ترجمة وتحرير: نون بوست
في مساء يوم 23 مارس/ آذار، كان فيروز سيدهوا، وهو جراح متخصص في الإصابات والرعاية الحرجة، والذي وصل مؤخرًا إلى غزة قادمًا من كاليفورنيا كطبيب متطوع، في طريقه إلى قسم الجراحة في مستشفى ناصر عندما اخترقت غارة جوية إسرائيلية الجناح مباشرة. قال الجيش الإسرائيلي إن الغارة استهدفت إسماعيل برهوم، وهو قائد بارز في المكتب السياسي لحماس كان يعالج من جروح أصيب بها في غارة جوية سابقة، لكن القصف أدى أيضًا إلى مقتل فتى يبلغ من العمر 16 عامًا وإصابة عدد من المرضى الآخرين.
كان الفتى إبراهيم أحد المصابين الذين يعالجهم فيروز، وقال الطبيب الأمريكي عندما تحدثنا في اليوم التالي للقصف: “كان من المفترض أن يعود إبراهيم إلى المنزل اليوم، كان يعاني من آلام في القولون وأجرينا له فغرًا وقائيًا. كان يتعافى في القسم وكان في حالة جيدة. لم أتوقع أبدًا أن يُقتل مريض في سريره بالمستشفى”.
وتابع قائلًا: “لو لم يتم نقلي إلى وحدة العناية المركزة لربما كنت سأُقتل إلى جانب إبراهيم”. ورداً على الادعاء بأن الغارة الجوية استهدفت قيادياً في حماس، أضاف: “من أهم بنود القانون الإنساني أن الشخص المصاب الذي لا يشارك في القتال، ويتلقى الرعاية الصحية، يعتبر محميًا”.
التقيتُ بفيروز لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما أرسل هو وما يقرب من 100 من العاملين الأمريكيين في مجال الرعاية الصحية رسالة مفتوحة إلى رئيس الولايات المتحدة ونائبة الرئيس يشرحون فيها بالتفصيل ما شاهدوه خلال فترة تطوعهم في مستشفيات غزة، ويطالبون بإنهاء الحرب ووقف شحنات الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل. بعد ثلاثة أسابيع، كنتُ ضمن مجموعة تضم أكثر من 100 من العاملين الإسرائيليين في المجال الطبي الذين وقعوا على رسالة مفتوحة أخرى إلى الرئيس بايدن ونائبته هاريس تضامنًا مع الأطباء الأمريكيين. ومنذ ذلك الحين، واصلنا أنا وفيروز تعاوننا.
بعد عودته إلى الوطن من مهمته التطوعية الأولى في المستشفى الأوروبي في غزة، والتي امتدت ما بين مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 2024، لم يجد فيروز متسعا من الوقت لالتقاط أنفاسه. كلما حاولت الاتصال به لإجراء محادثة عبر تطبيق زووم أو إلقاء محاضرة في المؤتمر الأخير للطواقم الطبية الإسرائيلية ضد الحرب، كنتُ أجده مشغولًا في واشنطن مع إحدى اللجان السياسية، وقد تمكن بطريقة ما من التوفيق بين نشاطه السياسي وعدد لا يحصى من المقابلات والندوات والمقالات. وفي مارس/ آذار الماضي، عاد إلى غزة في مهمة تطوعية ثانية.
هذه المرة، كان فيروز جزءًا من فريق منظمة “ميد غلوبال” الطبية، وعمل في قسم الجراحة في مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وهو مجمع يضم ما بين 450 إلى 500 سرير للمرضى، وهو أكبر مستشفى يعمل حاليًا في جنوب غزة.
هاجم الجيش الإسرائيلي المجمع في عدة مناسبات منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد حصار دام شهرًا كاملًا بلغ ذروته باعتقال 70 موظفًا في فبراير/ شباط 2024، أُعلن عن توقف المستشفى عن العمل، لكنه تمكن من استئناف العمل جزئيا في وقت لاحق.
