أصدر وزير الخارجية في الحكومة السورية الجديدة، مساء البارحة، قرارًا يقضي بنقل سفيري سوريا في كل من روسيا والسعودية إلى الإدارة المركزية، في خطوة تهدف لإعادة ترتيب المشهد الدبلوماسي السوري وتنحية الأسماء المرتبطة بمرحلة النظام الأسدي التي شكّلت جزءًا من واجهته السياسية والدبلوماسية، وكانت بمثابة أذرعٍ ناطقة باسمه في المحافل الدولية.
وقد تصدّر مشهد الدبلوماسية السورية لأكثر من عقد، عدد من الوجوه التي دافعت عن النظام بشراسة، رغم اتساع رقعة المجازر التي ارتكبها بحق السوريين، ورغم توثيق تلك الجرائم من قبل أبرز المنظمات الحقوقية والإنسانية في العالم، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” والأمم المتحدة، والتي بني عليها قوانين دولية وعقوبات تاريخية، أبرزها قانون قيصر الأميركي.
وسط هذا المشهد، يبرز اسم بشار الجعفري كواحد من أكثر الشخصيات ترويجًا لخطاب نظام الأسد وجزء أساسي من آلته الدعائية، فلم يكن مجرد موظف يؤدي مهامه، بل كان دبلوماسيًا شديد الولاء للنظام، تبنّى روايته دون تردد، ونافح عنه في كل محفل دولي، كما عمل لسنوات في إنكار عمليات القتل الجماعي، وتشويه صورة الثورة والشعب السوري أمام المجتمع الدولي.
سيرة حافلة بالكذب والخزي
وُلد بشار الجعفري في دمشق عام 1956. وتختلف المصادر حول خلفيته الطائفية، إذ تشير بعض الروايات إلى انتمائه إلى الطائفة العلوية، فيما تذكر أخرى أنه من الشيعة الإثني عشرية، دون تأكيد قاطع. يحمل الجعفري إجازة في الأدب الفرنسي من جامعة دمشق، ودبلومين في الترجمة والعلوم السياسية من فرنسا، ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ستراسبورغ، وأخرى في تاريخ الإسلام من جامعة صنعاء.
بدأ مسيرته بين عامي 1991 و 1994 كـسكرتير أول ومستشار في البعثة السورية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم وزيرًا مستشارًا في السفارة السورية بباريس عامي 1997 – 1998، قبل أن يُعين قائمًا بالأعمال في إندونيسيا حتى عام 2002. وفي العام نفسه تولى إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية، ثم أصبح في عام 2004 مندوبًا دائمًا لسوريا في مقر الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف، حتى انتقل إلى منصب المندوب الدائم في نيويورك عام 2006 خلفًا لفيصل المقداد.
ورغم سنوات عمله في الحقل الدبلوماسي، لم يحضر اسمه إعلاميًا وثقافيًا إلا مع انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار 2011، حيث وجد النظام في الجعفري ما يشبه “المتحدث الرسمي باسم آلة القمع” دوليًا، فجاءت خطبه من على منبر الأمم المتحدة مليئة بنَفَس التحدي، والإنكار، والدفاع المستميت عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين السوريين.
هذا ما أهله منصب “كبير المفاوضين” في مؤتمر جنيف 2 عام 2014، واحتفظ بدوره هذا في الجولات اللاحقة خلال عامي 2015 و 2016، حيث سعى بكل الطرق إلى تعطيل أي تقدّم سياسي يمكن أن يمنح المعارضة السورية شرعية أو اعترافًا دوليًا.
وفي يناير/ كانون الثاني عام 2022، عيّنه بشار الأسد سفيرًا لسوريا لدى روسيا، الحليف الأكبر للنظام، حيث استمر في أداء الدور نفسه، لكن من موسكو بدلًا من نيويورك.
منبر لتبرير المجازر
منذ لحظة اندلاع الثورة السورية، تحوّل منبر الأمم المتحدة إلى أداة في يد النظام السوري لإعادة صياغة الأحداث وفق روايته، وكان بشار الجعفري هو الصوت الأعلى لهذا الخطاب، مبررًا قصف السوريين وتجويعهم وقتلهم، معتمدًا على مفردات ثابتة لم تتغير طوال 14 عامًا: “مؤامرة كونية”، “جماعات إرهابية”، “حق الدولة في الدفاع عن نفسها”.
