عاد ملف طباعة العملة السورية إلى الواجهة مع تداول أنباء عن تحضيرات لطبعها في دول الاتحاد الأوروبي، بدلًا من روسيا التي تتولى هذه المهمة منذ سنوات. التصريح الصادر عن القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا، وما رافقه من حديث عن تخفيف بعض العقوبات، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة تعني تحولًا سياسيًا أوسع، أم أنها مجرد إجراء إسعافي في سياق أزمة نقدية خانقة.
حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، لم تكن سوريا تطبع عملتها الخاصة بها، بل كانت تتداول عملة موحدة مع لبنان، تُطبع في فرنسا كإرث مباشر من حقبة الانتداب الفرنسي.
هذا التداخل النقدي بين البلدين استمر لسنوات بعد الاستقلال، قبل أن تتجه سوريا تدريجيًا إلى بناء منظومة نقدية مستقلة، أسفرت عن طباعة العملة الورقية السورية في مطابع أوروبية، أبرزها في النمسا وسويسرا، ضمن بيئة اقتصادية لم تكن بعد خاضعة لمنظومة أمنية مغلقة أو لتحالف سياسي صارم.
غير أن هذا المسار تغير بوضوح بعد عام 1970، مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، ودخول البلاد في مرحلة حكم مركزي صارم قائم على تحالف وثيق مع الاتحاد السوفييتي. ومنذ ذلك الحين، بقيت الليرة السورية تُطبع، في معظم فتراتها، في الاتحاد السوفييتي، ولاحقًا في روسيا، حتى في أوقات الأزمات الكبرى والعقوبات الدولية، كما حدث خلال العقد الأخير من حكم بشار الأسد.
هذا التقرير ينظر في مراحل طباعة العملة السورية في ظل النظام البائد، مركزًا على ارتباطاتها السياسية، وتحولاتها من أوروبا إلى موسكو، وما تكشفه هذه الرحلة الطويلة من علاقة عميقة بين السيادة النقدية واستمرار السلطة.
مراحل طباعة العملة السورية أثناء حكم النظام
مع استلام حافظ الأسد السلطة في سبعينيات القرن الماضي، دخلت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي طورًا جديدًا تقوم على ترسيخ “الدولة الأمنية” وتحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد مركزي مرتبط بالمحور السوفييتي، بما فيها طباعة العملة السورية التي أضحت جزءًا من اتفاقات التعاون الثنائي بين الجانبين، ضمن إطار سياسي أكبر يشمل التسليح، والدعم التقني، وحتى التدريب الأمني.
لكن رغم هذا التقارب، لم تحتكر موسكو ملف طباعة العملة بالكامل، فعلى مدى العقود التالية، ظلت سوريا تتعامل بالتوازي مع مطابع أوروبية، خصوصًا في النمسا وسويسرا، التي كانت تقدم خدمات فنية أكثر تطورًا من حيث التصميم وجودة الطباعة. هذا التوازن استمر لسنوات، إلى أن بدأ يتغيّر تدريجيًا مع مطلع الألفية، حيث زاد اعتماد النظام على الطباعة الأوروبية، وأصبحت النمسا تحديدًا أحد الموردين الأساسيين لإنتاج الليرة السورية.
استمر هذا الترتيب حتى عام 2011، حين فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات واسعة على النظام السوري، شملت البنك المركزي وجهات مالية رسمية، ما دفع النمسا وغيرها من دول أوروبا إلى وقف خدمات الطباعة فورًا. في تلك اللحظة، لجأ النظام إلى شريكه التقليدي، روسيا، لتأمين الإمداد النقدي. فتم توقيع اتفاق عاجل مع شركة “غوزناك”، وهي الذراع الرسمية للدولة الروسية لطباعة العملات، وبدأت شحنات ضخمة من العملة السورية تُنقل من موسكو إلى دمشق عبر طائرات شحن عسكرية.
