في خطوة تهدف لفرض تغييرات جوهرية في سياسات الحكومة السورية، سلّمت واشنطن للحكومة السورية قائمة مطالب، تتصدرها قضية تدمير أي مخزون متبقٍ من الأسلحة الكيميائية، وتعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، وإزاحة المقاتلين الأجانب من مراكز النفوذ داخل السلطة السورية، مع ضمان حرية الأقليات.
ولم تكتفِ إدارة ترامب بهذه المطالب الأمنية، بل شددت على ضرورة إحراز تقدم في ملف يشكل أهمية قصوى بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية وهي قضية الصحفي الأميركي أوستن تايس، المختفي في سوريا منذ أكثر من عقد، إذ طالبت واشنطن بتعيين ضابط ارتباط رسمي للمساعدة بفك لغز الصحفي المختفي.
قائمة المطالب الأمريكية التي سلّمتها مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، ناتاشا فرانشيسكي، لوزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في اجتماع شخصي على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل مارس/ آذار الفائت، جاءت كشرط لتخفيفٍ جزئي للعقوبات الأمريكية التي فرضت على مدى سنوات الثورة السورية ضد النظام البائد وأركانه، وأدت إلى شلل كبير في مفاصل الدولة، لما كان لها من أثر سلبي على القطاعات الاقتصادية والمالية والتجارية والبنوك السورية، إضافة إلى تقييد ملف إعادة الإعمار ومنافذ التمويل الدولية ومصادر الطاقة.
وباعتبار أن رفع هذه العقوبات يشكل ضرورة حتمية لإنعاش الاقتصاد السوري، تتجه الأنظار إلى كيفية رد دمشق على هذه المطالب، وما إذا كانت ستتعامل معها بمرونة لتخفيف القيود الاقتصادية والسياسية، أم أنها ستناور سياسيًا مستفيدة من أوراقها في سبيل تحصيل مكاسب أكبر.
توقيت المطالب
يحمل تقديم واشنطن لهذه المطالب إلى دمشق دلالات سياسية مهمة، خاصة أنه يأتي في ظل التغييرات التي تشهدها الإدارة الأميركية مع تسلّم دونالد ترامب الرئاسة حديثًا، ورغبته في محاولة إعادة رسم العلاقة مع دمشق وفق رؤية مختلفة، عما كانت عليه توجهات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن.
وليس خافيًا التنسيق الاستخباراتي والأمني بين الطرفين السوري والأمريكي، والذي ظهر عبر التعاون الثنائي في إفشال مخطط تنظيم داعش في استهداف مقام السيدة زينب، خلال الفترة التي تلت سقوط النظام، إضافة إلى التنسيق بين الإدارة الجديدة وقوات قسد والذي لم يأت من فراغ، بل جاء برعاية أمريكية شمال شرق سوريا.
وسبق للرئيس الأمريكي ترامب أن عبّر مرارًا عن رفضه التورط في الحروب الخارجية، وتركيز سياسة إدارته في الشرق الأوسط على احتواء إيران، ومنع عودة تنظيم الدولة “داعش”، وتجنب الحاجة لنشر قوات أميركية على الأرض.
إلا أن تلك الملفات لا يمكن أن تنفصل عن الملف السوري، وهو ما ظهر جليًا في قائمة المطالب الأمريكية والتي يبدو أنها مهتمة بمنح دمشق فرصة لتنفيذها، فالمناخ السوري المضطرب، قد يمهد لظهور تنظيم الدولة من جديد، وإثارة إيران الفوضى عبر وكلائها.
حسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن أهداف ترامب باحتواء إيران ومنع عودة داعش لا يمكن تحقيقها إلا بسوريا آمنة ومزدهرة، والتي ليس من مصلحة الولايات المتحدة إضعافها.
أشارت الصحيفة إلى أنه يمكن للولايات المتحدة كبح جماح دول أخرى، بما فيها الحلفاء، الذين حاولوا تقسيم سوريا وإضعافها أكثر. فقد ورد أن “إسرائيل” ضغطت على الإدارة الأميركية لإبقاء سوريا ضعيفة والسماح لروسيا بالحفاظ على قواعدها، ولكن حتى لو أصرت “إسرائيل” على أن سوريا مقسمة أفضل لأمنها القومي، فإن ذلك لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، باعتبار أن سوريا تمثل فرصة للولايات المتحدة لاستقرار قلب الشرق الأوسط.