2012: شرعنة الفيتو وتبرير العنف
في 5 فبراير/شباط 2012، وبعد أن استخدمت روسيا والصين أول فيتو ضد قرار يدين النظام السوري، خرج الجعفري في جلسة عاصفة لمجلس الأمن مهاجمًا كل من عارض النظام. فشنّ هجومًا لفظيًا على الأمم المتحدة ودول الخليج وقناة الجزيرة، واصفًا القرار الدولي بأنه تدخل سافر في الشؤون الداخلية. في تلك الفترة، كانت المدن السورية، وعلى رأسها حمص وحماة، تتعرض لقصف عنيف، لكن الجعفري أصرّ أن ما يحدث هو “حرب على الإرهاب”، دون أي إشارة للضحايا المدنيين الذين وثّقت مقتلهم كبرى المنظمات الدولية.

2013: إنكار الكيماوي في الغوطة
في 21 أغسطس/آب 2013، استيقظ العالم على واحدة من أبشع جرائم الحرب في التاريخ: مجزرة الغوطة الشرقية بالسلاح الكيميائي، التي راح ضحيتها نحو 1400 مدني، بينهم مئات الأطفال. وفي جلسة مجلس الأمن الطارئة، ظهر الجعفري وهو ينكر تمامًا تورط النظام، بل اتهم المعارضة بتنفيذ الهجوم لتوريط الحكومة، متحدثًا عن “مسرحية إعلامية مفبركة”.
2014: المراوغة في مفاوضات جنيف
في يناير/كانون الثاني 2014، تولى الجعفري مهمة “كبير المفاوضين” باسم النظام في مؤتمر جنيف 2، وهي أول محاولة تفاوضية بين النظام والمعارضة برعاية أممية. وخلال الجلسات، تمسّك الجعفري برواية أن “المعارضة مجموعة إرهابيين”، ورفض الاعتراف بأي مسار سياسي يتضمن انتقالًا للسلطة أو حتى اعترافًا بشرعية الطرف الآخر. كان يكرر حرفيًا ما يقوله الإعلام الرسمي السوري: لا ثورة في سوريا، بل حرب على الإرهاب.
2015-2016: حلب ومضايا والحصار
في 2015، برز الجعفري مدافعًا عن سياسات الحصار والتجويع، التي فرضها نظام الأسد و”حزب الله” على مدينة مضايا، بعد زرع حقول ألغام في محيط المدينة، ونشر القناصة على كافة الطرق المؤدية إليها، لتدخل التاريخ كواحدة من المدن التي تعرضت لـ “التجويع الممنهج”، فيما أنكر الجعفري أي وجود لأي أزمة إنسانية، متعللًا بأن “التنظيمات الإرهابية” هي من تسرق مساعدات الحكومة وتمنع توزيعها.
أما في حلب عام 2016، فدافع الجعفري عن الحصار الشامل الذي فرضته قوات النظام بالتزامن مع الهجوم الجوي الذي شنته روسيا، واصفًا العمليات العسكرية بـأنها عمليات “تحرير المدينة من الإرهابيين”. منكرًا آلاف الصور والتقارير القادمة من الأحياء الشرقية لحلب، ومصرًا على سردية أن كل من يتواجد هناك هو عضو في “جبهة النصرة الإرهابية”.
2016: التزوير أمام مجلس الأمن
في جلسة مجلس الأمن بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2016، وبينما كانت المجازر مستمرة في أحياء حلب الشرقية، عرض الجعفري صورة لجندي يساعد نازحة على النزول من شاحنة، زاعمًا أنها تُجسّد “إنسانية” الجيش السوري. لكن سرعان ما تبيّن أن الصورة ليست من سوريا، بل من العراق، وأن الجندي الظاهر فيها ينتمي للجيش العراقي، في محاولة مكشوفة لتزييف الواقع وتجميل صورة جيش كان يقوم بإبادة المدنيين.
خصم شخصي للعالم
اتّبع الجعفري بشكل عام نهجًا متعاليًا في التعامل مع مسؤولي المنظمة الدولية، وممثلي الدول الكبرى، وحتى مبعوثي الأمم المتحدة أنفسهم. إذ بدا في كثير من الأحيان كمن يقود معركة شخصية باسم النظام السوري ضد العالم أجمع، مستخدمًا أدواته البلاغية ولغاته الأربع (العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الفارسية) في خطب هجومية مليئة بالسخرية والاتهام والتشكيك.
