لم تكن العلاقة بين اليمن وفلسطين يومًا علاقة تضامن عابرة أو انفعالًا وجدانيًا مؤقتًا، بل امتدت بجذورها إلى عمق التاريخ، واستندت إلى نوازع قومية وأخلاقية جعلت من فلسطين قضية حاضرة في الضمير اليمني، رغم الأزمات الداخلية والتحولات السياسية التي شهدها اليمن على مدى العقود.
ومع تصاعد معركة “طوفان الأقصى”، برز الدعم اليمني، بشقيه الشعبي والعسكري، كأحد أصدق وأقوى مظاهر الالتزام العربي بالقضية الفلسطينية، في لحظة تشهد فيها المنطقة فرزًا سياسيًا وانكفاءً لعديد من القوى الإقليمية.
هذا الموقف لم يكن وليد اللحظة، بل تراكم عبر تاريخ طويل من التفاعل والتضحيات المشتركة، ما جعل من اليمن إحدى البيئات العربية النادرة التي لم تنقطع عن فلسطين، لا وجدانيًا ولا ميدانيًا، رغم ما مرّ به من أزمات وصراعات.
من هنا، تكتسب المواقف اليمنية أهميتها وراهنيتها، باعتبارها نقطة ضوء في زمن الانقسام، ودليلًا حيًّا على أن الشعوب لا تزال تملك القدرة على تجاوز الجغرافيا والانتصار لمعركة الشرف، مهما بلغت التحديات.
بوصلة واحدة من سبأ إلى الشقيف
تعود جذور العلاقة بين اليمن وفلسطين إلى ما قبل نشوء الصراع المعاصر، بل إلى عمق الذاكرة الدينية والتاريخية، كما في قصة النبي سليمان وملكة سبأ التي وردت في القرآن الكريم والعهد القديم، وتشير بعض الروايات اليهودية إلى زواجهما وإنجابهما، ما يربط اليمنيين وجدانيًّا بأرض فلسطين منذ قرون سحيقة.
لكن هذا الارتباط تجلّى في العصر الحديث بشكل أوضح عبر الحضور الشعبي والسياسي اليمني الداعم للقضية الفلسطينية في محطاتها المفصلية، فمنذ نكبة عام 1948، سقط نحو 50 شهيدًا يمنيًّا في المعارك ضد الاحتلال، توزعوا بين يافا والقدس وغرب الخليل، واستشهد أحدهم داخل باحات المسجد الأقصى، كما وثّق المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتابه “نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1948-1952”.

وحضر اليمنيون في كل معارك الكرامة، من نكسة 1967، إلى “أيلول الأسود” عام 1970، وصولًا إلى اجتياح بيروت عام 1982، وقد استقبل اليمن، شمالًا وجنوبًا، مئات الفلسطينيين بعد خروج قوات الثورة من لبنان، وفتح لهم معسكرين بارزين: الأول قرب صنعاء تحت اسم “صبرا”، والثاني خارج عدن تحت اسم “شاتيلا”، في إشارة مباشرة إلى المجزرتين اللتين صدمتا الضمير العربي.
في تلك السنوات، استقرّت عشرات العائلات الفلسطينية في المدن اليمنية، وامتزجت بالبيئة الاجتماعية والثقافية، فيما شكّل المعلمون الفلسطينيون جزءًا مهمًّا من النهضة التعليمية اليمنية منذ سبعينيات القرن الماضي، بالتوازي مع توجه البلاد نحو بناء مؤسسات الدولة ما بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول.
أما في الميدان، فقد قاتل عشرات المتطوعين اليمنيين ضمن فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وكان لهم دور بارز في معركة قلعة الشقيف الشهيرة، التي باتت رمزًا لبطولات عربية متفرّدة، ولا يزال اليمنيون يذكرون أسماء شهدائهم هناك، مثل عبد الكريم الكحلاني (عبد القادر اليمني)، وأبو رعد اليمني، اللذين تقلّدا مهام قيادية، وأسقطا مروحية إسرائيلية تقل ضباطًا من هيئة الأركان في يونيو/حزيران 1982.
يقول معين الطاهر، قائد الكتيبة الطلابية في حركة “فتح”، في كتابه “تبغ وزيتون”: “تميّز المتطوعون اليمنيون بالصلابة والروح القتالية العالية… وقد تمكن أبو رعد ومجموعته من إسقاط مروحية إسرائيلية هوت محترقة مساء 6 يونيو 1982، على إحدى تلال النبطية…”.

كما كان لليمن موقف سيادي حازم في حرب أكتوبر 1973، حين أغلق باب المندب أمام السفن الغربية الداعمة للاحتلال، وشارك عسكريًّا في معركة تحرير سيناء، وهو موقف يتجدد اليوم، على المستويين الشعبي والرسمي، في مناصرة القضية الفلسطينية ومقاومتها.
