بعد أيام قليلة من استعادة الجيش السوداني السيطرة على العاصمة الخرطوم من قبضة مليشيا الدعم السريع التي سيطرت عليها لمدة سنتين، خرج قائد ثاني المليشيا عبد الرحيم حمدان دقلو بخطاب هدد فيه باجتياح الولاية الشمالية ونهر النيل الواقعتين شمالي البلاد.
وظهر دقلو في مقطع فيديو جرى تصويره في مكان غير معروف يرجح أنه في دارفور، محاطًا بحشد من أنصاره، وهم يرددون: “الشمالية جوة.. الشمالية جوة”، وقال إنه “في هذا اليوم خرجت 2000 سيارة بالصحراء وهي في طريقها إلى الولاية الشمالية”.
وتابع: “جايينكم في الشمالية ونهر النيل. كنا غلطانين وما كنا عارفين المعركة وين، لكن الآن المعركة في الشمالية”.
لاحقًا، تمكن فريق شبابي متطوع من تحديد موقع الحشد الذي خاطبه عبد الرحيم دقلو، مبينًا أنه كان في مجرى مائي بالقرب من معسكر دوماية الذي يقع في ولاية جنوب دارفور وتحديدًا قرب عاصمتها مدينة نيالا.
وأشار فريق “فيستا” إلى اعتقاده بأن تصريح قائد ثاني المليشيا عن استهداف الولاية الشمالية قد يكون مناورة إعلامية لإخفاء النوايا الحقيقية تجاه مدينة الفاشر عاصمة ولاية دارفور بسبب قرب المسافة بين نيالا والفاشر، رغم رصده لتحركات مليشيا الدعم السريع بالقرب من حدود الولاية الشمالية.
مدينة نيالا – معسكر دوماية
تمكنا من تحديد موقع خطاب عبد الرحيم دقلو، قائد ثاني مليشيا الدعم السريع وقائدها الأول فعليًا في السودان، إضافة إلى تجمع كبير لقوات المليشيا.
بدأت عملية حشد هذه القوات قبل ثلاثة أيام في معسكر دوماية ويبدو أن هذه القوة حديثة التكوين، حيث التزمت بارتداء… pic.twitter.com/48UV2oiXqP
— VISTA (@VistaMaps) April 2, 2025
وأضافت المنصة أن أحد أفراد هذه القوة ظهر في مقطع فيديو منفصل يسرب أوامر دقلو بأن وجهتهم التالية هي الفاشر – الواقعة تحت سيطرة الجيش وحلفاؤه- خلال 72 ساعة.
أزمة داخل الدعم السريع
رغم لغة الوعيد وحالة الحرب النفسية التي استخدمها عبد الرحيم دقلو خلال تهديده باجتياح الشمالية ونهر النيل، فإنّه في الوقت نفسه ظهر مرتبكًا شارد الذهن وخصص جزءًا كبيرًا من حديثه لعناصر المليشيا، حيث تشير طبيعة رسائله إلى وجود أزمة عميقة داخل الدعم السريع، يمكن أن نرصدها في النقاط الآتية:
- اعترف دقلو ضمنيًا بفقدان السيطرة على عناصر قواته، بإشارته إلى أن العديد منهم هربوا من القتال، مطالبًا إياهم بالعودة خلال ساعات ومحذرًا المخالفين بالإبعاد والمحاكمة، كما اتهم بعضهم بالركون والجلوس في البيوت مع أمهاتهم وأخواتهم.
- وجّه تحذيرات للضباط والجنود الذين يبيعون الأسلحة والذخائر، ما يؤكد عدم قدرة المليشيا على السيطرة على عناصرها وضعف الانضباط العسكري لديهم.
- تهديده بقتل كل من يدعم (الكيزان والفلول) من قواته يكشف عن حالة القلق داخل قيادة الدعم السريع حول ولاء عناصرها، واستخدامه لغة التخوين والتخويف لإعادة الانضباط الي صفوف قواته عبر الترهيب والتخويف.
