تدخل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين منعطفًا جديدًا من التوتير والضبابية في أعقاب الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الواردات الصينية والتي وصلت إلى 104% في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
واستهدفت التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي في 2 أبريل/نيسان الجاري قرابة 184 دولة إضافة إلى أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ 27، من بينهم 60 شريكا تجاريًا للولايات المتحدة، بنسب تتراوح بين 11 – 50%، فيما جاءت الصين استثناءً لتلك القاعدة بعدما خضعت منتجاتها لضريبة نسبتها 104% بعدما كانت 54% الأسبوع الماضي.
وأحدث هذا التصعيد ردود فعل قاسية، إذ أسفر عن هزة عنيفة في أسواق المال والأعمال، وسط تحذيرات من اندلاع حرب تجارية قاسية، تقوض منظومة الاقتصاد العالمي، وتضع اقتصاديات الدول دون استثناء في مهب الريح، وفي المقابل خرجت مناشدات عاجلة تطالب واشنطن بإعادة النظر في مثل تلك القرارات التي تنعكس سلبًا على الجمع.
وبينما بدأ النظام الاقتصادي العالمي يتنفس الصعداء نسبيًا بعد التصريحات المنسوبة لمدير المجلس الاقتصادي الوطني، كيفن هاسيت، الخاصة بدراسة إدارة ترامب تعليق التعريفية الجديدة لمدة 90 يومًا، إذ بالبيت الأبيض ينفي صحة تلك التقارير، مؤكدًا إصرار أمريكا على تنفيذ تلك الرسوم ودخولها حيز التفيذ فعليًا.
في هذه الإطلالة؛ نجيب عن 6 أسئلة تشرح معركة الرسوم الجمركية الحالية وتداعياتها على الاقتصاد الأمريكي والصيني من جانب، وعلى خارطة الاقتصاد الدولي من جانب آخر، بجانب انعكاساتها وتأثيراتها المحتملة على مسار الحرب التجارية بين البلدين وسيناريوهاتها المستقبلية.
ما الذي أشعل المعركة مجددًا؟
كثيرًا ما لوح ترامب منذ بداية ولايته الثانية في يناير/كانون الثاني الماضي بفرض رسوم جمركية على الصين كأحد أنوع الضغوط الممارسة لتقليم نفوذها الاقتصادي وتحقيق التوازن الجمركي بين البلدين، وبالفعل بدأ تنفيذ ذلك عمليًا في منذ فبراير/شباط الماضي، غير أن الخطوة الأكثر إثارة كانت في الثاني من أبريل/نيسان نيسان الجاري حين فرض تعريفات جمركية جديدة على بكين بنسبة 34% دفعة واحدة.
بتلك النسبة يصبح إجمالي الرسوم المفروضة على البضائع الصينية التي تستوردها الولايات المتحدة 87% (54% نسبة سابقة بجانب 34% النسبة الجديدة) وهو ما أثار حفيظة الصينيين الذين وصفوا الخطوة بأنها “خطأ تلو الآخر” كما جاء على لسان المتحدثة باسم وزارة التجارة الصينية، التي تعهّدت بتصعيد ردّها الانتقامي على الصادرات الأمريكية.
وردًا على هذا التهديد الصيني، توعّد ترامب بفرض 50 نقطة إضافية بدلًا من 34 نقطة على الرسوم الجمركية إذا ردت بكين ونفذت تصعيدها، وهذا ما حصل عمليًا، حيث تعاملت الصين بالمثل، وفرضت رسومًا على السلع الأميركية بنسبة 84% ابتداء من الخميس 10 أبريل/نيسان الجاري، ما دفع الرئيس الأمريكي لتنفيذ تهديده ليبلغ إجمالي التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية التي تستوردها أمريكا 104%.
