تسعى “الإدارة الذاتية”، الجناح المدني لقوات “قسد” الديمقراطية في مناطق سيطرتها شرقي نهر الفرات، ومنذ سنوات، إلى تحقيق حكم ذاتي، من خلال مؤسساتها السياسية والإدارية وقواتها الأمنية، بشكل مستقل نسبيًا عن الحكومة السورية.
وتفسر دمشق هذه الطموحات على أنها فيدرالية تُهدد وحدة الدولة ككل، كما تعارضها تركيا بنفس القدر من الشدة، لأنها تعتبر أن هذا الطرح سيكون له تداعياته على سكانها الأكراد، الذين تُقدّر نسبتهم بحوالي 15-20% من إجمالي السكان، أي ما بين 12-16 مليون نسمة، من أصل حوالي 85 مليون نسمة.
اختلاف الخطاب
خلال السنوات الماضية، اعتمدت الإدارة الذاتية أسلوب التفاوض المتبادل مع نظام الأسد، خصوصًا عند كل تهديد تركي بشن عملية عسكرية على مناطق سيطرتها، ورغم محاولاتها المتكررة لفتح قنوات حوار، فإن هذه المساعي كانت مشروطة باعتراف النظام بها سياسيًا وإداريًا، وهو ما قوبل برفض قاطع.
ورغم أن ميثاقها الاجتماعي نصّ صراحة على النظام الفيدرالي، فإن الإدارة الذاتية حرصت في خطابها الموجه إلى النظام البائد على تجنب استخدام هذا المصطلح، مكتفية بالمطالبة بصيغة من اللامركزية، حتى وإن كانت محدودة.
قبل سقوط النظام بأربعة أشهر، وتحديدًا في 21 أغسطس/آب 2024 أكدت إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية” خلال ندوة حوارية على “ضرورة القبول بنظام الإدارة الذاتية في سوريا، مشددة على أن مستقبل البلاد يجب أن يقوم على نظام لا مركزي”.
ويعكس هذا التصريح، وغيره من تصريحات المسؤولين الأكراد على مدى السنوات الماضية، بوضوح المسار الذي سلكته الإدارة الذاتية خلال تلك المرحلة، حيث اختارت في خطابها العلني استخدام مصطلح “اللامركزية” بدلًا من “الفيدرالية”.
لكن بعد سقوط النظام البائد وتسلّم الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع زمام الحكم، عاد الخطاب الكردي ليرتفع من جديد، ولكن هذه المرة بشكل أكثر وضوحًا، إذ لم يعد مطلب الحكم الذاتي يُطرح في إطار اللامركزية، التي يرى الأكراد أنها لا توفر لهم مستوى الاستقلالية الكافي لإدارة شؤونهم المحلية، بما يشمل الموارد وقوات الأمن والإدارة السياسية، بل ارتفع سقف المطالب باتجاه نظام فيدرالي كامل.
وتأكيدًا لهذا التحول، صرّحت إلهام أحمد بعد يومين فقط من سقوط النظام، في مقابلة مع التلفزيون السويدي بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول، بأن: “الحلّ السياسي للأزمة السورية يكمن في إقامة نظام فيدرالي يمنح الأقاليم الحكم الذاتي، مما يضمن تعايشًا سلميًا بين جميع المكونات السورية”.
وقبل أيام وفي العاشر من شهر نيسان/أبريل الجاري، نقلت وكالة “رويترز” عن الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية” بدران جياكرد قوله:
- الأكراد السوريون يستعدون للمطالبة بنظام فيدرالي في سوريا ما بعد الأسد، يتيح الحكم الذاتي الإقليمي وتشكيل قوات أمن محلية.
- جميع الفصائل الكردية اتفقت على رؤية سياسية مشتركة، تؤكد على الحاجة إلى نظام برلماني فدرالي تعددي ديمقراطي.
- القضية الأساسية بالنسبة لسوريا هي الحفاظ على الخصوصية الإدارية والسياسية والثقافية لكل منطقة وهو ما يتطلب وجود مجالس تشريعية محلية ضمن كل منطقة، وهيئات تنفيذية لإدارة شؤون المنطقة، وقوات أمن داخلية تابعة لها.
كما نقلت الوكالة عن مصادر كردية، بأن الأحزاب الكردية السورية المتنافسة، بما فيها حزب “الاتحاد الديمقراطي” المهيمن على إدارة المنطقة، اتفقت على رؤية سياسية مشتركة، تتضمن الفيدرالية، مؤكدة أن هذه الرؤية لم يُكشف عنها رسميًا بعد.
