منذ اللحظة الأولى للحرب على قطاع غزة، لم يتوقف طيران الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف طواقم الدفاع المدني والإسعاف، سواء بالقتل أو الاعتقال أو بتعطيل مركباتهم التي تنقل المصابين إلى المستشفيات، إذ يدرك الاحتلال جيدًا خطورة الدور الذي تؤديه هذه الطواقم، وقدرتها على فضح زيف رواياته عند تبرير كل مجزرة تطال المدنيين.
“للأسف، سيبقى الجرحى تحت أنقاض المنازل”، عبارة كثيرًا ما يرددها رجال الدفاع المدني في غزة، حين تعجز إمكانياتهم المحدودة عن إنقاذ المصابين وانتشال الشهداء من تحت الركام بعد كل قصف.
بشكل يومي، ترتكب مجازر تُبرر بزعم استهداف قيادي بارز في المقاومة، لكن رجال الدفاع المدني، لدى وصولهم إلى مواقع القصف، لا يجدون سوى المدنيين ضحايا، وغالبًا ما يكونون من الأطفال والنساء، دون أثر لأي شخصية عسكرية أو قيادية.
وفي الآونة الأخيرة، صعّد الاحتلال من ملاحقته لطواقم الإنقاذ، إلى أن ارتكب مجزرته الأخيرة بحقهم، المعروفة بـ”مجزرة المسعفين“، والتي راح ضحيتها نحو 15 من أفراد الطواقم، بعد أن استدرجهم الاحتلال إلى موقع قصف ثم قام بتصفيتهم بدم بارد.
في هذا السياق، أجرى “نون بوست” حوارًا خاصًا مع محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في قطاع غزة، للحديث عن التهديدات التي تواجه فرق الإنقاذ، وعن واقعهم الميداني في ظل تصاعد الاستهداف المباشر لهم، وتأثير نقص الإمكانيات الحاد على قدرتهم في إنقاذ الأرواح.
الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طواقم الدفاع المدني ويعتقلهم، كيف يؤثر ذلك على مواصلة عملكم خلال الحرب على غزة؟
استهداف طواقم الدفاع المدني في قطاع غزة بات أمرًا معتادًا، ولم يعد استثناءً. نحن نتحدث اليوم عن 111 شهيدًا من أفراد الدفاع المدني، قُتلوا بشكل مباشر فقط لأنهم كانوا يقدمون خدمة إنسانية لإنقاذ أرواح المواطنين.
آخر هذه الجرائم كان استهداف طواقمنا في منطقة رفح. هذا النوع من الاستهداف يترك أثرًا نفسيًّا عميقًا، لكننا مستمرون في أداء واجبنا، ولن نتوقف، رغم صعوبة المشهد ومأساويته.
نواجه إعاقات كثيرة، أبرزها النقص الحاد في المعدات والآليات، أما على مستوى الكادر البشري، فهو لا يزال يؤدي واجبه بكل إخلاص، ويواصل العمل في الميدان دون توقف.
ما تأثير استهداف الاحتلال لمقراتكم على سرعة الاستجابة؟
كنا نعمل قبل الحرب على مبدأ “سرعة الاستجابة” كقيمة أساسية ومقدسة، لكن هذا تغيّر تمامًا في ظل الحرب الحالية، فمع عدم القدرة على التعامل مع كل الأحداث في الوقت نفسه، وانعدام المعدات، وتفشي المخاطر، ووجود مناطق حمراء، والاستهدافات المباشرة لطواقمنا… كلّها عوامل أثّرت بشكل كبير على جودة الخدمة التي نقدّمها.
اليوم، إذا وقع استهداف في منطقة معينة، قد لا نتمكن من الوصول إليها بالسرعة المطلوبة، ما يهدد بفقدان مزيد من الأرواح، خصوصًا أننا نتحدث عن مدنيين عالقين تحت الأنقاض، في ظروف تشبه القبور، مأساوية وقاسية إلى أقصى حد.
كل لحظة تمرّ تحمل حياة، ولكن في ظل هذا الوضع، باتت التحديات ضخمة، وقدرتنا على الاستجابة محدودة جدًا. أكثر من 85% من إمكانياتنا ومقدراتنا دُمّرت بفعل عدوان الاحتلال، وسرعة الاستجابة اليوم لا تكاد توازي حجم الكارثة والدمار والإبادة الجماعية التي نواجهها.
مجزرة المسعفين.. هل هناك تخوف من تكرار مثل هذه الجرائم؟
بكل تأكيد، هناك تخوّف حقيقي من تكرار هذا المشهد المأساوي. الاحتلال الإسرائيلي لا يتردد في استهداف طواقم الإنقاذ وقتلهم بدم بارد. كم من الصحفيين قُتلوا؟ كثيرون. وقبل أيام فقط، تكررت الجريمة في مستشفى ناصر، حيث قُتل عدد من الصحفيين هناك.
الاحتلال لا يعترف بأي خطوط حمراء، والتجاوزات التي يرتكبها واضحة وفادحة، ونحن نعتقد أنه سيواصل جرائمه، ما لم يكن هناك موقف دولي حاسم.
في حال تحرّك المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية وتحملت مسؤوليتها بشكل واضح، قد ننجح في كبح هذه الانتهاكات، أو على الأقل الحد منها، لكن في ظل غياب المحاسبة، كما حدث في جريمة هند رجب، حيث قُتل مسعفان بشكل مباشر، وفي استهداف المنطقة الصناعية بغزة، حيث قُتل مسؤول في الهلال الأحمر، وأيضًا في رفح حين قُتل عدد من المسعفين في جريمة مكتملة الأركان… طالما لا يوجد من يُحاسب الاحتلال على جرائمه، فإن الخطر سيبقى قائمًا، وتكرار هذه المجازر سيظل محتملًا جدًا، بتداعيات إنسانية خطيرة.