لا يخفى أن هناك تيارًا متشددًا أمريكيًّا يتجه إلى عدم الانخراط مع الإدارة السورية الجديدة وعدم إعطائها أي فرصة، مفضلًا إبقاء العقوبات عليها باعتبار أن الإدارة السورية الجديدة هي من رحم هيئة تحرير الشام التي ما زالت مصنفة على لوائح الإرهاب.
كما يوجد تيار آخر ينظر إلى ضرورة الانفتاح مع الإدارة السورية الجديدة ورفع العقوبات عنها واختبار إمكانية تحقيق تقدم معها في بعض القضايا العالقة عبر الضغط الدبلوماسي بداية، مع التأكيد على أن الانخراط مع الشرع من دون شروط واضحة سيعيد واشنطن إلى نمطها السابق من دعم الأطراف الخطأ.
تشير مجلة “ناشيونال إنترست” إلى أن الموقف الأمريكي أصبح أكثر تعقيدًا خصوصًا بعد دخول شريكتها المحلية أي قوات سوريا الديمقراطية في اتفاق مع جماعة الشرع، هيئة تحرير الشام، فحتى الآن لم تعلن إدارة ترامب سياستها تجاه سوريا، وهو ما يُعد خطوة حكيمة، خصوصًا مع تعدد الوفود الدولية (بما فيها إدارة بايدن قبل انتهاء ولايتها) التي تسعى للتواصل مع الحكومة السورية الجديدة.
بالمقابل، وبينما تدرس الإدارة خياراتها، فإن هناك إجماعًا متزايدًا في واشنطن والمجتمع الدولي على أن “العدو الذي نعرفه أفضل من العدو الذي لا نعرفه”، وبالتالي هناك دعوات للتقارب مع الشرع كما فعلت بعض الدول الأوروبية، تجنبًا لاحتمال تحالفه مع خصوم واشنطن.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى مسؤول السياسات في المجلس السوري الأمريكي، محمد علاء غانم، أن الولايات المتحدة ما زالت تفتقر إلى سياسة واضحة المعالم بالنسبة للشأن السوري يشترك فيها الرئيس وتوافق عليها الحكومة، فهناك جدل دائم في أروقة البيت الأبيض وتيارات متعددة لديها آراء متباينة حول الملف السوري منها ما هو متشدد ومنها ما ينظر للمشهد السوري بأكثر مرونة وديناميكية.
ويعتبر غانم أن تقديم هذه المطالب من وزارة الخارجية الأمريكية لدمشق مقدمة لخارطة طريق أمريكية من أجل بلورة سياسة تجاه سوريا بعد سقوط الأسد، وتحديد شكل العلاقات بين الجانبين وما إذا كان يمكن البدء برفع العقوبات التي حظيت بجدل كبير ونقاش بين السياسيين الأمريكيين ما بين رافض ومشجع.
تفاعل الحكومة السورية
يمكن اعتبار الانفتاح السياسي الأمريكي على سوريا أنه لصالحها، فالإدارة السورية الجديدة تبحث عن تعزيز الشرعية الدولية التي قد تعطيها مساحة أكبر للمناورة في المفاوضات الدولية بشأن مستقبل سوريا.
عدا عن رغبتها في تعافي قطاعات البلاد، وتخفيف العقوبات الاقتصادية التي ستساعد في إنعاش الاقتصاد السوري المتدهور، إضافة إلى إعادة الانخراط في المشهد الدولي وما يرافقه من تحسين صورتها دبلوماسيًا.
وبالنظر إلى ذلك يمكن القول إن الإدارة الجديدة تتجه للتفاعل إيجابًا مع مطالب إدارة دونالد ترامب، إلا أنه من المرجح أن تتبع استراتيجية حذرة لتحصيل مكاسب ملموسة وسريعة، في ظل عدم الوضوح في مدى التخفيف الجزئي أو محدود للعقوبات أو المدة الزمنية التي ستحتاجها دمشق.
يشير قتيبة إدلبي، وهو باحث في برامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي، في حديثه مع “نون بوست”، إلى أن المطالب الأمريكية واقعية وبمعظمها صمّمت لكي تكون فاتحة للتفاعل بين دمشق وواشنطن، ولاسيما أن دمشق ملتزمة أصلًا بهذه المطالب كتدمير السلاح الكيمياوي ودعم التحالف ضد تنظيم داعش، وبالتالي فإنه سيكون هنالك تفاعل إيجابي من دمشق مع هذه المطالب.