- كما أن الخطاب التهديدي باجتياح ولايات الشمال يكشف زيف الشعارات التي كان يرفعها شقيقه حميدتي في خطاباته عن سعي المليشيا لتحقيق الديمقراطية وبناء السودان على أسس جديدة، فبدلًا من ذلك قام دقلو الأصغر بتحويلها إلى حرب جهوية وعرقية ضد مكونات شمال السودان.
خسارة الخرطوم كانت نكسة كبيرة
يشير عدد من المحللين إلى أن خطاب قائد ثاني الدعم السريع وتهديده باستهداف ولايتي نهر النيل والشمالية ما هو إلا نوع من أنواع الحرب النفسية، فمن الناحية العسكرية لا يمكن لقائد أن يكشف خطته للخصم وإخباره بأنك قادم إليه قريبًا في موقع محدد، وكأنك تقول له استعد بقواتك وطائراتك الحربية.
ويشير ضابط في الجيش السوداني برتبة رائد إلى أن المسافة بين دارفور والولاية الشمالية تزيد عن ألف كيلومتر كلها صحراء مشكوفة، وأن تحرك القوات عبرها سيكون مغامرة عسكرية تكلف الدعم السريع خسائر فادحة.
وأضاف الضابط في حديثه لـ”نون بوست” أن خطاب دقلو المراد منه تحويل الانتباه عن انتصارات الجيش الأخيرة، ورفع الروح المعنوية وسط قواته بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها طوال الأشهر الماضية، والتي كانت الخرطوم أكثرها مرارة، مشيرًا إلى أن خسارة المليشيا للخرطوم جاءت بعد أيام قليلة من خطاب قائد الدعم السريع حميدتي الذي تعهد فيه بعدم الخروج من العاصمة.
وزاد محدثنا “هزيمة الخرطوم مثلت أكبر نكسة للمليشيا التي خلفت وراءها أسلحة ضخمة، خاصة في المواقع الإستراتيجية التي كانت تتباهي بسيطرتها عليها مثل القصر الجمهوري ومطار الخرطوم والبنك المركزي وجهاز المخابرات العامة”، لافتًا إلى أن الدعم السريع كان تنوي بالفعل تدشين حكومتها الموازية من الخرطوم لرمزية العاصمة ومكانتها التاريخية، وأوضح أن الأخوين دقلو لم يتوقعا انهيار قواتهما بهذه السرعة في محاور العاصمة بسبب التقارير المضللة التي كانت ترفع إليهما.
تعطيل خطة استعادة دارفور
رجح الرائد- رفض ذكر اسمه لكونه غير مصرح له بالحديث إلى الإعلام- أن تكون الفاشر هي الهدف التالي للمليشيا ليصبح إقليم دارفور بأسره تحت سيطرتها، مبينًا أن عبد الرحيم دقلو يهدف من خلال تهديداته إلى تعطيل متحركات الجيش السوداني والقوات المساندة له الموجودة في شمال البلاد ضمن خطة فك الحصار عن الفاشر واستعادة دارفور، حتى يتمكن من شن هجوم كاسح وكبير يسقط بموجبه مدينة الفاشر.
ومع ذلك لم يستبعد الضابط في حديثه لـ”نون بوست” إمكانية شن هجوم متزامن على الفاشر ومناوشة المناطق الحدودية للولاية الشمالية في الوقت نفسه بهدف إرباك الجيش وتشتيت جهوده.
نقاط قوة الدعم السريع
بطبيعة الحال لا يمكن الاستهانة بالدعم السريع والتسليم بأنه انتهى، فما يزال بإمكان المليشيا القدرة على تجميع صفوف المقاتلين حتى وإن كانت تلك القدرة قد تضاءلت كما يبدو جليًا في خطاب القائد الثاني الذي حمل حديثه الكثير من عبارات التهديد والوعيد للأفراد المنسحبين من محاور القتال ولقادة الإدارات الأهلية.