في الانتفاضة الأولى في العام 1987، شهد اليمن حملات تضامن كبرى، ومهرجانات سياسية وثقافية حاشدة، وفي انتفاضة الأقصى في العام 2000، حضر اليمن بقوة معنويًّا وإعلاميًّا، حتى أن أسماء الشهداء الفلسطينيين خُلِّدت في شوارع اليمن ومدارسه، كما في حالة الشهيد الطفل محمد الدرة.
وفي خلال عدوان الاحتلال على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، خرج اليمنيون في مظاهرات واسعة، من تعز إلى عدن، ومن صنعاء إلى مأرب، كما أبدت الجالية اليمنية في الشتات تفاعلًا كبيرًا، بالمشاركة في المظاهرات، وبأنشطة إنسانية وإعلامية لدعم القضية الفلسطينية.
تكاد فلسطين تكون الامتحان الأصدق لما تبقَّى من عروبة حقيقية في شعوب المنطقة، وقد اجتاز اليمنيون هذا الامتحان لا بانفعالٍ عاطفي عابر، بل بموقفٍ أصيل ومتجذِّر، ظلّ ثابتًا رغم قسوة الحروب والانقسام الداخلي، ففي بلد أنهكته الحرب منذ أكثر من ثماني سنوات، ومزقته الصراعات والاصطفافات الحادة، برزت القضية الفلسطينية بوصفها قاسمًا مشتركًا نادرًا، استطاع أن يتجاوز حدود الخلاف السياسي والانقسام الجغرافي.
وعلى الرغم من الجوع، والانهيار الاقتصادي، وانعدام الاستقرار، خرج اليمنيون من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، موحَّدين خلف مظلومية غزة ومقاومتها، في مسيرات ووقفات وفعاليات امتدت من المدن الكبرى إلى البلدات الصغيرة والمناطق الريفية.
كان ذلك موقفًا يفيض بالانتماء العربي والإنساني، ويؤكد أن اليمن، رغم كل الجراح، لم يفقد بوصلته الأخلاقية، ولا صوته في الدفاع عن قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين.
اليمن يصوغ معادلته الخاصة في “طوفان الأقصى”
رغم محاولات العديد من الدوائر الإقليمية والدولية تفسير الإسناد اليمني للمقاومة الفلسطينية ضمن سياق الاصطفاف الإقليمي التقليدي، بوصفه نابعًا من موقع حركة “أنصار الله” (الحوثيين) داخل “محور المقاومة”، أو باعتبارها إحدى أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، إلا أن هذا التصنيف يبقى قاصرًا عن فهم طبيعة الالتزام اليمني تجاه فلسطين، الذي يتجاوز حدود التموقع السياسي الظرفي.
الدعم العسكري الذي تمارسه حركة “أنصار الله”، من خلال استهدافها لحركة الملاحة المرتبطة بموانئ الاحتلال الإسرائيلي، ليس إلا وجهًا من وجوه متعددة لهذا الالتزام، إذ يوازيه –بل ويعززه– إسناد شعبي وإعلامي وديني لا يزال مستمرًا بوتيرة عالية، ولم يتراجع حتى حين خفَّت حدَّة التصعيد في جبهات أخرى من الإقليم.
وعلى خلاف العديد من القوى المتحالفة مع إيران التي انكفأت ميدانيًّا تحت وطأة التفاهمات والتطورات الإقليمية، كما حدث في العراق ولبنان بعد التهدئة على جبهة “حزب الله”، حافظ اليمنيون على استمرارية الإسناد، شعبيًّا وميدانيًّا، دون أن يتأثروا بإيقاع المحور أو رسائل التهدئة الإقليمية.
وقد أشار هذا الثبات إلى نقطة مفصلية: أن الإسناد اليمني نابع من قناعة شعبية وعقيدة قتالية تتجاوز حسابات السياسة وتحالفاتها، حتى مع استمرار الضربات الأمريكية على مواقع “أنصار الله” (الحوثيين)، لم تُسجَّل أي مؤشرات على تراجع الحضور اليمني في معادلة الإسناد، بل على العكس، زادت تلك الضربات من زخم الخطاب الشعبي والرمزي داخل اليمن لصالح فلسطين.
وفي مواجهة محاولات الولايات المتحدة إخراج جبهة اليمن من معادلة الإسناد بالقوة العسكرية، يقول الواقع الجغرافي والتاريخي في اليمن شيئًا آخر؛ فالضربات الجوية، مهما بلغت كثافتها، تبقى محدودة التأثير أمام تضاريس اليمن المعقّدة، والبنية العسكرية التي نشأت وتصلّبت خلال سنوات من الحرب الطاحنة، وأُسّست ضمن منظومات أمنية متشابكة تحت الأرض.
ويمكن القول إن الإسناد اليمني لم يكن مجرّد تعبير عن تنسيق فوقي بين أطراف “المحور”، بل كان انعكاسًا لإجماع وطني ومجتمعي عميق على الانحياز لفلسطين، انحياز يتجاوز حدود التموضع السياسي الظرفي، ويستند إلى مخزون طويل من التفاعل والتضامن والتضحيات المتواصلة.
