شهدت الأيام الماضية من شهر أبريل/نيسان الجاري، تطبيق أول بنود الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والذي جرى توقيعه في العاشر من مارس/آذار المنصرم بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وبين مظلوم عبدي، قائد “قسد”، وذلك في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، حيث تبادل الطرفان نحو 250 معتقلًا بين مديرية الأمن الداخلي في حلب و”قسد”، ضمن عملية “تبييض السجون”، والتي تضمنت إفراج السلطات السورية عن 140 معتقلًا لديها من قوات سوريا الديمقراطية، مقابل إفراج الأخيرة عن نحو 100 معتقل كانوا محتجزين لديها، جلّهم مدنيون اعتقلتهم “قسد” في فترات سابقة.
تلاها خروج قافلتين من المسلحين الأكراد من الحيين المذكورين على دفعتين، نحو مناطق “الجزيرة السورية” أو ما تُعرف بشرق الفرات، ضمن الاتفاق المبرم بين الطرفين، وضمن بند انسحاب جميع القوات الكردية من الحيين إلى خارج حلب.
ورغم التلكؤ في تطبيق الاتفاق في حلب، إلا أن ثمة إصرارًا حكوميًا على إتمامه، وتوافقًا من قبل قيادة قسد كذلك، وخلال الأيام القادمة، سيكون هناك تبادل للأسرى على دفعتين إضافيتين، كما ستتم إزالة السواتر والحواجز العسكرية عن مداخل الحيين، ودمجهما ببقية حلب، بحسب مصادر خاصة لـ”نون بوست”، مع بقاء عناصر الأسايش، الشرطة التابعة لقسد، لإدارة الحيين، مع دمج هذا التشكيل تحت مظلة الأمن الداخلي السوري، وفي الوقت ذاته الحفاظ على خصوصية هذه القوات.
وبالتزامن مع سير الاتفاق في مدينة حلب، تتجه الأنظار إلى ريفها الشرقي، حيث “سد تشرين” ومدينتا دير حافر ومسكنة، حيث لا يزال وقف إطلاق النار ساريًا هناك بين “الجيش الوطني” من جهة، و”قسد” من جهة أخرى، مع غياب للطيران الحربي عن الأجواء، إذ تضمن اتفاق عبدي–الشرع في بنوده وقفًا لإطلاق النار في كل الجبهات، وهذا ما حصل فعلاً.
مع ذلك، سُجلت عدة خروقات في جبهتي سد تشرين ودير حافر، ففي تاريخ 7 أبريل/نيسان الجاري، حاولت جرافات تابعة لـ”قسد” رفع ساتر ترابي قرب قرية “رسم الحرمل” شمالي دير حافر، فاستهدفها “الجيش الوطني”، ثم ردّت الأخيرة “قسد” بقصف القرية المذكورة، مما أدى إلى مقتل سيدة وإصابة ثلاثة أطفال، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
سبق ذلك أيضًا استهداف “قسد” لحشود من المدنيين الذين حاولوا الدخول إلى قراهم والعودة إلى منازلهم في قرى شرقي سد تشرين، حيث خطفت “قسد” مدنيًا هناك وأعدمته لاحقًا، بحسب ناشطين.
ورغم تواصل الخروقات العديدة من جانب “قسد”، إلا أنها توصلت إلى مسودة تفاهم مع الحكومة السورية حول سد تشرين، والذي سيكون منطقة بإدارة مدنية بحتة، بحسب مصادر لـ “نون بوست”. وكذلك تم السماح لورشات الصيانة بالدخول إلى السد للإشراف على إعادته للعمل.
مع ذلك، رصد ناشطون من المنطقة عمليات سرقة واسعة تنفذها “قسد” لمحتويات السد من محولات كهربائية وكابلات، ونقلها نحو الحسكة.
ولا يزال أكثر من 60 ألف سوري من سكان القرى الواقعة شرقي سد تشرين، والقرى الواقعة شرقي وغربي جسر قره قوزاق، يترقبون العودة إلى قراهم ومنازلهم، التي تحولت إلى ساحة معركة بعد الفترة التي تلت تحصن “قسد” في السد وقرب الجسر، إذ يُعتبر الموقعان بوابة للجزيرة السورية فيما لو سيطر عليهما “الجيش الوطني”، مما سيخلق مشاكل ضخمة لـ “قسد”، لذلك تستميت في الدفاع عن السد، وقد فقدت حتى اليوم أكثر من 150 قتيلًا مُعلنًا عنهم.