الأمر الآخر الذي يصب في صالح الدعم السريع هو سيطرتها في الأيام الماضية على مدينة المالحة بدارفور وهي منطقة إستراتيجية تشكل مثلثًا بين الولاية الشمالية والفاشر وليبيا، كانت تعد خط الإمداد الرئيسي للدعم السريع من قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا قبل أن تقطعها القوة المشتركية لدارفور (حلفاء الجيش) في الأشهر الماضية، ومؤخرًا استعادتها المليشيا مرة أخرى.
فالاستحواذ على المالحة يهدد حركة قوات الجيش والقوافل التجارية بين الولاية الشمالية من جانب وكردفان وإقليم دارفور من جانب آخر، كما يمنح الدعم السريع مساحة أكبر للمناورة على تهديد الفاشر وكذلك الولاية الشمالية.
أما نقطة القوة الأخيرة للدعم السريع فهي الدعم العسكري اللا محدود الذي تحصل عليه من دولة الإمارات عبر خط إمداد جوي عجزت القوات المسلحة السودانية عن قطعه، بل وُجهت تهم لقيادة الجيش بتجاهُل خطر الطائرات المُسيّرة الإستراتيجية (الإماراتية) مما تسبب في خسارة الجيش السوداني لأصول قيّمة في مجال الطيران أبرزها القاذفة سوخوي-24 التي دمرتها طائرة مسيرة إماراتية الشهر الماضي في قاعدة كرري الجوية بأمدرمان.
الحرب لم تنتهي بعد حتى و لو تم تحرير العاصمة كاملة
-المليشيا ومن خلفها الإمارات خاتين في بالهم نموذج أدلب السورية = التراجع مؤقتا وإعادة تنظيم الصفوف ، في انتظار اللحظة المناسبة لشن هجوم جديد
– وقتها لن تكتفي المليشيا بدارفور فقط ، فالدبة وكل مدن الشمال على بعد ساعات من…
— Yasser (@yasseralfadol) April 3, 2025
يشير المهندس ياسر فضل- مدون داعم للجيش السوداني- إلى أن فشل قيادة الجيش في توفير منظومات دفاع جوي للحماية من خطر الطائرات المسيرة الاستراتيجية، أدى إلى سقوط منطقة المالحة الإستراتيجية وإلى تجميد العمليات العسكرية في محور كردفان بسبب غياب التغطية الجوية.
ويلفت في الوقت ذاته إلى الخطر المتزايد لمطار نيالا (تسيطر عليه الدعم السريع) حيث يتم عبره نقل عناصر المليشيا إلى ليبيا للتدريب، وتهريب الذهب لتمويل العمليات الحربية، والنتيجة أن المليشيا تمكنت من تكوين قوات جديدة مدربة ومسلحة تسليحا جيدًا، بحسب فضل.
في وقت سابق، أظهرت صور أقمار صناعية التقطتها شركة ماكسار وحللتها وكالة رويترز وجود ثلاث طائرات مسيرة على الأقل وتشييد حظائر للطائرات في مطار نيالا بجنوب دارفور.
وأفاد باحثون من جامعة ييل الأمريكية بوجود طائرات مسيرة في المطار في يناير/كانون الثاني الماضي، بينما خلص تحليل أجرته شركة الاستخبارات الدفاعية جينز إلى أن الطائرات المسيرة الظاهرة في الصور صينية الصنع من طراز (سي.إتش-95) ذات القدرة على المراقبة بعيدة المدى وتوجيه الضربات على مسافة تصل إلى 200 كيلومتر.
منظومة دفاعية قادمة
بالإضافة إلى ما ورد أعلاه من حديث الضابط بالجيش السوداني عن بعد المسافة بين إقليم دارفور والولاية الشمالية (أكثر من ألف كيلومتر) وأن الطريق بينهما عبارة عن صحراء مكشوفة يسهل مراقبتها واستهداف تلك القوات عبر سلاح الطيران، فإن اختيار قائد ثاني الدعم السريع هذا التوقيت للحديث عن هجوم على ولايات الشمال يثير استفهامات واسعة، إذ كانت المليشيا قد توغلت في ولاية نهر النيل بالفعل خلال الأشهر الأولى بل وسيطرت على أجزاء واسعة من محلية حجر العسل على بعد 40 كلم تقريبًا من مدينة شندي إحدى أكبر المدن في ولاية نهر النيل.