الحرب من وراء البحار
رغم أن اليمن يبعد أكثر من 2,200 كيلومتر عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم يشكّل البعد الجغرافي عائقًا أمام انخراطه الفعّال في معركة نصرة غزة، بل تحوّل إلى ميزة استراتيجية وظّفها اليمنيون بذكاء، لتوسيع دائرة الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، وفرض معادلات جديدة في واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا في الإقليم.
يقع اليمن في نقطة مفصلية على الخارطة الجيوسياسية، مُطلًا على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وتمنحه واجهته البحرية الممتدة لأكثر من 2,500 كم أهمية استراتيجية جعلته محط أنظار القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، إضافة إلى القوى الصاعدة كالصين وروسيا.
وفي ضوء هذه الجغرافيا الحساسة، أخذ الدور اليمني في معركة “الإسناد” بُعدًا دوليًّا، خاصة بعد سلسلة عمليات حركة “أنصار الله” (الحوثيين) التي استهدفت السفن المرتبطة بالاحتلال، لتنعكس بشكل مباشر على أمن الملاحة العالمي.

وجاء الرد الأمريكي بمحاولة تطويق هذا الدور، عبر استصدار قرار مجلس الأمن رقم 2722، لمنح واشنطن ولندن غطاءً شرعيًّا لتحويل البحر الأحمر إلى ساحة عسكرة مفتوحة تحت شعار “حماية الملاحة”، بينما الهدف الحقيقي كان الحد من النفوذ الصيني والروسي في هذا الممر الحيوي.
غير أن الرد اليمني فاق التوقعات؛ إذ أطلقت صنعاء ترسانة غير مسبوقة من الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيّرة التي وصلت إلى عمق “إيلات”، وتدرجت عملياتها من حصار انتقائي للسفن الإسرائيلية إلى حصار شبه كامل لكل سفينة متجهة إلى موانئ الأراضي المحتلة، ثم تطورت إلى ضربات مباشرة داخل فلسطين المحتلة.
الأهم من ذلك أن اليمن كسر قواعد الاشتباك الكلاسيكية؛ فبدلًا من أن يشكّل البُعد الجغرافي عبئًا، جرى استثماره كميزة تكتيكية أتاحت توسيع مجال العمليات، وضرب أهداف استراتيجية بعيدة، مع تقليل الخسائر المرتدة بفعل المسافة. وبهذا المعنى، لم يكن اليمن في مواجهة مباشرة مع “إسرائيل”، لكنه نجح في تحويل موقعه البعيد إلى منصة هجومية فتحت جبهة استنزاف غير متوقعة.
لقد شكّل هذا الدور علامة فارقة في ميزان معركة “طوفان الأقصى”، إذ أسهم في خلخلة الأمن البحري الإسرائيلي، ووسّع من رقعة الضغط على الاحتلال، وأربكه أمام جمهوره الداخلي والعالمي، بعدما جاء الحصار من أقصى الجغرافيا، ليفضح هشاشة “الموقع الآمن” الذي طالما تغنّت به العقيدة الأمنية الإسرائيلية.
الإسناد الذي لا ينكسر
يمكن الجزم بأن الإسناد اليمني للشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة لم يكن مجرّد اصطفاف سياسي، ولا استجابة لحسابات إقليمية متحركة، بل تجسيدًا صادقًا لالتزام أخلاقي ووطني وقومي راسخ، يعكس جوهر التاريخ اليمني الأصيل، وعمق العلاقة التي نسجها اليمنيون مع القضية الفلسطينية عبر الأجيال.
وعلى الرغم من سعي الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه، عبر الهجمات الأمريكية المتواصلة، إلى إخراج اليمن من معادلة الإسناد، فقد تجاوز اليمنيون حدود التضامن الشعبي والخطاب السياسي، وقدموا دماءهم وتضحياتهم، مثبتين أنهم ليسوا على هامش المعركة، بل في قلبها، كتفًا إلى كتف مع مقاومة غزة.
إن شعبًا كالشعب اليمني، المثقل بجراحه الداخلية، والمثابر على الصمود رغم الحرب والحصار والانقسام، لم يتراجع عن نصرة فلسطين، بل جدّد انحيازه النقي في لحظة تاريخية فارقة، وكتب بأفعاله أن القضية الفلسطينية ستبقى بوابة الإجماع العربي، ومفتاح العروبة الأصيلة، وملح قضايا الأمة.
ومن اليمن، الذي مثّل دومًا عمقًا استراتيجيًّا للعروبة، تنبع رسالة واضحة: أن فلسطين لم تُهزَم، وأن الشعوب الحيّة –مهما اشتدت ظروفها– قادرة على صناعة الفارق، حين تملك البوصلة الأخلاقية والإرادة السياسية والوعي التاريخي.