رغم الظروف الصعبة للغاية التي يعيشها قطاع غزة منذ أن خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار الشهر الماضي، إلا أن فيروز يصف مهمته الأولى قبل عام بأنها كانت أصعب من مهمته الثانية التي انتهت في 2 أبريل/ نيسان. ويوضح قائلاً: “في المرة السابقة، وصلنا إلى المستشفى الأوروبي أثناء معركة خان يونس، ولم تكن تمر لحظة دون قصف. لم تتوقف الطائرات المسيرة عن الطنين إلا في الأول من أبريل / نيسان [2024] – يوم مجزرة المطبخ المركزي العالمي [عندما هاجمت الطائرات الإسرائيلية المسيرة قافلة مساعدات وقتلت سبعة عمال] – وحتى في ذلك الوقت لم يتوقفوا سوى 12 ساعة فقط. أعتقد أنهم لم يريدوا المزيد من التغطية الإعلامية [في ذلك اليوم]”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مستشفى ناصر لا يُستخدم حاليًا كملجأ للنازحين، على عكس المستشفى الأوروبي قبل عام. يتابع فيروز: “لم يكن باستطاعتنا القيام بالعمل بشكل فعال، كانت النساء تقطعن الخضراوات وتجهزن الحساء في حوض وحدة العناية المركزة؛ كان الأمر صعبا للغاية”. ويضيف: “هناك الكثير من الموظفين هنا، والكثير منهم يتحدثون الإنجليزية. في حين أنني لم أجرِ أي عملية جراحية مع جراح آخر في المرة السابقة، هذه المرة يوجد جراح فلسطيني في كل غرفة عمليات. لم يتعرض المستشفى للقصف في المرة السابقة، لذا أعتقد أن الأمر مختلف”.
فيروز ليس غريبًا على مناطق النزاعات والكوارث، فقد تطوع سابقًا في أوكرانيا وهايتي وزيمبابوي، لكنه أكد أن الوضع في غزة لا يُقارن بأي مكان آخر. يقول في هذا السياق: “لقد زرت أوكرانيا ثلاث مرات منذ الغزو الروسي، وقد كانت قبل حرب غزة أسوأ مكان في العالم من حيث الهجمات على المرافق الصحية. لكنني لم أتوقع في أي وقت من الأوقات أن أتعرض للقصف على يد الروس، إنه أمر لا يُعقل”.
مقبرة للأطفال
للوهلة الأولى، قد يصعب فهم دوافع هذا الجرّاح للتطوع في غزة التي مزقتها الحرب، ثم ليصبح بعد ذلك مناضلًا شرسًا ضد القصف الإسرائيلي. ليس لدى فيروز أي روابط شخصية بفلسطين؛ فعائلته من أصول فارسية هندية، حتى أنه يعترف بأن والديه يكنّان مشاعر معادية للإسلام لأسباب تاريخية. لا يعرف فيروز سوى ثلاث كلمات بالعبرية، وكلمتين بالعربية، أهمها عبارة “خلاص”، التي يستخدمها عادةً لإبلاغ شخص ما بوفاة أحد أفراد عائلته.
مع ذلك، اختار العودة إلى غزة الشهر الماضي في زيارة ثانية، مستغلًا فرصة وقف إطلاق النار الذي كان يعلم يقينًا أنه لن يدوم.
في الواقع، لم يكن قصف المستشفى هو الحدث الأكثر دراماتيكية الذي يشهده فيروز خلال زيارته الأخيرة. قبل ذلك بأيام قليلة، في 18 مارس/ آذار، نفذت إسرائيل ما عُرف بـ”مجزرة رمضان“؛ حيث قصفت من الجو نحو 100 موقع في وقت واحد أثناء وجبة السحور، مما أدى إلى مقتل أكثر من 400 فلسطيني، منهم 174 طفلًا.