لكن ما بدا كإجراء طارئ اتخذ طابعًا بنيويًا مع الوقت، فبدل أن تُدار العملية من خلال المؤسسات المالية الرسمية، دخلت في مسارات أمنية معقدة. وكشفت تسريبات “أسرار قبرص” لاحقًا عن شبكات من الشركات الوهمية والمكاتب المرتبطة بشخصيات نافذة في النظام السوري، كانت تستخدم واجهات مالية في قبرص لتسهيل التحويلات والالتفاف على العقوبات الأوروبية، وتسهيل عمليات الطباعة والنقل. هكذا، تحولت طباعة العملة من وظيفة دولة إلى نشاط خفي تُديره دوائر مغلقة بعيدة عن أي رقابة مصرفية.
على الجانب الاقتصادي، انعكست هذه السياسات على الداخل السوري بآثار كارثية، فالكميات الضخمة من العملة التي طُبعت دون غطاء اقتصادي حقيقي، وُضعت مباشرة في السوق، ما أدى إلى ارتفاع مستويات التضخم وتسارع انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية، فقدت العملة وظيفتها كمخزن للقيمة، وأصبح السوريون يحتفظون بها فقط لسدّ الحاجات اليومية.
الطباعة في أوروبا.. تحول محتمل
في 16 آذار/مارس الماضي، صرّح القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا بأن العملة السورية ستُطبع في الاتحاد الأوروبي، مستندًا إلى تخفيف جزئي للعقوبات الأوروبية شمل قطاعات مثل النقل والطاقة والتعاملات المالية مع البنك المركزي السوري. مما يشير إلى تحوّل سياسي محتمل في هذا الملف باعتباره أكثر من إجراء مالي، بل قرار سيادي يرتبط بالتحكم بالمفاتيح النقدية في البلاد.
تقف خلف هذا التحول المحتمل، مجموعة من العوامل الضاغطة، أبرزها انهيار البنية الصناعية، تدمير شبكات الإنتاج، غياب الكوادر والخبرات السورية، فضلًا عن الرغبة بالخروج من الهيمنة الروسية في الملفات الاقتصادية الحساسة.
بالإضافة إلى قدرة الطباعة الأوروبية على تقديم مستوىً عاليًا من الجودة، والسلامة الأمنية، إلى جانب توفير قدر أكبر من الموثوقية في السوق العالمية.
وتمر طباعة العملة في دولة أجنبية، بعدة خطوات معقدة، تبدأ بطلب رسمي من البنك المركزي في الدولة الطالبة، يتضمن مواصفات العملة، كميتها، المواد المستخدمة، ووسائل الأمان المعتمدة، ثم تُدرس هذه الطلبات من قبل الجهة المُنفذة -وغالبًا ما تكون شركة حكومية أو خاصة متخصصة- ضمن شروط تجارية وتقنية صارمة.
ولا تتم الطباعة إلا بعد توقيع اتفاق يحدد الطرف المموّل، وطبيعة التوريد والجداول الزمنية، بالإضافة إلى تفاصيل التسليم. كما تخضع العملية لرقابة مزدوجة: من قبل الجهة الطابعة، ومن قبل الجهة الطالبة، لضمان عدم تسرب الكميات أو إساءة استخدامها. وهي آلية تتطلب حدًا أدنى من الجاهزية المؤسسية في البنك المركزي السوري، ووضوحًا في السياسة النقدية.
وقد أشار الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي، إلى أهمية أخذ التبعات المستقبلية لطباعة العملة في الاتحاد الأوروبي، بعين الاعتبار. بالنظر إلى أن دول الاتحاد لن تفتح مطابعها دون تفاهمات دقيقة تتعلق بالحوكمة، وكميات الإصدار، وآليات ضخّ النقد، كما يشدد على أهمية دراسة العروض المقدمة ودراسة مواقف كل دولة سياسيًا، وفق رأيه.
