لا يخبو صوت انفصالي في سوريا إلا ويتعالى صوت جديد، تستغل تلك الفقاعات الضغط الهائل الذي تتعرض له الحكومة الجديدة من كل صوب، ونهجها البارد في التعاطي مع الملفات المختلفة، لتحصيل مكاسب إن شخصية تتعربش على محن الناس ومآسيهم، أو فئوية للفوز بامتيازات إدارية خاصة لجماعتها.
في الساحل السوري، حتى قبل الأحداث المؤسفة في وقعت يوم 6 من مارس/آذار الماضي وبعده، ظهرت أصوات عديدة من شخصيات علوية تطالب بحماية دولية للعلويين في جبال الساحل، وأخرى تنادي صراحة بدولة علوية، وآخر المستجدات أن خرج علينا حفيد الشيخ صالح العالي ليطالب “باسم العلويين” بحق تقرير المصير لطائفته بذريعة وقوع انتهاكات بحقها، وهو ما رفض خاله محمد صالح، نجل الشيخ صالح العلي، اتخاذها مطيّة “للتلاعب بمصير بيئاتهم القلقة بعد سقوط النظام البائد للمطالبة بحماية أجنبية”.
تضليل وافتراءات
فقد أطلّ رئيس ما يعرف بـ”حركة الشغل المدني” في سوريا، المحامي عيسى إبراهيم، في تسجيل مصور على صفحته الشخصية في منصة فيسبوك، في الثالث من أبريل/نيسان الجاري، يزعم فيه تكليفه بقراءة بيان صادر عن ممثلين من الطائفة العلوية المقيمة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص.
طالب إبراهيم -في البيان- جميع الجهات الدولية الفاعلة والمنظمات الدولية التي تستند في عملها على مبادئ القانون الدولي الإنساني، بحماية العلويين من “الإبادة الجماعية والجرائم التطهير الإثني الطائفي التي يرتكبها الإرهاب الجهادي التكفيري المتمادي..”.
وزعم البيان أن “سلطات الأمر الواقع ارتكبت جرائم القتل الممنهج والجماعي للسكان العلويين المدنيين العزل”، و”خطف النساء العلويات على أساس طائفي واقتيادهن إلى أماكن مجهولة..”، إضافةً إلى “الاحتجاز التعسفي للعسكريين السابقين ممن ألقوا أسلحتهم..”.
كما اتهمها بممارسة “النهب الممنهج لممتلكات العلويين من عقارات ومركبات وأصول ومدخرات، والسّطو المسلح على المجتمعات المحلية العلوية”. بالإضافة إلى “تهجير سكان المجتمعات المحلية العلوية..”، فضلًا عن “طرد الموظفين الحكوميين العلويين من وظائفهم ووقف رواتب المتقاعدين منهم لأسباب طائفية بحتة”.
وادعى “استمرار بأعمال تعذيب العلويين ومعاملتهم بصورة لاإنسانية ومهينة..”، و”تخويف وتهديد وسجن الزعماء الدينيين والزعماء المحليين للعلويين وإجبارهم على نشر بيانات مؤيدة لسلطات الأمر الواقع الإرهابية..”. و”حرمان العلويين من الرعاية الطبية من خلال ارتكاب جرائم القتل بحق الأطباء والصيادلة، ونهب الصيدليات والعيادات الخاصة، وإغلاق المستوصفات الحكومية”.
بينما تجاهل البيان دور فلول النظام السابق في الساحل السوري الذين شنوا هجمات ضد المستشفيات والمراكز والمؤسسات الخدمية المدنية في محاولة منهم لفرض واقع سيطرة جديد في المنطقة في 6 مارس/آذار الماضي، مما أسفر عن مقتل عشرات الكوادر الطبية والأمنية والعسكرية في الساحل السوري.
وحاول تجميل سلطة الأسد مقارنة بالسلطة الحالية، إذ اعتبر أن الحكومة الجديدة سلطة “طائفية” بينما كانت “سلطة الأسد سلطة لا دينية تقوم على الفساد وتتشارك فيها جميع الطوائف” حسب زعمه.
واعتبر أن الإعلان الدستوري أخرج “العلويين من دائرة المواطنة”، ملفقًا تهمًا بأن الإدارة السورية الجديدة تعتبر “أن العلويين لا يتبعون الأديان السماوية، وهم مرتدون عن الإسلام ومشركون..”، وزعم أن “العلويين جماعة ثقافية إثنية متماسكة يجمعها تاريخ مشترك وتعيش في مناطق جغرافية متصلة ويشكلون أغلبية ساحقة في مناطق الساحل السوري وحمص وريفي حمص وحماة الغربيين..”.
مطالب انفصالية؟
ورغم عدم ظهور الشخصيات الذين اعتبرهم ممثلين عن الطائفة العلوية، إلا أن البيان طالب بتدخل أجنبي في سوريا لحماية “العلويين” ومنحهم حق تقرير المصير.
وجاء في البيان، “نطالب المجتمع الدولي بإنشاء لجنة تحقيق دولية للتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية المستمرة، وإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي الجرائم بحق العلويين”، كما طالب “بنشر بعثة للأمم المتحدة للإدارة المؤقتة لمناطق العلويين لحفظ السلام فيها”.
