“مسيك بالخير يا موسى ابنَ عمران، ياللي تقوم من منامك تشبه الغزلان، العرس ما هو فرحة ولا طهور الصبيان، ما فرحة إلا زيارة موسى عليه الصلاة والسلام”، هذه الأبيات جزء من أغنيةٍ كان الفلسطينيون المسلمون ينشدونها بإيقاعاتٍ فولكلورية خلال الاحتفال بموسم النبي موسى، جنوب أريحا، وهو الموسم الذي ألغته سلطات الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، رغم أن النبي موسى يُعدّ من أهم أنبياء بني إسرائيل.
لكن الاحتفال بهذا الموسم لم يكن استثناءً في الثقافة الفلسطينية قبل قيام “إسرائيل” وهيمنتها، بل كان جزءًا من تقليد واسع النطاق؛ إذ اعتاد الفلسطينيون إحياء مواسم وأعياد تتعلّق بكل الأنبياء والأولياء الذين لهم أضرحة أو مقامات أو مشاهد في فلسطين، في زمنٍ ما قبل السيطرة الصهيونية على الحيّز والذاكرة.
قبل الاحتلال، كان الفلسطينيون يفرحون بجوار الأنبياء والأولياء، ويحوّلون مواسمهم إلى فسحة روحية وجماعية، تجمع بين التديّن والبهجة، الذكر والإنشاد، الصلاة والغناء، والطقوس الشعبية بأنواعها، وكانت هذه المواسم تُقام في المقامات المنتشرة في القرى والمدن، ويتوافد الناس إليها من مناطق بعيدة، حاملين معهم نوايا البركة، وأسباب الترفيه ومظاهر الاجتماع.
ولفهم طبيعة هذه المواسم ومظاهر الاحتفال التي رافقتها، نستعين بموسم النبي موسى كنموذج مركزي، تؤكد المصادر التاريخية أن طقوسه ومظاهره العامة كانت تتكرّر في مواسم الأنبياء والأولياء الآخرين، وإن تفاوتت في مدّتها أو تفرّدت ببعض التفاصيل.
نعتمد في ذلك على ما ورد في كتاب توفيق كنعان “الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين”، وكتاب محمد سعيد الأشقر “مقام وموسم النبي موسى عليه السلام في فلسطين”، وكتاب كامل جميل العسلي “موسم النبي موسى في فلسطين: تاريخ الموسم والمقام”.
ذاكرة الفرح والبركة
من بين الأنبياء والأولياء الذين احتفل بهم الفلسطينيون المسلمون، من ينتمون إلى بني إسرائيل، وقد اعتُبرت مواسمهم مصدر بركة وفرح، ومهرجاناتٍ شعبية فولكلورية فنية ترفيهية، وإن غلّفتها روحٌ دينية إسلامية.
فقد أحيى الفلسطينيون المسلمون موسم النبي يوسف في قرية بلاطة شرقي نابلس، التي احتُلّت عام 1967، وتحولت لاحقًا إلى مزار للمستوطنين الإسرائيليين، واحتفلوا أيضًا بموسم النبي صالح في قرية تحمل اسمه بمحافظة رام الله، وبموسم النبي صموئيل في القرية المجاورة للقدس، والتي احتلتها “إسرائيل” كذلك في عام 1967.

وبالإضافة إلى مواسم الأنبياء، كانت هناك موالدُ الأولياء والمشايخ المسلمين، وهي أكثر انتشارًا وتنوعًا، مثل: الشيخ القطرواني (بين بيرزيت وعطارة)، وأبو هريرة (في وادي الشريعة)، والعمري الجبيعي (قرب بيت عنان)، وأحمد الكركي الطيّار (في القُسطل)، وعبد السلام الرفاعي (في عناتا)، والشيخ ياسين (في دير ياسين)، والشيخ أحمد (في خربة سعيدة)، والشيخ عبد العزيز (قرب بيت سوريك)، والشيخ النوران (بين الشلالة وخان يونس)، والشيخ جراح والشيخ سعد في القدس، وغيرهم كثير ممن ارتبطت أسماؤهم بالمكان.