يتذكر فيروز قائلًا: “عندما بدأ القصف في الساعة الثانية فجرًا، فُتح باب مسكننا فجأةً، واصطدم بالخزانة، وهذا ما أيقظني من النوم. أعتقد أننا فحصنا 130 مريضًا خلال تلك الفترة التي استمرت ست ساعات، وأجريتُ ست عمليات جراحية على الفور وثلاث عمليات أخرى على مدار اليوم، نصفها كان لأطفال صغار، وهو أمر لست معتادًا عليه على الإطلاق. لقد أجريت في تلك الليلة عمليات جراحية للأطفال أكثر مما أجريته في عام كامل في الولايات المتحدة”.
على سبيل المقارنة، يتذكر فيروز آثار تفجيرات ماراثون بوسطن عام 2013، عندما كان يعمل كطبيب مقيم في مركز بوسطن الطبي. أوضح قائلاً: “في ذلك اليوم، استقبلت كل المراكز الرئيسية لعلاج الإصابات في مدينة بوسطن بأكملها – بسعة إجمالية تبلغ حوالي 4000 سرير وأكثر من 100 جراح متمكن- عدد المرضى الذين استقبلناهم في ليلة واحدة في مستشفى ناصر في 18 مارس/ آذار. كان هناك 10 أطفال فقط مصابين في بوسطن، أما هنا فقد كان ما بين ثلث ونصف المصابين من الأطفال”.
وتابع: “لذلك، كان هذا حدثًا ضخمًا من الإصابات الجماعية، لكنه لم يكن أسوأ ما حدث هنا. يتذكر الجراحون [في مستشفى ناصر] الأيام التي أجرى فيها قسم الجراحة 100 عملية جراحية في يوم واحد. يُمثل ذلك استخدامًا للموارد أكثر مما شهده أي مستشفى آخر على وجه الأرض، ولا حتى في نيويورك بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وكانوا يفعلون ذلك يوميًاعلى مدار أشهر”.
يضيف فيروز: “الفرق الطبية المحلية هنا تتمتع بخبرة واسعة، وقد قاموا بعمل رائع [في 18 مارس/ آذار]. كانت هناك فوضى عارمة، لكنهم حافظوا على خلو مكان الاستقبال في المستشفى لفرز المصابين”.
شرح فيروز كيف صنف الطاقم الطبي، كما هو معتاد في حوادث الإصابات الجماعية حول العالم، الوافدين إلى فئات لونية: الأخضر للجرحى الذين لا يوجد خطر على حياتهم؛ والأصفر لخطر محتمل على الحياة ولكن حالتهم مستقرة، ويمكنهم انتظار التقييم؛ والأحمر للتقييم الفوري عادةً بسبب مشاكل في مجرى الهواء أو التنفس أو الدورة الدموية؛ والأسود للحالات التي لم يعد بالإمكان إنقاذها.
يقول فيروز: “عندما تُصنف حالة شخص ما باللون الأسود، يُنقل مباشرةً إلى المشرحة. إما أن يكون مقطوع الرأس، أو تكون حدقتا عينيه ثابتين ومتسعين دون نبض، أو أن جسده ممزق إلى أشلاء أو منزوع الأحشاء. من المستحيل هنا أن يصنف الأطفال بعلامة سوداء ويُطلب من سائق سيارة الإسعاف نقلهم مباشرةً إلى المشرحة. لهذا السبب، توجد منطقة مخصصة لموت الأطفال، إلى جانب الأطفال الآخرين الذين يحتضرون؛ حيث يمكن لعائلاتهم البقاء معهم والدعاء لهم”.
أول ما فعله فيروز عندما بدأ الضحايا يتوافدون في الساعات الأولى من يوم 18 مارس/ آذار هو إخبار أحد الآباء أن يأخذ طفلته إلى هذه المنطقة، وقال: “كانت تتنفس بصعوبة شديدة ونبضها ضعيف جدًا مع وجود إصابات بالغة بسبب الشظايا في دماغها. لم يكن هناك جراح أعصاب، واضطررنا إلى إخبار والدها بأنها لن تنجو.