المطالب الكردية الجديدة كان قد سبقها في مارس/ آذار الفائت، اتفاق بين المجلس الوطني الكردي (ENKS) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) حول إقامة نظام حكم لا مركزي فيدرالي في سوريا، يتضمن توزيعًا عادلًا للسلطة والثروة، وتوحيد المناطق الكردية سياسيًا وإداريًا.
إضافة إلى الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية، وإلغاء المشاريع الاستثنائية ضد الأكراد، مثل “الحزام العربي”، مع التأكيد على تمثيل جميع مكونات الشعب السوري في الرموز الوطنية.
من جانبه أعلن مظلوم عبدي قائد قوات قسد خلال حديثه لموقع “المونيتور” الأمريكي، وجود نقاشات جارية مع الحكومة السورية حول شكل الحكم المستقبلي في البلاد، مؤكدًا على رغبة قسد في تحقيق “حكم محلي” في مناطق الإدارة الذاتية، ومشدداً في الوقت ذاته على رفض تركيز السلطة الإدارية في دمشق.
وأشار عبدي إلى أن بعض الأحزاب الكردية ما زالت تصر على خيار الفيدرالية، في حين يجري التحضير حالياً لعقد مؤتمر يضم مختلف الأطراف الكردية بهدف صياغة موقف سياسي موحد وتشكيل وفد مشترك لتمثيل المنطقة في المحادثات المرتقبة مع دمشق.
ويرى عدد من القوى الكردية أن الصيغة المركزية التي حكمت سوريا لعقود فشلت في إدارة التعددية الموجودة في البلاد، ويقترحون في المقابل نماذج بديلة، من بينها اللامركزية المتقدمة أو نظام اتحادي، مستلهمين تجارب إقليمية أبرزها تجربة إقليم كردستان العراق، لا سيما في مجالات الإدارة الذاتية وتوزيع الثروات.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الباحث في الشؤون الكردية، محمد شمدين، أن معظم البرامج التي تطرحها الأطر الكردية تدور حول اللامركزية، وهذا موجود في جميع الأدبيات الكردية، وليست طرحًا جديدًا.
وحسب شمدين فإن هذا الطرح كان موجودًا من قبل الأحزاب الكردية المنضوية ضمن إعلان دمشق، وعند اندلاع الاحتجاجات في سوريا وتشكيل المجلس الوطني الكردي كان شكل الحكم (اللامركزية – الفدرالية من ضمن برنامج عمله) ويسعى لإقامة دولة اتحادية بنظام ديمقراطي تعددي يقرّ بحقوق الشعب الكردي في سوريا، وعلى هذا الأساس انضم المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية وقتها في عام 2012.
“الفيدرالية واللامركزية” بين الرفض والقبول
تعرّف الدولة الفيدرالية (Federal State) بأنها الدولة التي تتوزع فيها السلطة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية (مثل الولايات أو الأقاليم)، وفقًا لدستور مكتوب يُحدد اختصاصات كل مستوى، وتتمتع الوحدات المحلية في مثل هذه الدول بقدر من الاستقلالية، كما تملك حكوماتها المحلية صلاحيات محددة.
ويمكن للأقاليم أو الوحدات الفرعية أن يكون لها أنظمتها الأساسية أو دساتيرها التي تستمد منها قوانينها المحلية، شريطة ألا تتعارض هذه الدساتير مع الدستور الأساسي للبلاد، الذي يصعب تعديله إلا بموافقة الجانبين.
كما يوجد في الفيدرالية نظام قضائي مزدوج، بمحاكم مركزية وأخرى محلية، وكل يطبّق في مجاله الجغرافي المحدد مع أولوية بالطبع للتشريعات المركزية.
بالمقابل يقصد بالنظام اللامركزي النظام الذي يعطي صلاحيّاتٍ محددة إمّا لمجالس محافظات أو أقضية منتخبة بصورة أساسيّة وإما للبلديات، فيما تبقى الأمور الأساسيّة في الدولة منوطة بالجهاز المركزي.
وبالعموم فإنه بالنظام الفيدرالي يوجد في كل ولاية دستور خاص بها عدا عن دستور الدولة الاتحادية، وهيئات تشريعية، وتنفيذية، وقضائية مستقلة عن الهيئات الفيدرالية، بينما لا يوجد ذلك في الولايات التي تخضع لنظام اللامركزية الإدارية.
كما لا تخضع الولايات في النظام الفيدرالي لرقابة الحكومة الاتحادية، وتباشر اختصاصاتها بموجب الدستور الفيدرالي والدستور المحلي للولاية بشكل مستقل، أما في نظام اللامركزية الإدارية فتخضع الولايات لرقابة ووصاية الحكومة المركزية.