وبصرف النظر عن الخلافات الفقهية الإسلامية بشأن الاحتفال بموالد ومواسم الأنبياء والأولياء، فإن الواقع يُظهر أن الفلسطينيين المسلمين كانوا يُجلّون كل الأنبياء والأولياء ويحبونهم، ويعتبرونهم مصدرًا للبركة، ومن بينهم أنبياء من بني إسرائيل، ويكفي أن أهم موسمين في الذاكرة الشعبية كانا مرتبطَين بنبيين إسرائيليين: النبي موسى، والنبي روبين.
بلغ هذا التعلّق حدًّا لافتًا، خاصة لدى النساء، إذ كانت النساء المسلمات، لا سيما في يافا، يُلححن بشدة على أزواجهن للمشاركة في موسم النبي روبين. حتى شاع بينهن القول: “يا بترويني، يا بتطلقني”.
هذا التعلّق يُشير إلى بيئة غير متعصبة دينيًا، منفتحة بطبعها، ومُشبعة بسماحةٍ قد تكون متجذّرة في روح الإسلام نفسه، الذي يدعو للإيمان بجميع الأنبياء والرسل، كما أنه يعكس تنوعًا بشريًا عاشه الفلسطينيون، حيث الأغلبية مسلمة، إلى جانب مسيحيين، وأعدادٍ أقل من اليهود.
ومن الواضح أن هذه البيئة كانت تميل بطبعها إلى البهجة والفرح، فقد مثّلت تلك المواسم مساحة للترويح عن النفس، وكانت تعُج بالفعاليات الفنية والترفيهية إلى جانب مظاهر التدين الشعبي، واستمر بعضها لأيام طويلة، بل قد يمتد موسمٌ واحد، مثل موسم النبي روبين، إلى ما يقارب الشهر الكامل من الاحتفال والبهجة.

النبي روبين، أو “أروبين” كما يُنطق شعبيًا، هو ابن النبي يعقوب (الذي يُدعى “إسرائيل” في التقاليد اليهودية)، يقع مقامه في قرية روبين، على الضفة الجنوبية لوادٍ يحمل اسمه، قرب مدينتي يافا والرملة، وكان الفلسطينيون يحتشدون عند هذا المقام مطلع كل شهر قمري من شهر آب/ أغسطس، حيث تُنصَب الخيام والمقاهي ومحالّ بيع الألعاب والحلوى والحاجيات الترفيهية.
كان موسم النبي روبين، كما يصفه الدكتور توفيق كنعان، مزيجًا من الأذكار والإنشاد والصلاة، إلى جانب الغناء والموسيقى والعروض الفنية، وكانت الوفود تأتي إليه في قوافل الجمال، خصوصًا من يافا والرملة واللد، (وهي مدن أصبحت جميعها اليوم تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي)، وكانت العائلات تمكث أيامًا أو أسابيع بجوار المقام، الذي ضمّ غرفةً للقبر وأخرى للصلاة ورواقًا ومحرابًا تعلوه مئذنة ويحيط به سور تتخلله الأشجار.
استمر هذا الموسم لقرون، حتى احتلال “إسرائيل” للقرية في 1 حزيران/ يونيو 1948، وتهجير سكانها الفلسطينيين، كما وثّق المؤرخ وليد الخالدي في كتابه “كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمّرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها”.
لم يكن موسم النبي روبين استثناءً؛ إذ طالت يد الاحتلال مواسم وموالد عديدة، بعضها انتهى بمصادرة القرى كما حدث في النبي يوسف أو النبي صموئيل، وبعضها لا يزال قائمًا لكنه تحت قيود مشددة، كما في موسم النبي موسى الذي مُنع طويلًا بعد احتلال 1967، ثم سُمح به لاحقًا لكن على استحياء، بشكلٍ أقل بكثيرٍ مما كان عليه قبل ذلك.
موكب القدس المهيب
كان موسم النبي موسى يُفتتح كل عام في يوم الجمعة التي تسبق “الجمعة العظيمة” لدى الروم الأرثوذكس، في شهر نيسان/ أبريل، ويستمر على مدار أسبوع كامل. تبدأ الاحتفالات من قلب القدس، في موكبٍ مهيب ينطلق من المدينة باتجاه المقام الواقع في البرية جنوب أريحا.