ما دوافع ترامب من وراء هذا التصعيد؟
بتلك التعريفات غير المسبوقة، والأكبر في التاريخ كدفعة واحدة، يترجم ترامب عمليًا شعاره الذي رفعه خلال حملته الانتخابية “أمريكا أولًا”، وهو الشعار الذي لأجله أعلن الرئيس الأمريكي الحرب التجارية على الجميع، الحلفاء قبل الخصوم، مُرسخًا لسياسة جديدة عنوانها “الحمائية قبل أي شيء” ومصلحة أمريكا فوق كل اعتبار.
ينطلق ترامب من هذا التصعيد من قاعدة “المعاملة بالمثل” حيث تفرض الصين وغيرها من الدول رسومًا جمركية مرتفعة على السلع الأمريكية أكبر بكثير من تلك التي تفرضها الولايات المتحدة على البضائع الأجنبية، وهو ما أدى في النهاية إلى خلل في الميزان التجاري بين أمريكا وبقية الدول، لصالح الدول الأخرى بطبيعة الحال، وهو ما يمنحها التفوق والأفضلية التي تؤثر على الاقتصاد الأمريكي في مجمله.
وتشير البيانات الواردة عن مكتب التمثل التجاري الأميركي (USTR) إلى أن حجم التبادل التجاري في السلع بين الولايات المتحدة والصين عام 2024 بلغ نحو 582.4 مليار دولار، حيث بلغت الصادرات الأميركية إلى الصين حوالي 143.5 مليار دولار، مقابل 439.9 مليار دولار إجمالي الواردات الأميركية من الصين، ما يعني ميل العجز التجاري لمصلحة الصين بواقع 295.4 مليار دولار.
هذا الرقم الكبير في العجز التجاري بين البلدين والذي يميل لصالح بكين يكشف بشكل أو بأخر أن محاولات واشنطن تقليل الاعتماد على السلع الصينية من خلال فرض رسوم جمركية جديدة عليها لم تُحقق أهدافها المرجوة، فرغم الضغوط الممارسة على الصين إلا أن إنتاجها المحلي في تصاعد مستمر، حيث بلغ العام الماضي حوالي 134.91 تريليون يوان (18.8 تريليون دولار أميركي)، لتبقى في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة، بحسب بيانات منصة تشاينا بريفينغ.
وساعد هذا الثقل الاقتصادي الكبير في تنويع شبكة وخارطة العلاقات الصينية العالمية، إذ تُعد الصين حاليًا أكبر دولة مصدّرة في العالم (بلغت قيمة صادراتها في عام 2024 نحو 3.58 تريليونات دولار، بزيادة 5.9% عن العام السابق، أما وارداتها فبلغت 2.59 تريليون دولار، وذلك يعني تحقيق فائض تجاري تجاوز 822.1 مليار دولار أميركي)، وتُقيم علاقات تجارية نشطة مع أكثر من 150 اقتصادًا.
ما أبرز السلع المتبادلة بين البلدين والمتوقع تأثرها بالرسوم الجديدة؟
من المتوقع تأثر العديد من السلع المتبادلة بين البلدين جراء الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضتها واشنطن وردت عليها بكين، ويمكن الوقوف على أبرز تلك السلع من خلال القائمة العشر الأولى.
أولًا: بخصوص الصادرات الصينية للولايات المتحدة وفق بيانات 2023: تأتي الإلكترونيات الاستهلاكية في المقدمة بحصة تبلغ 96 مليار دولار، تليها المنسوجات والملابس بـ 68 مليار دولار، ثم المواد الكيميائية بـ 42 مليار دولار، آلات البناء ومواده بـ 33 مليار دولار، المعدات الكهربائية (باستثناء أشباه الموصلات) بـ 30 مليار دولار، المعادن الأساسية بـ 28 مليار دولار، الأجهزة المنزلية بـ 24 مليار دولار، معدات النقل بـ 24 مليار دولار، الطاقة النظيفة والبطاريات بـ 15 مليار دولار، وأخيرًا الأجهزة البصرية والطبية بـ 12 مليار دولار.