ما أبرز التحديات والمخاطر التي تواجهونها عند الوصول إلى الضحايا؟
التحديات كثيرة جدًا، وأبرزها المخلفات التي يخلّفها الاحتلال بعد كل قصف، وهي شديدة الخطورة على طواقمنا. ثانيًا، لا توجد أي حصانة لنا كطواقم إنقاذ؛ فأي فرد من الدفاع المدني قد يُستهدف في أي لحظة أثناء تنفيذ المهمة، سواء باستهداف مباشر أو قصف المركبة التي نتنقّل بها، أو عبر استهداف الفريق العامل بأكمله. وهذا خطر دائم يرافقنا في كل تحرّك.
من التحديات الصعبة أيضًا، أن نتلقى نداء استغاثة عن استهداف معين، لكن لا نستطيع التحرك نحوه، إما لعدم توفر الوقود أو بسبب تعطل المركبة، وهو ما يحدث كثيرًا.
أحيانًا، نضطر إلى الذهاب سيرًا على الأقدام إلى أماكن القصف، رغم أن هذا أمر غير منطقي ولا آمن، لكنه ضروري. لا يمكننا أن نترك الشهداء والمصابين تحت الأنقاض دون أن نحاول إنقاذهم أو انتشالهم.
ما مدى تأثير قلة الإمكانيات على عملكم الميداني؟
التأثير كبير وصعب جدًا، فعندما يتم استهداف منزل مكوّن من عدة طوابق، وغالبًا ما يكون تحته أشخاص ما زالوا أحياء، نجد أنفسنا عاجزين تمامًا عن مساعدتهم بسبب عدم توفر المعدات الثقيلة اللازمة لإزالة الركام والكتل الخرسانية.
في كثير من الحالات، كل ما نملكه هو سماع صرخات الضحايا من تحت الأنقاض، دون أن تكون لدينا أي وسيلة لإنقاذهم. نسمعهم يستغيثون… إلى أن يصمت الصوت ويفارقون الحياة. هذا المشهد تكرر معنا آلاف المرات، وهو من أقسى ما يمكن أن يواجهه أي منقذ.
كيف يمكنكم العمل وسط القصف وانعدام الأمان؟
نحن نعمل بدافع الإحساس العميق بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه أبناء شعبنا. حين وقعت موجة النزوح الكبرى من شمال القطاع إلى جنوبه، تلقينا تهديدات مباشرة وتعليمات بمغادرة غزة، لكننا لم نغادر، لأننا نؤمن أن هذه القضية إنسانية بحتة وعادلة، ولا يمكن أن نترك أهلنا في هذه المحنة.
دورنا هو خدمة الناس وإنقاذ الأرواح، وهذا واجب لن نتخلى عنه مهما كان الثمن. سنواصل عملنا الإنساني، حتى لو كان الوضع صعبًا وخطيرًا، وحتى لو كنا مهددين في كل لحظة. نحن نعلم أنه لا يوجد أمان حقيقي، لكن إيماننا برسالتنا يجعلنا نستمر.
هل هناك مناطق تعتبر “محرمة” أو شديدة الاستهداف؟ وكيف تتعاملون مع ذلك؟
نعم، هناك بالفعل مناطق يصنّفها الاحتلال كمناطق “خطيرة” أو “حمراء”، بحسب الخرائط التي ينشرها أحيانًا، لكن لو التزمنا بتلك الخرائط بشكل كامل، لما تمكّنا من الوصول إلى الضحايا أو إنقاذ أي مصاب.
نحن نعتمد بشكل أساسي على التقدير الميداني؛ فإذا وقع استهداف في منطقة معينة، نقوم بتقييم الوضع، وفي حال وجود هدوء نسبي، نتحرك نحو المكان بشكل محسوب ودون مجازفة كبيرة.
أما إذا كانت المنطقة شديدة الخطورة، ونُدرك أن هناك حاجة ملحّة لتدخلنا، فنحاول إجراء تنسيق عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر للحصول على إذن من الاحتلال، لكن للأسف معظم هذه المحاولات تُقابَل بالرفض.
وفي حال لم يتم التنسيق، نحاول تقدير الوضع بدقة؛ فمثلًا إذا كانت قوات الاحتلال على بعد 500 متر، قد نتخذ القرار بالدخول، مع اتخاذ كل إجراءات الحيطة، كارتداء الزي البرتقالي المرمّز دوليًا واستخدام مركبات الإسعاف المميزة.
هل لديكم تدريب خاص للتعامل مع حالات القصف الجماعي وانهيار الأبنية؟
منذ عام 2006، لم نتمكن من السفر إلى دول الجوار للمشاركة في تدريبات متخصصة، نتيجة الرفض المستمر من الأطراف المختلفة، لكن رغم ذلك، استطعنا بناء خبرة واسعة من خلال الميدان نفسه.
لقد خضنا الكثير من التجارب القاسية خلال الحروب المتكررة، وهو ما منحنا دراية عملية بكيفية التعامل مع القصف الجماعي، وانهيار المباني، وانتشال الضحايا من تحت الأنقاض.
حرب 7 أكتوبر تحديدًا كانت بمثابة مدرسة كاملة، واجهنا خلالها حالات استثنائية، كالتعامل مع منزل واحد يضم أكثر من 100 شخص مدفونين تحت الركام.