يتقدّم الموكب آل الحسيني، الذين كان لهم شرف حفظ “علم النبي موسى”، والذي يُحتفَظ به في دارهم المعروفة باسم “الدار الكبيرة”. في صباح الجمعة، يتجمّع الناس حول الدار، يتقدّمهم مفتي القدس، وأعيان المدينة، وسط حشودٍ من الأهالي والزوّار. وعند الضحى، يخرج آل الحسيني العلم ويُقدّمونه للمفتي على طبق، في طقس مهيب يرافقه تلاوة صلوات على النبي محمد.
كان العلم قطعة فنية ذات رمزية عالية؛ قماشته من المخمل الأخضر المطرّز بالخيوط الذهبية، وتحيط به من كل جانب قماشات من حريرٍ أسود، كُتبت عليها عبارات دينية، وبعد تسليمه، يحمل العلمَ الشخصُ المختص به، ويتحركون إلى مسجد عمر بن الخطاب الأثري في القدس.
وبعد صلاة الجمعة، ينطلق الموكب خارج البلدة القديمة في القدس، وتحديدًا من باب علاء الدين البصير، وعند الوصول لباب الأسباط، أو ما يُعرف بـ”باب سِتّي مريم”، يركب القادة والأعيان خيولهم، وينطلق الموكب عبر ما يُعرف بـ”طريق الآلام”.

بجانب العلم الرئيسي في الموكب (علم النبي موسى)، كنتَ تشاهد أعلامًا أخرى لأولياء وشيوخ، يحملها المتصوفة التابعون أو المحبّون لهؤلاء الأولياء، فتجد أعلامًا لمشايخ مثل: الشيخ عاطف، والشيخ قزاز، والشيخ علي الشريف، والشيخ جراح، وغيرهم.
الموكب تُصاحبه الطبول والموسيقى، ويُنظَّم خلاله الشباب أنفسهم في حلقات، ويرقصون على أنغام الدبكة، بينما يتحرك الموكب ببطء، وهم معه، ويصطف الناس على جانبي الطرقات التي يمرّ منها الموكب، وفي شرفات البيوت وفوق أسطحها، لمشاهدة ذاك الكرنفال البهيج.
وبما أن الموكب كان يتحرّك ظهرًا بعد صلاة الجمعة، في وقت تكون فيه الشمس في كبد السماء، كان الناس يحملون مظلاتهم لحماية أنفسهم، وبسبب وفرة هذه “الشماسي”، أطلق بعض الأهالي على الموكب اسمًا شعبيًا لافتًا: “عيد الشماسي”.
وكان من التقاليد الراسخة أن يُودّع الموكبَ رئيسُ بلدية القدس وأعضاؤها، وغالبًا ما كان هذا الوداع يتم عند منطقة “رأس العمود”، حيث يُقدَّم للمشاركين في الموكب المشروبات والمرطّبات، قبل أن يُطوى العلم مجددًا، إيذانًا بانتهاء المرحلة المقدسية من المهرجان.
عندها، يبدأ المشاركون في التوجّه نحو مقام النبي موسى في البرية، عبر قوافل تضم الدواب والعربات والسيارات. ومع الوصول إلى محيط المقام، تبدأ صفحة أخرى من الاحتفال، إذ كانت الدنيا هناك تتغيّر تمامًا لمدة أسبوع كامل.
الصحراء تبتهج حول مقام النبي موسى
كانت الدنيا تتغيّر تمامًا حول مقام النبي موسى وقت موسمه، من سكونٍ تامٍّ إلى حركةٍ وزحامٍ وأصواتٍ تملأ الدنيا، فالمقام كان منعزلًا في الصحراء، ولم يكن مبناه يُفتح إلا لإقامة موسمه، أو للصلاة على أحد الشخصيات المهمة في أريحا، بل أحيانًا كان بعض أعيان شرق الأردن (المملكة الأردنية) حين يموتون يأتون بهم لصلاة الجنازة عليهم فيه.
