جدول أعمال الزيارة، بطبيعة الحال، الوضع في غزة، حيث ستُناقَش الاتفاقيات المطروحة وصفقات التبادل المقدَّمة من الوسطاء، إذ يسعى نتنياهو، وحكومته المنقادة من اليمين المتطرف، إلى عرقلة أي جهود للتهدئة، والحصول على ضوء أخضر جديد لمواصلة مخطط الإبادة المستمر منذ اليوم الأول للحرب.
كان المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قد تقدم بمقترح لوقف إطلاق النار لمدة 50 يومًا، يتضمن إطلاق سراح عدد من الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، غير أن المقاومة رفضت المقترح لعدم تضمُّنه بندًا واضحًا لوقف الحرب أو الانسحاب الإسرائيلي من القطاع.
وفي المقابل، قدّم الوسيط المصري مقترحًا معدّلًا وافقت عليه حركة حماس، إلا أن حكومة نتنياهو، كعادتها، سعت إلى عرقلته من خلال وضع شروط تعجيزية، مثل إبعاد قادة المقاومة خارج القطاع وتسليم السلاح، وهو ما رفضته الحركة.
محور آخر لا يقل أهمية يُتوقَّع أن يحضر بقوة على طاولة لقاء ترامب ونتنياهو، وهو مناقشة مخطط التهجير الذي يسرّع جيش الاحتلال بتنفيذه عمليًا، فمن المرجح أن تتركز النقاشات حول الخطوة التالية في هذا المخطط، والبحث عن إجابة للسؤالين الملحَّين: التهجير إلى أين؟ وكيف؟
تشير المؤشرات الأولية إلى استبعاد مصر من خيار استقبال الفلسطينيين المُهجّرين من قطاع غزة، في ظل موقفها المتشدِّد إزاء هذه المسألة، وبناءً عليه طُرحت دول أخرى يُعتقد أنها مؤهلة للعب هذا الدور، منها الأردن – إذا تخلّت عن موقفها الرافض بفعل الضغوط – إلى جانب شمال العراق، الذي سبق أن طُرح كجهة توطين للفلسطينيين إبّان تأسيس “الدولة اليهودية”، فضلًا عن المجر وبعض الدول الآسيوية ودول في وسط أفريقيا.
أما عن كيفية إخراج الفلسطينيين من القطاع، في ظل عرقلة مصر لفتح حدودها، فيُرجَّح أن تكون السفن البحرية الوسيلة المتاحة حاليًا، وهو ما بدأت حكومة الاحتلال التمهيد له مؤخرًا، من خلال إنشاء إدارة خاصة بملف “التهجير الطوعي”، كما تزعم، بعد أن دمّرت مقومات الحياة في القطاع، وأخضعت السكان لحصار خانق وسياسة كماشة محكمة، حوّلت غزة إلى أرض محروقة لا مكان فيها للحياة.
ويحاول نتنياهو من خلال تلك الزيارة المرتقبة تجديد الضوء الأخضر الأمريكي، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لممارسة المزيد من الضغط على حماس وفصائل المقاومة، عبر خلال الإجهاز على ما تبقى من قطاع غزة، والقضاء على من هم على قيد الحياة من الفلسطينيين، ودفعهم دفعًا- قهرًا لا خيارًا- إلى الهروب والفرار.
الملف الإيراني
وفقًا لعقيدة نتنياهو العدائية وسعيه الدائم لإشعال المنطقة، يُرجَّح أن يسعى خلال زيارته إلى واشنطن إلى التوصل لتفاهم مع الإدارة الأمريكية بشأن توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، في حال فشل المسار الدبلوماسي، بحسب ما أشار إليه موقع “أكسيوس”، ويرى رئيس حكومة الاحتلال أن فرص التوصل إلى اتفاق نووي بين واشنطن وطهران منخفضة للغاية.
ويعتقد نتنياهو أن اللحظة الراهنة تمثل فرصة ذهبية لـ”إسرائيل” للقضاء على المشروع النووي الإيراني عبر الخيار العسكري، غير أن تنفيذ ذلك يتطلب الحصول على ضوء أخضر من البيت الأبيض، ولذلك سيحاول إقناع ترامب بتوجيه ضربة عاجلة وقاسية للمواقع النووية الإيرانية.
ورغم أن الرئيس الأمريكي يُبدي استعدادًا لاستهداف طهران عسكريًا، إلا أن المؤسسات الأمنية الأمريكية تُبدي تحفظات واضحة على مثل هذه الخطوة لما لها من تبعات خطيرة قد تُهدد الاستقرار الإقليمي والمصالح الأمريكية داخليًا وخارجيًا، لا سيما في ظل التصعيد غير المسبوق في المنطقة.
وقد شهد الخطاب الأمريكي إزاء إيران مؤخرًا تغييرات طفيفة، حيث انتقل من التهديد المباشر بالضرب إلى فرض عقوبات ثانوية، خصوصًا بعد أن أبدت طهران استعدادها للعودة إلى طاولة التفاوض، رغم الخلاف القائم بين الطرفين حول طبيعة هذا التفاوض؛ إذ تفضل إيران مسارًا غير مباشر عبر وسطاء، بينما تميل الإدارة الأمريكية إلى مفاوضات مباشرة.