تغيير التصميم الفني والرمزي
إذا قُدّر لسوريا يومًا أن تُعيد طباعة عملتها الوطنية من جديد، فإن السؤال لن يقتصر على أين تُطبع، بل سيتجاوز ذلك إلى كيف ستبدو؟ ومن الذي يقرّر شكلها؟
في الظروف الاعتيادية، تمر عمليات تغيير تصميم العملة عبر لجان رسمية تضم ممثلين عن البنك المركزي، ومصممين مختصين، وخبراء في التاريخ والثقافة، وقد تُطرح في بعض الدول على شكل مسابقة وطنية مفتوحة لاختيار رموز تعبّر عن الهوية العامة للدولة، وفي حالات التحول السياسي، تصبح هذه العملية فرصة لإعادة تعريف السردية الرسمية للبلاد، انطلاقًا من الورقة النقدية.
في سوريا اليوم، ترتبط العملة ارتباطًا وثيقًا بصور وشعارات النظام. تظهر على أوراقها ملامح حافظ الأسد، ومبانٍ رسمية تُجسد مركزية السلطة، دون أي حضور لرموز ثقافية أو تاريخية جامعة. وإذا كان هناك من تفكير مستقبلي بطباعة عملة جديدة، فإن المسألة لا تتعلق بالشكل فحسب، بل بمضمون الرسالة التي تحملها، وما إذا كانت تعبّر عن دولة للجميع.
تجربة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين قدّمت نموذجًا جيدًا في هذا السياق، ففي عام 2003، وفي ذروة الفوضى الأمنية، أُطلقت عملية استبدال شاملة للدينار العراقي، حيث جرى التعاقد مع شركة بريطانية لطباعة عملة جديدة خالية من رموز النظام السابق، بمواصفات أمنية عالية، وبفئات نقدية جديدة. خلال ثلاثة أشهر، تم جمع آلاف الأطنان من الأوراق القديمة وإتلافها، ونجحت الحكومة الانتقالية في فرض نظام نقدي موحّد امتد ليشمل كل المناطق، بما فيها إقليم كردستان.
ما ميّز هذه التجربة لم يكن فقط تغيير الورقة، بل ما حملته من رمزية: إزالة صورة الحاكم، وتثبيت ملامح دولة تحاول أن تبدأ من جديد، حتى لو لم يكتمل مشروعها لاحقًا. في السياق السوري، لا تبدو هذه المهمة سهلة، لكنها تبقى ممكنة، فالسؤال عن شكل العملة في المستقبل هو في جوهره سؤال عن شكل الدولة، وعن نوع الرموز التي تقرر تمثيلها.
نهايةً، رغم أن قرار طباعة العملة السورية في الخارج قد يبدو قابلًا للتنفيذ تقنيًا، إلا أنه من الناحية العملية يتطلب قدرًا من الاستقرار الاقتصادي، وتقديرًا دقيقًا للقيمة الحقيقية للعملة، إلى جانب توافق مؤسسي بين الجهات المعنية في المصرف المركزي ووزارة المالية. وهي عملية تحتاج إلى وقت لإعداد البنية القانونية والرقابية لضمان أن الإصدار النقدي الجديد لا يتحول إلى عبء إضافي على اقتصادنا المنهك.
في الوقت نفسه، فإن الحديث عن طباعة أو تصميم عملة جديدة لا يجب أن يُفصل عن معناه السياسي، فكل تغيير في الشكل والمحتوى يحمل في طياته خطابًا عن طبيعة السلطة، والرموز التي تختار تمثيلها، والجهة التي تُمسك بقرارها النقدي، لذلك لا بد أن يُنظر إلى هذه العملية بوصفها تحوّلًا يتطلب قدرًا من الحكمة، والتفكير فيه ضمن رؤية وطنية جديدة، تُراعي ذاكرة السوريين وتطلعاتهم.