يقع مقام النبي موسى على بعد 8 كيلومترات جنوب أريحا، وعلى بعد 28 كم من القدس، وبُنِيَ فوق تلالٍ صخرية كبريتيةٍ رسوبيةٍ يميل لونها للاحمرار، كانت بالأساس منطقةً للنساك والرهبان المسيحيين ينعزلون بها للعبادة.
المقام بناه السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (توفي في 676هـ – 1277م)، اعتقادًا بأن النبي موسى مدفونٌ هناك، استنادًا إلى حديثٍ نبويٍّ يقول: “مررت على موسى ليلة أُسري بي عند الكثب الأحمر”، والكثب الأحمر هو لون المنطقة التي بُني عليها المقام.

وتكوَّن المبنى من 3 طوابق، ومساحته 5 دونمات، أي ما يعادل 5 آلاف مترٍ تقريبًا، تشمل 100 غرفة، إضافةً إلى قاعةٍ كبيرةٍ بها ضريح النبي موسى -كما اعتقد بيبرس ومن معه- ويتوسطه مسجدٌ فوقه مئذنة، كان من يقف فوقها يرى البحر الميت وأريحا وجبال شرق الأردن، وحول المسجد ساحاتٌ كبيرةٌ كانت تمتلئ بالناس خلال الاحتفال.
لم تكن حول المكان شجرةٌ واحدة، ربما لطبيعة التربة الصخرية الكبريتية، ولكن كانت حوله آبارٌ لجمع مياه الأمطار، وكانت هي المصدر الذي يعيش عليه المحتفلون بموسم النبي موسى، إذ كانت هذه المنطقة القاحلة الفارغة تبتهج في يوم الجمعة الذي يبدأ به الموسم، وتزدحم بعد فتح المقام بالمحتفلين الزائرين.
في أول يوم (الجمعة)، يفِد أوّلًا من يعتنون بالمقام نفسه، ويُطلق عليهم “خدم النبي”، وكذلك التجار الذين ينصبون الخيام، ويعرضون بضاعتهم من الحلوى وألعاب الأطفال والطعام والشراب، إضافةً لأصحاب المقاهي والمشروبات، وغيرها، فقد كان الموسم فرصةً لهم.
في اليوم التالي (السبت)، كانت تفِد قبيلة العدوان، ويرحل أفرادها يوم الاثنين أو الثلاثاء، أما الأحد، فيفِد أعيان القدس ومتصوّفتها ويُقيمون حتى الخميس. ويوم الاثنين، يفِد سكان الخليل وشباب نابلس، ويرحلون الأربعاء، أما بدو الديوك، فيفِدون الثلاثاء ويرحلون الأربعاء، وفي الأربعاء أيضًا يفِد أهل أريحا، ومنهم من كان يرحل في نفس اليوم لقرب المسافة.
طقوس التوافد: “يا زوار موسى سيروا بالتهليل”
كان أهل البلدان يأتون للموسم في جماعاتٍ وقوافل، وتحركهم ذاته كان جزءًا من الموسم، فسكان الخليل على سبيل المثال، كانوا أوّلًا يتجهون إلى القدس، بعد أن يغادروا بلدهم يوم السبت، ويخيمون ويبيتون في الطريق، جنوبَ غربيّ القدس، ثم يجهزون موكبهم ويدخلون القدس في اليوم التالي من باب يافا، في احتفالٍ مبهج.
في موكبهم، كان هناك من يُقدّمون فقراتٍ فنيةً قتالية، حيث تجد مجموعةً تلعب السيف والترس، ومجموعةً ترقص، وأخرى تغني على أنغام الدبكة، وحول كل هؤلاء من يصفقون أو يتفرجون.

لعبة السيف والترس كانت محاكاةً للمبارزة في الحروب، حيث يتبارز شخصان بالسيف والترس، ولكنهم لا يتقاتلون حقيقةً، وإنما يُمثّلون حركات القتال دون أن يهاجم أحدهم الآخر بشكلٍ حقيقي، بل يُؤدّون حركاتٍ راقصةً، ويتمايلون، ويقفون، ويجلسون، وهم يُحاكيان المبارزة والقتال.