على سبيل المثال، هاجم الجعفري في 5 فبراير/شباط 2012، وبعد أن أسقط الفيتو الروسي-الصيني مشروع قرار عربي-أوروبي يهدف لحل الأزمة السورية سياسيًا، الأمم المتحدة نفسها، ودول الخليج العربي، وقناة الجزيرة، متهمًا الجميع بالعمل على “تدمير سوريا عبر بوابة التدخل الدولي”. حيث بدأ في ذلك الخطاب ما يمكن وصفه بنهج دائم يقوم على التهكم، التشكيك، وشيطنة كل من يعارض النظام.
ووجّه اتهامات متكررة إلى الأمين العام الأسبق بان كي مون بالانحياز، بل واتهمه بترديد “كلام المعارضة المسلحة”. كما هاجم المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أكثر من مرة، ورفض مبادراته لوقف إطلاق النار، معتبرًا أنه “يتحدث باسم الإرهابيين”.
كما تساءل بسخرية في إحدى جلسات مجلس الأمن عام 2016 عن اعتماد مبعوث الأمم المتحدة على تقارير قناة الجزيرة، قائلًا: “هل أصبح مبعوث الأمم المتحدة موظفًا إعلاميًا في قناة الجزيرة؟”
وفي جلسة مجلس الأمن في أكتوبر/تشرين الأول 2016، كان الجعفري في ذروة استفزازه الخطابي، إذ وصف مقاتلي المعارضة السورية بأنهم “إرهابيون معدّلون وراثيًا”، في استعارة مبالغ فيها تعكس أسلوبه في التحقير والتجريد من الإنسانية، كما وجه في الجلسة نفسها، خطابًا هجوميًا إلى ممثلي الولايات المتحدة وفرنسا، قائلًا:
“لماذا لم تفتح حكومة بلادكم ممرًا إنسانيًا لإرهابي فلوريدا؟ ولماذا لم تُزوّدوا منفذي هجوم باتاكلون بالغذاء والدواء؟ أليست هذه ازدواجية معايير؟”
ضمن سلسلة من محاولات حثيثة لتحويل الجلسات الأممية إلى ساحة صراع لغوي، ينتصر فيها بالشعارات والشتائم لا بالوقائع.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وبعد أن وجّه مندوب السعودية عبد الله العليمي انتقادات حادة للنظام السوري، رد الجعفري بطريقة غير مسبوقة في الخطاب الدبلوماسي، ملقيًا أبياتًا شعرية هجومية مليئة بالتجريح السياسي والشخصي مرددًا:
أوليس يكفينا العراق وبؤسه… لنسلّم الفيحاء للزعران
من باع للشيطان نخل عراقنا… هو من يبيع الشام للجرذان
لولا الخيانة من قبائل يعرب… ما كانت الغربان في بغدان
لا تنتظر من ضمير العرب قعقعة… هذا الضمير بذبح الشام منشغل
محوّلًا الجلسة إلى منبر هجاء وتفاخر بمهاراته اللغوية مبعدًا الحضور عن الهدف الأساسي للجلسة ألا وهو استمرار الجرائم بحق الشعب السوري.
وكانت آخر محاولاته البائسة أن وجّه إهانة مباشرة لرئيس وفد المعارضة محمد علوش في مارس/آذار 2016، قائلًا: “لن أقبل الجلوس معه إلا إذا حلق لحيته”، رافضًا الاعتراف بأي طرف سوري معارض كمكوّن سياسي شرعي.
ومتأخرًا 14 عامًا، ظهر بشار الجعفري -بعد تحرير سوريا- وقد تخلى عن نبرة الولاء المعتادة، موجّهًا انتقادًا لاذعًا لرئيسه الهارب بشار الأسد.
وفي مقال نشره بمجلة الشراع اللبنانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حمّل فيه الأسد وزوجته مسؤولية الخراب، منتقدًا فساد عائلته وصمت هروبه. فيما بدا تعبيرًا عن إحساسه بالخيانة بعد أن قضى سنواته يدافع عن عائلة الأسد بكل ما أوتي من خطابة، مهاجمًا المعارضة، ومُهللًا لـ”سيدة الياسمين”. لكن المفارقة أن الجعفري، الذي كذب بدم السوريين، اختار أخيرًا أن يكذب على نفسه، محاولًا غسل يديه من نظام لم يترك له حتى فرصة الاعتذار.