ويمكن الإشارة إلى أن الفيدرالية هي نوع من اللامركزية، لكنها أعمق وأكثر رسمية بسبب ضماناتها الدستورية واستقلالية الأقاليم، عكس اللامركزية التي قد تكون مجرد تفويض إداري دون حكم ذاتي حقيقي.
ويتّجه قطاع واسع من السوريين إلى النظر للفيدرالية باعتبارها تهديدًا لوحدة البلاد، في ظل تنوّعها العرقي والطائفي، إذ يخشون أن تفتح هذه الصيغة الباب أمام مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من مكونات أخرى، مثل الدروز في السويداء أو العلويين في الساحل السوري، وهو ما قد يقود إلى تفكك الدولة.
كما يثير هذا الطرح مخاوف لدى تركيا، التي ترى في الفيدرالية الكردية خطرًا مباشرًا على أمنها القومي، خشية أن تستلهم الأقلية الكردية داخل أراضيها النموذج السوري للمطالبة بحقوق مشابهة.
إلى جانب ذلك، تُطرح تساؤلات حول مدى قدرة الفيدرالية على احتواء التوترات الداخلية، خاصة في ظل رفض شريحة واسعة من العشائر العربية في دير الزور والرقة والحسكة لصيغة الحكم الذاتي الكردي، بسبب ما تعتبره تهميشًا وتمييزًا ضدها خلال سنوات سيطرة الإدارة الذاتية.
وتتفاقم المخاوف أيضًا من احتمال تصاعد التدخلات الخارجية، حيث يُنظر إلى الولايات المتحدة كجهة تستثمر في الورقة الكردية، فيما تواصل إسرائيل التلويح بورقة الأقليات، وتحديدًا الدروز. كما أن الفيدرالية قد تُفاقم التحديات الاقتصادية، لا سيما إذا ما تم التعامل مع الموارد الحيوية بشكل غير عادل.
فمناطق شمال شرق سوريا، الخاضعة للإدارة الذاتية، تضم القسم الأكبر من الثروات الطبيعية للبلاد، كحقول النفط والغاز، ومصادر المياه، بالإضافة إلى إنتاج رئيسي للقمح والقطن. وإذا تم احتكار هذه الموارد أو فشل توزيعها بعدالة بين الأقاليم والمركز في دمشق، فقد يُعمّق ذلك من الأزمة الاقتصادية في بقية المناطق التي تعاني أصلًا من انهيار اقتصادي مستمر.
يشير الباحث شمدين إلى أن اللامركزية معمول بها في جميع الدول التي تحترم مواطنيها وهي لا تشكّل ضررًا على هيكلية الدولة، بل تعزز من مشاركة جميع المواطنين.
منوهاً إلى أن الأكراد لم يطالبوا سابقاً بلامركزية خاصة بهم، بل كانوا يطالبون بدولة لامركزية في سوريا يشارك فيها جميع المكونات بشكل متساوٍ وعادل، وتكون لامركزية بالضد من المركزية التي قدّست حكم الفرد ومنعت الآخرين من المشاركة في تنمية البلد، فالحكم المركزي للأسد مثال واضح على فشل المركزية في سوريا.
ويبدو أن النموذج اللامركزي يتوافق مع الإعلان الدستوري السوري الجديد، حسب الباحث شمدين، فديباجة القضايا الكبرى تشير إلى تنظيم شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية وفق مبادئ الحكم الرشيد، واللامركزية هي تحقيق مبادئ الحكم الرشيد، الذي هو أساسًا عملية تقوم بموجبها المؤسسات العامة بتسيير الشؤون العامة وإدارة الموارد العامة وضمان إعمال حقوق الإنسان، وفق تعريف الأمم المتحدة، والإعلان الدستوري ملتزم بجميع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
مضيفاً أن اللامركزية تتوافق أيضًا مع المادة الثانية من الإعلان الدستوري حول فصل السلطات، وأيضاً مع المادة 7 من الإعلان في تكفّل الدولة بالخصوصية الثقافية للمكونات في سوريا، ومع المادة 11 في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
أما فيما يتعلق بطرح الفدرالية من الجانب الكردي في هذه الفترة، والتي يراها الباحث شمدين إحدى التعبيرات السياسية لمفهوم اللامركزية، مع الاختلاف ببعض التفاصيل من ناحية صلاحيات الأقاليم، فيوضح أنها مطلب سياسي جاء نتيجة الاجتماعات بين الأطراف الكردية التي ستتوضح مطالبهم أكثر مع وضوح الرؤية المشتركة لأطراف الحركة الكردية، متوقعاً في ذات الوقت عودة الجانب الكردي لمفهوم اللامركزية مرة أخرى.