بعد دخول الموكب مدينة القدس، يقضي المشاركون ليلتهم في ساحة المسجد الأقصى، وفي الصباح يتجهون إلى مقام النبي موسى في موكبٍ من السيارات والعربات، تُصاحبه الأعلام والموسيقى.
وفي الطريق، كلما اقتربوا من المرور على قرية، أسرع أحدهم وسبق الموكب ليُخبر أهلها بأن الموكب على وشك المرور عليهم، فيخرج أهل القرية حاملين الأعلام لتحيّتهم، وتقديم أيّ واجبِ ضيافةٍ سريعٍ لهم، كتقديم مشروباتٍ باردةٍ أو غيرها.
ويستمر الموكب على ذلك حتى الوصول إلى مقام النبي موسى، حيث يدخلون إلى ساحته بشكلٍ منظّم، رافعين علمهم، ويجدون في استقبالهم من سبقهم إلى هناك، ومنهم الدراويش والمتصوّفة.
مشايخ الصوفية كان لهم استقبالٌ خاصٌّ في الموسم، فحين يقترب موكب أحدهم من الوصول إلى المقام، كان أحد أتباعه يسبقه ليُعلن عن وصوله، فيخرج إليه الدراويش والمتصوّفة الذين سبقوه إلى هناك لاستقباله.

وهذا التابع (يُسمّى “النَّجاب”) الذي يسبق الشيخ ليُعلن وصوله، كان لإرساله طقوس، فقد كان شيخه يربط منديلًا حول رقبته، ويحمل بيده آلةً موسيقيةً إيقاعيةً تُسمّى “النقّارة”، كان ينقر عليها وهو باتجاهه إلى المقام للإعلان عن وصول سيّده الشيخ.
وبعد وصول النّجاب إلى المقام، يستقبله أحد الدراويش، ويحلّ المنديل من على رقبته، ثم ينطلق معه في موكبٍ من أتباعه لاستقبال الشيخ الصوفي القادم وموكبه، وحينها تسمع الطبول تدقّ، والموسيقى تُعزف، وكذلك تسمع إطلاق رصاصٍ في الهواء، كنوعٍ من الترحيب بالشيخ الوافد.
كان الموكبان يتّحدان في موكبٍ كبير، يتقدّمه حاملُ العلم، يتبعه ضاربو الطبول والموسيقيون، ومن خلفهم قائدٌ يُنشد، والباقون يردّون عليه ويُصفّقون بشكلٍ منتظم، وبين كلّ هؤلاء يسير الشيخ الصوفي القادم ببطء.
ممّا يُسمع في هذه اللحظات إنشادٌ مثل: الله، الله، الله حيّ، دايم، دايم، قيّوم، قيّوم، ومثل: “يا زوّار موسى سيروا بالتهليل، وزرنا النبي موسى عقبال الخليل. يا زوّار موسى زوروا بالعدّة، مكتوب بالمنديل عقبال الحِجّة. يا زوّار موسى زوروا بالدرقة، شعرك يا موسى حريرٌ في ورقة”، وغيرها من أشعارٍ وأهازيجَ ومدائحَ خاصّة بالنبي موسى.
الإقامة في رحاب موسى
الوافدون على المقام كانوا يبيتون بين الغرف داخل مبنى المقام، وبين الخيام المنصوبة في الساحات الخارجية، والحاضرون كانوا رجالًا ونساءً، وبعض النساء كُنّ ينعزلن في الغرف داخل مبنى المقام، ويكتفين بمشاهدة الاحتفالات من الشرفات المطلة على الساحات، وكثيرات كُنّ ينزلن إلى الساحات، ويختلطن بالرجال خلال الاحتفال، وفي الغالب كانت النساء ينزلن الساحة بصحبة أزواجهن أو إخوانهن أو أيٍّ من رجالهن.
عدد الزائرين كان يصل أحيانًا إلى مائةٍ وخمسين ألفًا، وربما يزيد، وهذا العدد الضخم كان يحتاج لكمٍّ كبيرٍ من الطعام، وكانت عائلة الحسيني هي المتكفّل الأول به، حيث تُقدِّم حوالي 300 كيلو من اللحم يوميًا، ويُشاركها آل يونس، الذين قد يُقدّمون قدرًا مماثلًا من اللحم.