وتابع قائلًا: “حملتها ووضعتها بين ذراعيه، ثم أشرت إليه دون كلام، لأنني لم أستطع أن أشرح له باللغة العربية. ليس لدي أي فكرة إذا كان قد فهم أن ابنته ستموت، لكن يبدو أنه فهم الأمر”.
هجوم أمريكي إسرائيلي
يدرك فيروز تمامًا أن قراره بالتطوع في غزة يعرض حياته للخطر، ويقول: “هذا هو أخطر مكان زرته في حياتي، بفارق كبير عن أي مكان آخر. إنه على الأرجح المكان الأخطر على وجه الأرض خلال الستين عاماً الماضية”.
هذا أول ما يقوله لأي طبيب يتصل به لمناقشة التطوع في غزة. يقول فيروز: “يجب عليهم أن يفهموا أنهم ذاهبون إلى مكان إذا أراد الإسرائيليون قتلك فيه، سيفعلون ذلك، وسيفلتون من العقاب، ولن تفعل حكومتهم شيئًا على الإطلاق حيال ذلك”. (في اليوم السابق لحديثنا، اتصلت موظفة من السفارة الأمريكية في إسرائيل للاطمئنان على فيروز عند رؤية تغريدته حول قصف المستشفى. وقال لها: “هل يمكنكِ أن تخبري الإسرائيليين أن يتوقفوا عن قصف مستشفى ناصر؟ فأجابت: “كما تعلم، هذا ليس دورنا”).
يتابع فيروز: “ربما تكون هذه آلية دفاعية، ولكن المعاناة ليست هي أكثر ما يؤثر فيّ، بل حقيقة أنني أتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية الأخلاقية. هذا ليس هجومًا إسرائيليًا على غزة، إنه هجوم أمريكي إسرائيلي. عندما كنت أقوم بتركيب أنبوب التنفس لطفلة صغيرة ولم يتبق أمامي سوى ثلاث أو أربع دقائق حتى يتم تركيب الأنبوب، كنت أفكر: هل كانت أموال الضرائب التي أدفعها هي التي وضعت الشظايا في دماغ هذه الفتاة، أم أموال جاري؟”
يكافح فيروز في بعض اللحظات لإيجاد معنى لعمله التطوعي في غزة، ويقول: “في الحقيقة، أنا لا أفعل شيئًا مفيدًا هنا سوى أنني شاهد على ما يحدث. أكره أن أقول هذا، ولكنني أعتقد أن أكثر شيء مفيد قمت به هنا هو أن يُقتل أحد مرضاي، ثم ألفت الانتباه إلى حقيقة أنه لا ينبغي أن يتم قصف صبي يبلغ من العمر 16 عامًا في المستشفى”.
مع ذلك، يصف فيروز تضميد جراح الأطفال الفلسطينيين بأنه “يعيد شحن معنوياته”، ويعتبر أن وجوده في المستشفى بحد ذاته بمثابة رادع، وإن كان محدودًا، ضد هجوم إسرائيلي أكبر. يقول: “ربما يحمي وجودي هنا الأطفال قليلًا؛ ربما لو لم أكن هنا، لكانت إسرائيل قد استخدمت قنبلة تزن 2000 رطل. لديهم القدرة على هدم المستشفى بأكمله، ولكن إذا قتلوا مجموعة من الأجانب، سيبدو ذلك سيئًا للغاية”.
ويضيف: “هناك أجزاء منك يمكن أن تفقدها، وأجزاء لا يمكن أن تفقدها. أنا لست متدينًا، لكنني أعتقد أنه لا يجب أن تفقد روحك وأخلاقك وضميرك. في نهاية المطاف، يجب أن تكون قادرًا على النظر إلى نفسك في المرآة. إذا لم تستطع ذلك، فأنت لا تستحق الحياة”.
المصدر: +972