وعلى الطرف الآخر، حولت تركيا السد إلى جبهة استنزاف كلفت “قسد” الكثير، وكانت هذه الجبهة تحديدًا من أسباب توقيع اتفاق (عبدي–الشرع).
بوادر فشل الاتفاق بين الحكومة السورية وقسد
منذ اللحظة التي تلت توقيع اتفاق 10 مارس/آذار، شنت “قسد” حملات اعتقال واسعة في مناطق الجزيرة، استهدفت كل المحتفلين بالمناسبة، تلتها حملات أخرى طالت المحتفين بذكرى الثورة السورية، ووثق ناشطون اعتقال العشرات في الحسكة، والرقة، ودير الزور، وكذلك وثقت شبكات محلية مقتل عدد من المدنيين تحت التعذيب وبالرصاص الحي في مناطق متفرقة من الجزيرة وشرقي حلب، مما أدى إلى غضب شعبي على هذه الممارسات، وأثار الشكوك حول جدية “قسد” في دخولها هكذا اتفاق.
هذه التجاوزات بحق المدنيين ليست جديدة، لكنها تفاقمت بعد توقيع الاتفاق، وشهدت الحسكة وعين العرب “كوباني” والرقة، عمليات خطف أطفال نفذتها ميليشيا “جوانين شورشكر” أو الشبيبة الثورية، التابعة لحزب العمال الكردستاني (PKK).
وتهدف عمليات الخطف تلك إلى تجنيد هؤلاء الأطفال، عبر الزج بهم في معسكرات لحزب العمال، وتلقينهم مبادئ الحزب المصنّف على لوائح الإرهاب.
وفي سياق متصل، تواصل “قسد” عمليات حفر الأنفاق في الحسكة والرقة بشكل متسارع، وقد وصلت أنفاقها إلى أحياء مكتظة بالسكان، وفي داخل المدارس والمشافي كذلك، وكأنها استعدادات للحرب.
كل هذا في كفّة، وعمليات التحشيد والتجييش الإعلامي ضد الحكومة السورية التي تقوم بها “قسد” في كفّة أخرى، عبر إعلامها الرسمي والرديف، ويوازيها عمليات تواصل مكثفة مع جماعات رافضة للدولة السورية، كتلك التي في السويداء والتي يتزعمها رجل الدين الدرزي الهجري، وفي الساحل السوري كذلك، مع التركيز أيضًا على رفض الدستور والتشكيل الحكومي، والمطالبة باللامركزية والحكم الذاتي.
وتجلى هذا في تصريحات قيادة “قسد” والجناح السياسي لها، عبر ما يُسمى بـ “الإدارة الذاتية”، وآخرها تصريحات نقلتها “رويترز” عن بدران جيا كرد، المسؤول الرفيع في الإدارة، والذي قال: “إن جميع الأحزاب الكردية اتفقت على رؤية سياسية مشتركة، تؤكد على ضرورة وجود نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي وبرلماني، وذلك يجب أن يُنص عليه في الإطار الدستوري لسوريا”.
وكذلك تصريح سليمان أوسو، زعيم المجلس الوطني الكردي (ENKS)، والذي قال: “إن التطورات التي شهدتها سوريا منذ الإطاحة بالأسد في كانون الأول/ ديسمبر، دفعت العديد من السوريين إلى اعتبار النظام الفيدرالي هو الحل الأمثل”.
وذكر من بين هذه التطورات: الهجمات على العلويين، ورفض الحكم المركزي من قبل الأقلية الدرزية، والإعلان الدستوري الجديد للحكومة، الذي قالت الإدارة التي يقودها الأكراد إنه يتعارض مع تنوع سوريا، حسب ما نقلت “رويترز”.
وبالتأكيد، تُعارض الدولة السورية هكذا طرح فيما يتعلق بالفيدرالية والحكم الذاتي، وخلفها أنقرة التي تراقب بحذر مجريات تطبيق الاتفاق.
إلا أن الجلي والواضح هو مماطلة “قسد” في تنفيذ الاتفاق، فهي تنفّذه من جهة، بالتوازي مع ممارسات استفزازية بحق السكان العرب، وفي الوقت نفسه لا تزال تراهن على سقوط الحكومة السورية الحالية، وتهلل مع كل انتقاد خارجي يطالها، وذلك عبر مؤسساتها الإعلامية، وعبر تصريحات أذرعها السياسية التي لا تتوقف، وتركز دومًا على جزئية مظلومية الأقليات وكل ما يتعلق بها.