ثانيًا: الصادرات الأمريكية للصين، والتي تتصدرها الحبوب والبذور الزيتية بحصلة تبلغ 18.5 مليار دولار، يليها في المرتبة الثانية النفط والغاز بـ 17.6 مليار دولار، ثم التعليم والوسائل التعليمية بـ 13 مليار دولار، الأدوية بـ 11.3 مليار دولار، قطع غيار ومعدات الطيران بـ 6.8 مليارات دولار، أدوات الملاحة بـ 6.8 مليارات دولار، أشباه الموصلات بـ 6 مليارات دولار، المركبات الآلية بـ 6.1 مليارات دولار، الآلات الصناعية بـ 5 مليارات دولار، وأخيرًا منتجات اللحوم بـ 4.5 مليارات دولار.
ما التأثير المحتمل على الصين؟
يعتمد اقتصاد الصين في الأساس على التصدير، ومن ثم فهو من أكثر الاقتصاديات في العالم حساسيةً بشأن تقلبات التجارة الدولية، وعليه فاحتمالات التأثر بالرسوم الجمركية المفروضة مؤخرًا ستكون مرتفعة وبصورة مقلقة لدى صناع القرار في بكين، إذ يبلغ إجمالي الصادرات الصينية للولايات المتحدة 439.9 مليار دولار أي ما يعادل 16,4بالمئة من صادرات البلاد.
في تقييمه للمخاطر المحتملة على الصين جراء التعريفات الجديدة، يتوقع رئيس قسم الاقتصاد الصيني في كابيتال إيكونوميكس، جوليان إيفانز بريتشارد، أن تتراوح نسبة الضرر الاقتصادي بين 0,5% و1% من الناتج المحلي الإجمالي، مرجحًا أن تكون أبرز صادرات الصين إلى الولايات المتحدة هي الأكثر تضررًا – فالبلاد هي المورد الرئيسي للسلع من الإلكترونيات والآلات الكهربائية إلى المنسوجات والملابس، وفقًا لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
آخرون ذهبوا إلى أن التعريفات الجديدة ستنسف بشكل كبير البرنامج الذي أطلقته بكين مؤخرًا للتعافي الاقتصادي ومكافحة أزمة الديون طويلة الأمد التي يعاني منها قطاع العقارات، والتي تعاظمت أكثر بانخفاض الاستهلاك بشكل مستمر، ما تسبب في تباطؤ اقتصادي سعت بكين إلى إبطائه من خلال تحفيز مالي واسع النطاق العام الماضي، غير أنه من المحتمل أن يتعرض لتحديات جسام جراء التصعيد الجمركي الأخير.
ما الأثار المتوقعة على الولايات المتحدة؟
يذهب محللون إلى أن مثل تلك القرارات الحمائية ستنعكس إيجابًا على الاقتصاد الأمريكي من بعض الزوايا أبرزها تشجيع الصناعة المحلية وتعزيز التنافسية بين المنتجات الأميركية داخل السوق المحلية، كون أن المنتجات المستوردة تصبح أغلى، مما قد يحفز بعض الشركات على زيادة إنتاجها داخل الولايات المتحدة.
هذا بخلاف زيادة الإيرادات الحكومية، فالرسوم الجمركية تدر عائدات للخزينة الأميركية، بما يقرب سنويًا 700 مليار دولار حسبما جاء على لسان مستشاره التجاري بيتر نافارو، بما يمثل نحو 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، مقسمة إلى 100 مليار دولار من الرسوم على واردات السيارات، و600 مليار دولار أخرى على مختلف السلع المستوردة.
لكن في المقابل هناك من يحذر من التداعيات السلبية لهذا التوجه على الاقتصاد الأمريكي والتي يمكن تلخيصها في عدد من الانعكاسات أبرزها: ارتفاع أسعار السلع للمستهلكين، فحين تفرض أمريكا رسومًا جمركية على الواردات الصينية، فمن المنطقي أن تتحمل الشركات الأميركية هذه التكاليف، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات في الأسواق المحلية، وفي النهاية، يدفع المستهلك الأميركي الثمن.