كما طالب “المجتمع الدولي بإجراء استفتاء بإشراف دولي لإعمال حق تقرير المصير للعلويين في مناطقهم بما يفضي إلى تحقيق الحكم الذاتي مع إتاحة خيار إقامة كيان عصري فيها يقوم على العلمانية والديمقراطية والمواطنة..”.
وعيسى إبراهيم هو حفيد أحد قادة الثورة السورية في الساحل السوري ضد الاستعمار الفرنسي، صالح العلي، من ابنته الكبرى، حفيظة، وزوجها محمد عيسى آل الشيخ إبراهيم، من مدينة جبلة في ريف محافظة اللاذقية، وحارب صالح العلي، ضد الاحتلال الفرنسي بهدف استقلال سوريا والحفاظ على وحدتها.
وشغل إبراهيم منصب مستشار دستوري في هيئة التفاوض السورية، ويرأس حاليًا حركة الشغل المدني في سوريا، وهي حركة سياسية تقول إنها تأسست من قبل أفراد من الطائفة العلوية في 13 نيسان/أبريل 2012 في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية، إلا أن معرفاتها على فيسبوك نشطت في يناير/كانون الثاني 2025.
View this post on Instagram
وتعتبر الحركة ضرورة انتقال سوريا إلى دولة مواطنة تحت نظام ديمقراطي علماني، مع وجوب تغيير النظام في سوريا بالطرق السلمية، قبل سقوط نظام الأسد المخلوع، وتزعم الحركة بأن الأسد اعتقل عددًا من أعضائها وعذبهم ولاحق آخرين، فيما تمكن بعضهم الخروج من سوريا وإيقاف عمل من تبقى بسبب الملاحقة الأمنية في الداخل السوري في عهد نظام الأسد، كما تتبنى نظام الحكم اللامركزي.
استنكار ورفض
في المقابل، استنكر سياسيون ومثقفون علويون البيان الصادر عن عيسى إبراهيم، كونه يدعو إلى استفتاء تقرير المصير، وأعربوا عن رفضهم لدعوة تشكيل لجنة دولية لإجراء استفتاء على تقرير مصير الساحل السوري، معتبرين أنها دعوة تهدف إلى تقويض وحدة سوريا وتهديدًا خطيرًا للبنية الوطنية الجامعة وخروجًا عن مفهوم المواطنة المتساوية.
وشدد الموقعون على البيان، في مقدمتهم محمد صالح (أبو علي)، نجل الزعيم العلوي في الساحل، صالح العلي، وخال المحامي عيسى إبراهيم، على:
- رفضنا القاطع .. لتشكيل لجنة دولية لإجراء استفتاء على تقرير مصير الساحل السوري، وهي دعوة نراها تقويضًا صريحًا لوحدة الدولة السورية، وتهديدًا خطيرًا للبنية الوطنية الجامعة، ومخالفةً لمبدأ السيادة الوطنية، وخروجًا على مفهوم المواطنة المتساوية الذي نناضل جميعًا من أجله.
- نستهجن ما صدر عن بعض الشخصيات الدينية من مطالبات بإصدار عفو عام، تُغفل بشكل فجّ حق الضحايا في العدالة والمحاسبة، وتُمثل تجاوزًا خطيرًا على صلاحيات الدولة ومؤسساتها القضائية، وتُكرّس خلطًا مرفوضًا بين المجال الديني والسياسي. إن هذه المطالبات، وإن تراجعت عنها بعض الجهات لاحقًا، فإنها صدرت بإيعاز من قوى معزولة عن الواقع الوطني، وغير معنية بحساسية المرحلة، ولا بمعاناة السوريين الذين دفعوا أثمانًا باهظة من دمائهم وكرامتهم.
- نرفض كذلك دعوات صادرة عن أفراد لهم مطامعهم الشخصية أو أدوارهم التي لا تعنيها أوجاع الناس ومصالحهم الحقيقية، حيث استغلوا موقعهم الديني أو الاجتماعي للتلاعب بمصير بيئاتهم القلقة بعد سقوط النظام البائد للمطالبة بحماية أجنبية، سواء فرنسية أو إسرائيلية، وهي طروحات خطيرة تمسّ بالسيادة السورية، وتُغذي سرديات استعمارية وتقسيمية بالية لم يتوقف توظيفها واستثمارها المشبوه منذ عقود.
ووجهوا مطالبهم للقيادة السورية الانتقالية، في “إعلان الساحل السوري، وخاصة مناطقه الريفية، منطقة منكوبة، تستدعي استجابة إنسانية عاجلة من الدولة وشركائها الدوليين”.
كما طالبوا بإيقاف “كافة أشكال التمييز والاضطهاد والإقصاء على خلفية الانتماء، وإعادة النظر في الوضع المعيشي لعائلات المفصولين من أعمالهم”، إضافةً إلى “سحب المجموعات المسلحة غير المنضبطة من كامل مناطق الساحل، وتكليف مؤسسات أمنية رسمية منضبطة بحماية السكان ضمن إطار القانون وتحت رقابة مدنية، وبمشاركة محلية وأهلية حقيقية بالتنسيق مع الجهات المسؤولة”.