احتمالات التصعيد مع دمشق
في العاشر من مارس/آذار الفائت، وبعد أشهر من المفاوضات المدعومة من الولايات المتحدة، وقّع قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، اتفاقًا مبدئيًا مع الرئيس السوري أحمد الشرع، لبدء العمل على دمج قوات قسد في الجيش السوري الجديد.
ولاقت هذه الاتفاقية ترحيبًا علنيًا من واشنطن، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وجهات فاعلة أخرى، لما اشتملت عليه من ثماني نقاط رئيسية، كالاعتراف بالأكراد مجتمعًا أصيلًا، وضمان حقهم في المواطنة، وما يترتب عليها من حقوق دستورية، ودمج جميع المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا (مثل المعابر الحدودية، ومطار القامشلي، وحقول النفط والغاز)، وضمان عودة النازحين داخليًا وحمايتهم، وتطبيق وقف إطلاق نار على مستوى البلاد.
وحسب معهد واشنطن، فإن الكثير من العوائق تقف أمام تنفيذ الاتفاق، إذ تختلف دمشق وقوات سوريا الديمقراطية حول طبيعة الحكم الوطني المستقبلي (أي اللامركزية من عدمها)، ودرجة التكامل العسكري (حيث ترغب قوات سوريا الديمقراطية في الحفاظ على استقلاليتها)، ومستقبل سيطرتها على المناطق ذات الأغلبية العربية، ومراكز احتجاز داعش – وهذه الأخيرة تُعد من أكبر علامات الاستفهام في النقاشات حول الوجود العسكري الأمريكي المستقبلي في سوريا.
ولطالما أكدت الإدارة السورية الجديدة رفضها القاطع لفكرة الحكم الذاتي، والتأكيد على دولة مركزية تُحترم فيها حقوق الأقليات، ففي خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس السوري أحمد الشرع، في 29 كانون الثاني/ يناير الفائت، أشار إلى أن “سيادة سوريا ستُفرض تحت سلطة واحدة”.
كما شدد الدستور المؤقت، الذي أُقر في 13 مارس/آذار الفائت، على الحفاظ على الوحدة، وتجريم أي فصائل تدعو إلى “التقسيم” أو تطلب دعمًا خارجيًا لقضيتها.
بالمقابل، كان رد الإدارة الذاتية مخالفًا لتوجهات دمشق، إذ أصرت على أن تكون الدولة لامركزية، بل طالب مظلوم عبدي بمنح دمشق المزيد من الحكم الذاتي لمناطق أخرى في سوريا، وليس فقط للشمال الشرقي، في إشارة إلى الساحل السوري والسويداء.
لكن في ظل اشتراك الأحزاب الكردية في مطلب الفيدرالية الكاملة في سوريا، يلوح تساؤل عن الجغرافيا التي ستقوم عليها هذه الفيدرالية، لا سيما أننا نتحدث عن منطقتين خاضعتين للسلطة السورية، وهما “تل أبيض” بريف الرقة و”رأس العين” بريف الحسكة، وكيف سيكون حال المناطق العربية، وخاصة الرقة ودير الزور، اللتين يشكل سكانها العرب الغالبية العظمى.
إضافة إلى مطالبات قسد التي تشمل الحصول على حصة من الموارد النفطية في المناطق التي تسيطر عليها، وهو ما يثير حساسية كبيرة لدى دمشق الراغبة في بسط سيطرتها على البلاد والاستفادة من مقدراتها، وأنقرة التي ما تزال ترى قوات قسد ذراعًا لحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية.
طرح غير واقعي
يرى الباحث السياسي محمود علوش أن طرح الفيدرالية يشكل تصعيدًا في لهجة الوحدات الكردية، وأنه مصمم بشكل أساسي لتحسين الموقف التفاوضي مع دمشق.
واعتبر في حديثه لـ “نون بوست”، أن هذا الطرح غير واقعي، فالوحدات الكردية ليست في وضع يساعدها على رفع سقف مطالبها، كما أن اتفاقية دمج قسد هي أقصى ما يمكن أن تحققه الوحدات الكردية في ظل الظروف المحلية والإقليمية والدولية المؤثرة على سياق الحالة الكردية في سوريا.
ويشدد الباحث علوش على أن هناك تيارات داخل وحدات حماية الشعب الكردية، وحزب العمال الكردستاني، ليست مؤيدة للاتجاه الجديد للحالة الكردية، إما على المستوى السوري من خلال التفاهم مع دمشق، أو على المستوى الكردي–التركي من خلال عملية السلام الجديدة بين تركيا والعمال الكردستاني.