وفي هذا السياق، يقول مستشار سابق للأمن القومي ومسؤول الاتصالات السابق في البيت الأبيض، مارك فايفل، إن ما يريده ترامب هي مفاوضات مباشرة مع إيران، أي أن يكون معهم وجهًا لوجه، لأنه يريد الأضواء وحتى يظهر أنه المفاوض الأفضل.
ويضيف أن التهديدات التي يطلقها بين الحين والأخر تجاه الإيرانيين تهدف إلى دفعهم نحو المفاوضات المباشرة، تمامًا كما فعل مع كوريا الشمالية خلال عهدته الأولى في البيت الأبيض، منوهًا أنه في حال رفضت طهران البدء بمفاوضات مباشرة، فمن المرجح استمرار واشنطن في سياسة فرض الضغوط على الدولة الإيرانية سياسيًا واقتصاديًا ليأتي بها لمفاوضات حسب شروطه هو.
وكان قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي قد قال في وقت سابق ردًا على تلك التهديدات الأمريكية إن “إيران لن تكون البادئة بالحرب لكنها مستعدة لها ولن تتراجع خطوة أمام العدو”، مضيفًا أن “العدو يحاول وضع إيران أمام خيارين إما المواجهة وإما القبول بشروطه وذلك عبر فرضيات خاطئة بشأن ضعف قدراتها الردعية.”
الرسوم الجمركية
ثالث أبرز الملفات المتوقع أن تكون حاضرة على جدول أعمال الزيارة، هي الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على المنتجات الإسرائيلية، والبالغة نحو 17% ضمن قائمة التعريفات التي فرضها على أكثر من نحو 200 دولة على مستوى العالم، في تحرك أعاد مجددًا الحرب التجارية للأضواء بشكل أكثر قسوة.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية قد وصفت قرار فرض رسوم على المنتجات الإسرائيلية بأنها “خطوة مفاجئة أثارت مخاوف كبيرة بشأن تأثيرها على التبادل التجاري بين البلدين”، وبحسب صحيفة “معاريف” العبرية، فإن هذا القرار كان من الأسباب التي دفعت نتنياهو للتعجيل من زيارته البيت الأبيض.
وكانت حكومة الاحتلال، قد حاولت مؤخرًا استمالة الإدارة الأمريكية ومغازلتها مبكرًا، بإعلانها رفع جميع الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية، على أمل مراعاة ذلك في الرسوم التي فرضها ترامب على مختلف دول العالم، غير أن ذلك لم يحقق الهدف منه.
إذ تفاجأ الإسرائيليون بهذا القرار، الذي أثار قلق المستثمرين في “إسرائيل”، حيث يخشون أن تؤدي هذه الخطوة إلى تقليل تنافسية المنتجات الإسرائيلية في السوق الأمريكية، ودفع المستهلك الأمريكي لتفضيل البدائل المحلية، كما أعرب آخرون عن مخاوفهم من اضطرار بعض الشركات الإسرائيلية إلى نقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، تفاديًا لدفع الرسوم الجديدة.
يذكر أن الميزان التجاري بين أمريكا و”إسرائيل” يميل بشدة نحو البضائع الإسرائيلية، إذ إن حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة يبلغ نحو 22 مليار دولار عام 2024، مقارنة بحجم الواردات التي لم تتجاوز 15 مليار دولار، وهو ما يجعل من قرار فرض الرسوم الجمركية كارثة محققة ينجم عنها خسائر فادحة.
وهو ما دفع رئيس جمعية المصنّعين الإسرائيليين، رون تومر، للإعراب عن قلقه، والتأكيد على أن القرار سيتسبب بإحداث ضرر بالاستقرار الاقتصادي في “إسرائيل”، وثني الاستثمار الأجنبي عن المشاركة في الاقتصاد، وإضعاف القدرة التنافسية للشركات الإسرائيلية في الأسواق الأمريكية.
ومن ثم سيحاول نتنياهو خلال زيارته الضغط على ترامب لإثناءه عن قرار التعريفات الجمركية على المنتجات الإسرائيلية، أو على الأقل تخفيضها إلى الحدود الدنيا، بما لا يضر بالاقتصاد الإسرائيلي القائم في الاساس على الدعم الأمريكي له عبر مختلف المستويات.
إلى جانب البحث عن محفزات أمريكية استثنائية لاقتصاد الكيان المحتل، بما يغطي كلفة الحرب المفتوحة على عدة جبهات، والتي تستنزف الخزينة الإسرائيلية بصورة كبيرة.
وهكذا يُمنّي رئيس وزراء الاحتلال النفس بأن تحقق زيارته المرتقبة النتائج نفسها التي حققتها زيارته الأولى في شباط/فبراير الماضي، تلك التي غيّرت مسار مستقبله السياسي بشكل كبير، بعد الدعم الهائل الذي حصل عليه من الإدارة الأمريكية والكونغرس.
عاد بعدها أكثر توحشًا وإجرامًا، مكشّرًا عن أنيابه الفارغة في وجه الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، فيما يقف العرب، كالعادة، مكتوفي الأيدي، في موقف المتفرّج، بانتظار معجزة سماوية تحفظ لهم ماء الوجه، وتعفيهم من عار الخذلان والانبطاح الذي يلاحقهم في عصرٍ انتهت فيه المعجزات.