كذلك زيادة تكاليف الإنتاج، إذ تعتمد العديد من الصناعات الأميركية على المواد الخام والمكونات الصينية، ومع ارتفاع أسعار هذه المدخلات بسبب الرسوم، ترتفع تكلفة الإنتاج، وهو ما سيؤدي إلى تراجع هامش الربح المحقق، بجانب تراجع الاستثمارات، فعدم الاستقرار التجاري يجعل المستثمرين أكثر حذرًا، مما يؤدي إلى تباطؤ الاستثمارات، خاصة في القطاعات التي تعتمد على التجارة الخارجية.
علاوة على ذلك فإن الرد الصيني بفرض رسوم على المنتجات الزراعية والصناعية الأميركية، سيؤثر سلبًا على المزارعين والشركات الأميركية التي تعتمد على التصدير للسوق الصينية، مثل فول الصويا والسيارات والطائرات، وهو ما سيقلل من الأرباح ويزيد من الأعباء المفروضة عليهم، وفي النهاية قد يؤدي ذلك إلى اضطراب سلاسل التوريد، خاصة في حال اضطرار بعض الشركات الأميركية للبحث عن بدائل للصين، مثل فيتنام والهند، وما لذلك من كلفة باهظة، حيث تتطلب هذه التحولات وقتًا واستثمارات ضخمة.
ما النتائج المحتملة على خارطة التجارة العالمية؟
لاشك أن السياسة الحمائية التي يتبعها ترامب اقتصاديًا سيكون لها ارتدادتها الكبيرة على خارطة التجارة العالمية وذلك في ضوء بعض المؤشرات والاحتمالات أبرزها:
– هزات عنيفة من المتوقع أن تشهدها الأسواق المالية والنقدية العالمية وهو ما حدث بالفعل حيث مُنيت معظم بورصات العالم بخسائر فادحة، فضلا عن حالة الاضطراب التي خيمت على المشهد الاقتصادي العالمي برمته.
– من المتوقع أن ينفرط عقد النظام الاقتصادي العالمي بشكل لا يمكن احتواؤه، فقد تنشأ تحالفات اقتصادية جديدة، إقليمية ودولية، وسيطرق العالم أبواب أنظمة تجارية أخرى لتحل محل منظمة التجارة العالمية وقواعدها الراسخة لعقود طويلة، ومن شأن ذلك أن يشكل حافزًا لتفعيل عمليات التكامل الإقليمي في العالم مثل مجموعة “بريكس” وغيرها على ذات الشاكلة.
– زيادة احتمالات تعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية بين روسيا والصين، فحتى تتمكن بعض الشركات الصينية من بيع منتجاتها، فسوف تضطر إلى البحث عن أسواق جديدة، بما في ذلك زيادة تواجدها في السوق الروسية، وفي المقابل سيكون لدى الشركات الروسية آفاقًا جديدة لزيادة الصادرات إلى الصين والدول الآسيوية.
– زيادة عزلة الولايات المتحدة اقتصاديًا، فبتلك الرسوم يمنح البيت الأبيض المجتمع الدولي سببًا مقنعًا آخر للاتحاد ضده، وهو ما بدت إرهاصاته بإعلان عدد من الدول عن تطبيق تدابير انتقامية ردًا على فرض التعريفات الجمركية الجديدة، الأمر الذي سيضع واشنطن في مأزق كبير أمام الاقتصاد العالمي المتوقع أن يتأثر بتلك العزلة الأمريكية المتوقعة.
يعكس التصعيد الأخير المتبادل بين واشنطن وبكين إصرار كل منهما في المضي قدما في هذا المسار، دون وجود نية -حتى كتابة تلك السطور- على التراجع خطوة للخلف، فإدارة ترامب تراهن على رضوخ الصين لسلاح الخنق الاقتصادي الذي تشهره في وجهها، والصينيون يتمترسون خلف الصمود والاعتماد على التحالفات الاقتصادية البديلة، فيما ستدفع الدول ذات الاقتصاديات الهشة الثمن الأكبر.. ليبقى السؤال: إلى متى تستمر تلك الحرب التجارية بين البلدين؟