ويتفق غانم مع الباحث إدلبي في أن الكثير من هذه المطالب معقول وغير تعجيزي، ومن الممكن تنفيذها، إلا أنه على دمشق وباعتبار أنه لم تتبلور سياسة أمريكية فعلية تجاهها حتى الآن من جهة، وحتى لا تقدّم دمشق أي مطلب أمريكي بالمجان من جهة أخرى، يجب أن يكون هناك إطار واضح ودقيق يلزم واشنطن أيضًا بتنفيذ تعهداتها في حال تنفيذ المطالب.
ورأى أن الإدارة السورية الجديدة منذ تسلمها زمام الحكم في سوريا قدمت الكثير من حيث طرد الميليشيات الإيرانية من سوريا وتقويض النفوذ الروسي وإيقاف تهريب المخدرات، وهذا يجب أن تكافأ عليه سوريا بشيء أكبر من قبل الولايات المتحدة التي لم تقدم إلا الشيء القليل، كتعليق بعض العقوبات لفترة ستة أشهر.
ملف المقاتلين الأجانب؟
يعدّ ملف المقاتلين الأجانب واحدًا من أهم الملفات الموضوعة في قائمة المطالب الأمريكية بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، نظرًا للعلاقات التي تربطها بهؤلاء المقاتلين والذين باتوا يمثلون ركيزة أساسية في هيكل الحكومة الجديدة.
وكانت القيادة السورية الجديدة خلال الشهر الأول من إسقاط النظام، قد عيّنت بعض المقاتلين الأجانب في مناصب رفيعة ضمن مرتبات وزارة الدفاع بالجيش السوري الجديد، كعبد العزيز داود خدابردي، وهو من الأويغور من منطقة شينجيانغ الصينية، الذي تمّ تعيينه برتبة عميد، إضافةً إلى مولان طرسون عبد الصمد وعبد السلام ياسين أحمد، اللذَين حصلا على رتبة عقيد.
ووفق حديث للرئيس السوري أحمد الشرع، فإن “المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون في صفوف المعارضة المسلحة يستحقّون المكافأة، إذ ساعدوا هيئة تحرير الشام في الإطاحة بنظام بشار الأسد”.
وسبق لنون بوست أن نشر تقريرًا، أشار فيه إلى أن مشكلة المقاتلين الأجانب ستبقى حاضرة تجاه حكومة “الشرع”، عبر الضغوط الأوروبية والأمريكية، إلا أنها معضلة وذريعة جرى تضخيمها جدًّا في سوريا، فهي ليست بهذه الخطورة التي تُصوّرها الأطراف، إذ أن هناك مبالغة في وصف الأدوار التي يلعبها هؤلاء الأجانب ولو تسلّموا مناصب عليا في الدولة.
ومن المعلوم أن المقاتلين “الإيغور” (الكتلة الصلبة والأكبر) مرفوعون من قائمة الإرهاب الأمريكية باعتبار أن عداءهم مع الصين، كما يتميزون بعلاقات جيدة مع الحكومة التركية.
حسب الباحث إدلبي، فإن الطلب الأصعب على إدارة دمشق هو المتعلق بملف المقاتلين الأجانب مع اعتبار أن الطلب الأمريكي لا يتعلق بالمقاتلين الأجانب كافة، وإنما تمّ طلب بعض التغييرات المتعلقة بأسماء معينة.
وشدد على أنه يجب على دمشق النظر بكل المطالب وخاصة في هذا المطلب الحساس بالنسبة للولايات المتحدة، لأنه يشكّل نقطة بداية لمسار تفاوضي ما بين واشنطن ودمشق، وعليه يمكن رسم انطباع مستقبلي عن العلاقة بين الطرفين.
ختامًا.. إن استجابة دمشق للخطوات الأمريكية الملموسة ستكون ضمن حسابات دقيقة بحيث لا تؤثر على توازناتها الداخلية من جهة، وتهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية حقيقية من الإدارة الأميركية من جهة أخرى، لكن المتفق عليه أن عامل الوقت والمناورة السياسية الطويلة إن سلكتها الإدارة الجديدة لن تكون في صالح البلاد التي تعاني على كل الصعد.