وحتى قبل اندلاع الحرب في الخرطوم نفسها كانت الدعم السريع قد أرسلت مئات المركبات القتالية إلى مروي إحدى مدن الولاية الشمالية وسيطرت بالفعل على مطار المدينة والقاعدة الجوية هناك قبل أن يتم طردها بعد أيام قليلة.
يؤكد الرائد في الجيش السوداني لـ”نون بوست” أن المشكلة المتعلقة بمنظومة الدفاع الجوي قد اقترب حلها، مشيرًا إلى التأخير كان لأسباب موضوعية كان أبرزها محاولة عرقلة الصفقة من قبل دولة الإمارات التي حاولت من قبل إجهاض عدة صفقات تسلح للجيش السوداني بما في ذلك صفقة طائرات البيرقدار التركية.
ويلفت إلى أن الجيش والقوات المساندة له اقتربوا من إطلاق الخطة الخاصة بفك الحصار عن مدينة الفاشر موضحًا أن دقلو يعي ذلك وأن تصريحاته تأتي ضمن محاولة إثارة البلبة والتشويش على الخطة.
لا يوجد مشروع سياسي للدعم السريع
لا يملك الدعم السريع أي مشروع لحكم البلاد، فعندما اجتاحت عناصره مناطق واسعة في السودان، لم يسعوا إلى طمأنة المواطنين أو تقديم مشروع سياسي، بل تحولوا إلى أدوات قمع وحشية لممارسة القتل والنهب والاغتصاب بلا رحمة.
وأزمة الدعم السريع وقادتها مع المجتمعات السودانية لا تنحصر في تهديد ولايات الشمال المسالمة بعد مرارة فقدان العاصمة الخرطوم، بل بدأت فظائعهم القائمة على استهداف الإثنيات بعد شهور قليلة من اندلاع الحرب بارتكاب جرائم وحشية بحق عرقية المساليت في دارفور حيث قتلت منهم نحو 15 ألف شخص في مذابح قررت وزارة الخارجية الأمريكية أنها “إبادة جماعية” وفرضت بموجبها عقوبات على قائد الدعم السريع محمد حمدان “حميدتي” وشقيقه عبد الرحيم.
وما حدث في الخرطوم على يد الدعم السريع، يعدّ أكبر عملية نهب لعاصمة أفريقية، وربما لأي عاصمة في التاريخ الحديث، حيث لم يسلم شيء من النهب، من التراث الثقافي للبلاد إلى ممتلكات الأفراد، فقد تم إفراغ المتحف الوطني السوداني من كنوزه الأثرية التي تعود للحضارات النوبية والفرعونية، وما لم يكن بالإمكان حمله تم تدميره، وفقًا لما ذكرته صحيفة الغارديان البريطانية قبل أيام.
فإلى جانب القتل خارج القانون والعنف الجنسي والإذلال والإهانة، تعرضت منازل المواطنين للنهب وكذلك المتاجر والشركات.. سُرق كل شيء، من الأثاث إلى المتعلقات الشخصية، وحتى الأسلاك الكهربائية تم اقتلاعها لبيعها، تظهر الصور من المدينة بقايا السيارات، وقد نُزعت عجلاتها ومحركاتها بالكامل، بحسب المصدر السابق.
ويمكن أن نخلص إلى أن تهديدات عبد الرحيم دقلو تأتي في سياق عدة أهداف، منها تحويل الانتباه عن فرحة المواطنين السودانيين باستعادة العاصمة وشروع الحكومة في استقبال أهلها والبدء في استعادة الخدمات الأساسية، إلى جانب سعيه في استثمار الملاسنات وخطاب الكراهية من بعض الغرف التي تتبنى مخططات الإيقاع بين الجيش والقوة المشتركة لدارفور، فضلًا عن محاولته استقطاب عناصر المليشيا لإغرائهم باستهداف مدن جديدة يمكن نهبها والاستيلاء على ممتلكات المواطنين فيها.