كان الطباخون يُجهّزون كمياتٍ ضخمةً من يخنة الفول والباذنجان والبصل والملوخية، إضافةً إلى كميات كبيرة من الأرزّ المُفلفل، بجانب اللحم المسلوق في قدورٍ ضخمة، وبجانب كمياتٍ كبيرةٍ من الخبز.
وتُجهّز وجبتان يوميًا للحاضرين (غداء، وعشاء)، في مكان مخصوص داخل المقام، وبعد انتهاء الطباخين من إعداد كل وجبة، يصطفّ الناس للحصول على وجباتهم، ويجلسون في مجموعاتٍ يتناولونها.
وكان مألوفًا أن تُشاهد شخصًا قد نذر نذرًا للنبي موسى، فيأتي إلى المقام في الموسم، ويذبح ذبيحةً أمامه لإطعام الزائرين، ويُقال عند ذبحها: “منك وإلك، أجرٌ وثوابٌ لسيدنا موسى، تقبّل نذرك يا كليم الله”.
الطعام كان نوعًا من الاحتفال، بجانب الاحتفالات المنصوبة في الساحات، وبين الخيام وداخلها؛ حيث كنتَ تجد كلّ وسائل اللعب والتسلية، مثل مسرح خيال الظلّ أو القراقوز (الأراجوز)، وصندوق العجب (صندوق الدنيا)، وهي أشياء كان ينجذب لها الجميع، ولكن على رأسهم الأطفال وبسطاء الريف والبدو.
بجانب ذلك، كانت هناك سباقاتٌ وألعابٌ رياضية، مثل رمي الجريد، وسباقات الخيل، وقد كانت تُجرى منافساتٌ لها طابعٌ قبليٌّ كثيرًا، وخاصّةً بين الفلاحين والبدو، كما كنتَ تجد بائعي كلّ شيءٍ يلزم المحتفلين، من الحلوى، والفواكه الطازجة والمجففة، والسكاكر، وألعاب الأطفال، إلى بائعي الأقمشة والمناديل، ناهيك عن المقاهي.

وفي الخيام تُقام حلقاتُ الذكر، والتي تبدأ بتلاوة القرآن، ثم إنشادٍ صوفيٍّ، وفي خيامٍ أخرى قد تنبعث أصواتُ غناءٍ، أو آلاتٌ موسيقية، أهمها العود، أو أصواتُ راوٍ يحكي حكاياتٍ أو يُلقي نكات، ويصحب كلّ ذلك عادةً شرب القهوة أو تدخين الأرجيلة.
وإن كنتَ متجولًا بين هذا وذاك، فبالتأكيد ستُصادف موكبًا صغيرًا يطوف حول مبنى المقام، يتقدّمه طفلٌ صغيرٌ يركب فوق دابةٍ -قد تكون حصانًا- ويرتدي زيًّا حريريًّا مُزيّنًا بالسلاسل والأحجبة والأحجار والتعاويذ لمنع الحسد، تمهيدًا لختانه بجوار مقام النبي الذي يتبرّكون به.
وعادةً يكون هذا الموكب مصحوبًا بالطبل والمزامير والغناء، حتى يقفون أمام الحلّاق الذي يختن الطفل، وسط ضجيجٍ وصخبٍ وتكبيراتٍ وزغاريد. وفجأةً، يصمت كلّ هذا الضجيج حين يُؤذَّن للصلاة، فيترك الجميع كلّ ما هم فيه، ويقومون لأداء فريضة الوقت.
وهكذا تمضي الاحتفالات حتى ينتهي الموسم، ويعود كلٌّ إلى بلده، ويتركون المقام وحيدًا تحفّه الرمال، حتى يعودوا إليه في العام التالي، وقد يستريحون ويباشرون أعمالهم لفترةٍ، حتى يذهبوا إلى موسمٍ آخر لأحد الأولياء أو الأنبياء في مناطقَ أخرى.. وهكذا كانت تدور السعادة بينهم، قبل أن يمنعها الصهاينة.