كما طالب بيان السياسيين بـ”إطلاق مسار عدالة انتقالية وطني، مستقل وشامل، يُنصف جميع الضحايا، ويُحاسب كل من تورّط في جرائم ضد السوريين منذ بدء الثورة السورية، بغض النظر عن موقعه أو انتمائه، ومحاسبة المتورطين في جرائم الساحل محاسبة فورية وشفافة وعادلة”.
كما شددوا في مطالبهم بـ”إصدار موقف ديني وطني واضح من أعلى المرجعيات الدينية في الجمهورية، يُدين استهداف أي جماعة أهلية سورية (طائفة أو اثنية)، ويحرّم التحريض الطائفي والعرقي والعنصري ويجرّمه”.
ويبدو أن الأصوات المتعالية التي تطالب في حق تقرير المصير للعلويين في الساحل السوري لا تلقى آذانًا صاغية، كونها تندرج ضمن المطالبات الفردية التي لا تمثل كافة الطائفة العلوية، في الساحل السوري، وتناقض نفسها بنفسها، من خلال ادعاء “المظلومية” وتضليل الرأي العام السوري والعالمي.
تهديد الوحدة الوطنية
أثار بيان الطائفة العلوية على لسان عيسى إبراهيم جدلًا واسعًا بين السوريين خلال الأيام القليلة الماضية، كونه أغفل العديد من القضايا التي عاشتها مناطق الساحل السوري ودور فلول النظام السابق في إثارة الفوضى والقتل وترويع المدنيين، إضافة إلى المطالبة بحق تقرير المصير، معتبرين أنها دعوة صريحة للانفصال عن سوريا.
واعتبر المحامي والحقوقي، عارف الشعال، أن بيان الطائفة العلوية مقيت ينضح بالحقد والطائفية، ويرد على موقعيه الذين ارتكبوا جرائم الخيانة والفتنة والنيل من الوحدة الوطنية وإثارة النعرات الطائفية المنصوص عليها في قانون العقوبات العام.
وأضاف، في تعليق على صفحته الشخصية على منصة “فيسبوك“، أن مطلبهم يفوح بالصلف والنرجسية، كون البيان يطالب بـ “إنشاء لجنة تحقيق دولية للتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية المستمرة وإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي المجازر بحق العلويين” فقط، دون أن تشمل أعمال اللجنة والمحكمة، الجرائم المروعة التي ارتكبها أركان النظام البائد، مما يؤكد أن موقعي البيان من الفلول والمجرمين الآنف ذكرهم.
وأوضح، أن البيان احتوى على افتراءات وتزوير للحقائق، لأن الإعلان الدستوري تمسك بالقوانيين النافذة، ومنها قانون الأحوال الشخصية الذي اعتبر العلويين فرقة من المسلمين تسري عليهم أحكامه كاملة، ويخضعون لولاية المحاكم الشرعية، لافتًا إلى أن البيان يكذب جميع المراجع الدينية العلوية التي تؤكد أنهم مسلمون وليسوا جماعة ثقافية.
واعتبر، أن وصف نظام الأسد المجرم بأنه سلطة لا دينية تقوم على الفساد وتتشارك فيها جميع الطوائف، بينما هو نظام وحشي دموي طائفي، يدل على أن موقعي البيان من مجرمي فلول النظام البائد الذين جرائم القتل والتعذيب والإخفاء القسري والمقابر الجماعية في مسلخ صيدنايا والمحكمة الميدانية وأفرع المخابرات المختلفة.
رئيس “حركة الشغل المدني في #سوريا” عيسى إبراهيم يلقي بياناً قال إنه صادر عن “ممثلي الطائفة العلوية في سوريا” يطالب فيه المجتمع الدولي بالإشراف على استفتاء حول الحكم الذاتي للعلويين#الشرق_سوريا pic.twitter.com/g6oyvxG46o
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) April 3, 2025
بينما يرى الباحث السياسي، مصطفى سيجري، أن مطالبة البيان للمجتمع الدولي لإجراء استفتاء للحكم الذاتي في الساحل السوري، يعد محاولة لطعن الوطن في الخاصرة.
وأكد، في حديثه لـ”نون بوست”، أن السنة يشكلون الغالبية السكانية في الساحل السوري، والعلويون ليسوا أكثرية، بل هم مكون من مكوناته، ومحاولات الهيمنة على الساحل عبر الاستعانة بالخارج للتغول على الساحل سيدفعنا لأماكن وسيناريوهات لن تكون مرضية أبدًا للحالمين ومدعي المظلومية.
ختامًا.. يراهن الانفصاليون على وحدة واستقرار سوريا تحقيقًا لغايات شخصية أو طائفية، إلا أن أصواتهم لا تلقى آذانًا صاغية داخلية، وسط محاولات مستمرة من الإدارة السورية الجديدة إلى الحفاظ على السلم الأهلي وبسط الاستقرار الأمني في الساحل السوري، رغم التحديات الشاقة التي تمرّ عبرها.