عدا عن أن الملف الكردي لا يتعلق بطبيعة العلاقة بين مظلوم عبدي والشرع فقط، فالتدخلات الإقليمية، وخصوصًا التركية، مؤثرة إلى حد كبير، وأيضًا العامل الأمريكي، خصوصًا مع رغبة ترامب بالانسحاب من سوريا، وهذا الانسحاب إن حصل – مع وجود مؤشراته – لا يساعد الوحدات في تحصيل الحد الأقصى مما تريده في سوريا الجديدة.
ورغم تبني دمشق الخيار التفاوضي مع قسد، إلا أن الخيار العسكري ضدها غير مستبعد إذا فشلت المفاوضات في تحقيق أهدافها، فالإدارة السورية تعمل على تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، من خلال تأكيد رفضها لتقسيم البلاد، وسعيها لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق الاستقرار بما يشجع المجتمع الدولي على دعم إعادة الإعمار ورفع العقوبات المفروضة على سوريا.
ويبدو أن هذا الطرح يكمن في تقويض اتفاق دمج قوات قسد، الذي تم إبرامه بين مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، عدا عن أنه يتقاطع مع التسويق الإسرائيلي لمحاولة فدرلة سوريا على الأطراف، لا سيما أن الاندفاعات الإسرائيلية المتواصلة في سوريا تحفز الوحدات الكردية على تبني سقف مرتفع في تصوراتها لعلاقتها في سوريا الجديدة، حسب الباحث علوش.
ولا يتفق الباحث شمدين مع علوش في رسم تقاطع الفيدرالية مع المشروع الإسرائيلي، معللًا السبب بأن حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي طوّر لاحقًا مشروعه إلى الإدارة الذاتية، قد ضمّن في أدبياته الإدارة اللامركزية، ولاحقًا العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وكذلك في مؤتمرات المعارضة السورية (مؤتمر الرياض ومؤتمر القاهرة)، فموضوع اللامركزية ليس جديدًا.
ما يعني أن اللامركزية لا تتقاطع مع المشروع الإسرائيلي، خاصة أن المشروع الإسرائيلي يسعى إلى التفتيت، بينما مشروع اللامركزية يهدف إلى توحيد البلاد. وهذه الآراء التي تربط بين مشاريع القوى الوطنية السورية والكردية مع أجندات إسرائيلية، هي نفسها تخدم المشروع الإسرائيلي، لأنها تقفز على الاستحقاق الوطني وتدفع البلاد إلى الانقسام، حسب تعبير شمدين.
كما يتوقّع مركز “حرمون” للدراسات المعاصرة، عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الصراع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد):
السيناريو الأول: انسحاب أميركي، واتفاق سياسي شامل يتم بموجبه سيطرة دمشق على كامل مناطق شرق الفرات، حتى المعابر الحدودية والمرافق الحيوية، مثل حقول النفط، وإعادة هيكلة قسد ودمجها ضمن الجيش السوري الموحد، مع استبعاد المقاتلين الأجانب، إضافة إلى منح المناطق ذات الأغلبية الكردية شكلًا محدودًا من الحكم الذاتي، وإشراكهم في العملية السياسية الوطنية.
السيناريو الثاني: استمرار القوات الأميركية، واستخدام قسد كورقة ضغط على السلطة السورية الجديدة، لتحقيق تغييرات جوهرية في سياساتها، ما يعني إبقاء التوترات بين قسد والسلطة السورية الجديدة.
أما السيناريو الثالث: التصعيد الشامل، عبر تنفيذ تركيا عملية عسكرية واسعة النطاق، بالتعاون مع الجانب السوري، للسيطرة على مناطق قسد، التي ستتلقى دعمًا محدودًا من الولايات المتحدة وفرنسا.
ختامًا.. في ظل تعقيدات المشهد السوري بتدخلات إقليمية ودولية، تبقى مطالب الأكراد بإقامة حكم ذاتي في شمال شرق سوريا، ذي الأغلبية العربية، محور جدل واسع، بين إصرارهم على تأمين حقوقهم الاجتماعية والقومية والسياسية، مع الاعتراف بأحقيتها، دون إدراك تبعات ذلك على المجتمع السوري ككل في هذا التوقيت الحساس، ورفض دمشق القاطع، التي تحاول الموازنة بين المكونات السورية من جهة، وضغوط اللاعبين الدوليين والإقليميين من جهة أخرى.