كل هذه المعطيات قد توحي بفشل الاتفاق في توقيت قادم لأي مراقب للأحداث، إلا أن الفشل سيعني التدخل العسكري التركي حُكمًا، وهو ما يعيق مساعي الأكراد نحو الفيدرالية التي يطمحون لها، ويضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما.
بوادر نجاح الاتفاق بين الحكومة السورية وقسد
لا تزال السياسة الأميركية تجاه سوريا ضبابية حتى الآن، ولم تُحدد بعد رؤية إدارة الرئيس ترامب إزاء الحكومة السورية الحالية، إلا أن مؤشرات التقارب التركي–الأميركي قد تنعكس بالإيجاب على سوريا، مما يمنح تركيا مجالًا أوسع للتحرك في الخلاص من الميليشيات الكردية المسلحة YPG/YPJ، والتي تنضوي تحت راية “قسد”، وإبعاد خطرها عن حدودها الجنوبية.
وعلى ما يبدو، فإن النية الأميركية بالانسحاب من سوريا موجودة وقريبة الحدوث، وقد تكون على شكل تقليص في عدد القوات وإعادة تموضع.
لذلك، تضطلع الولايات المتحدة بالاتفاق بين الحكومة السورية و”قسد”، وتحاول دفع الأخيرة بهذا المسار، على الأقل لتجنّب سيناريو مشابه لسيناريو الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والاطمئنان إلى حماية المعتقلات والمخيمات التي تحوي عناصر وعوائل مقاتلي تنظيم الدولة “داعش”، وتسليمها للحكومة السورية، على الأغلب، لتتولى مهمة الإشراف عليها بدلًا من “قسد” التي تسير نحو الاندماج بالجيش السوري، وهو أحد بنود الاتفاق.
وكذلك المضي بمتابعة خطط مكافحة الإرهاب في المنطقة، وإشراك سوريا بها. ولعل من أبرز المساعي الأميركية، تلك التي تتمحور حول تجنّب إغضاب الحليف التركي، عبر إغلاق ملف “قسد” نهائيًا، لذلك تدفع الولايات المتحدة نحو تشجيع الجميع على المضي قدمًا بتطبيق الاتفاق.
وحول الانسحاب الأميركي، لوحظ مؤخرًا عمليات نقل عتاد واسعة نحو العراق، تقوم بها القوات الأميركية من عدة قواعد في الجزيرة السورية، على غرار قواعد “خراب جير”، و”تل بيدر”، و”الشدادي” في الحسكة، و”كونيكو” في دير الزور، خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث يربط مراقبون هذه العمليات بكونها بوادر انسحاب قريب.
على الأرض، تشير المعطيات إلى أن فرصة نجاح تطبيق الاتفاق وإعادة توحيد البلاد هي الأكثر قابلية للحدوث، بعيدًا عن كل السجال السياسي الحاصل.
بمعنى أن اتفاق آذار كان أمنيًا–عسكريًا، وبالتالي ليس بالضرورة أن يتماشى مع التصريحات الكردية، التي لا تزال تبدي معارضتها لكل خطوة تقوم بها دمشق، من الإعلان الدستوري، إلى تشكيل الحكومة، وغيرها من نقاط تتعلق بالأقليات في عموم البلاد.
يدعم هذا الطرح بنجاح الاتفاق، رؤية مظلوم عبدي، قائد “قسد”، والذي لا تزال تصريحاته تشير إلى أنه مع الاستقرار في سوريا، ورغبته بحل الأمور مع دمشق بشكل سلمي، وعدم الانسياق إلى العنف.
بالمحصلة، فجزئية الخلاف الكردي–الكردي إزاء الاتفاق مع دمشق متوقعة، وليست مفاجئة، والأهم من كل هذا أن عامل الوقت ليس في مصلحة “قسد” اليوم، فكل الخلافات بينها وبين دمشق يجب أن تُحل، وتلقي هي السلاح كذلك، وإلا سنكون أمام سيناريو يأخذ البلاد إلى الحرب بلا شك.
الكرة اليوم في ملعب “قسد” وحدها، وأمام مظلوم عبدي امتحان كبير لقيادة السفينة إلى بر الأمان، مع أقل الأضرار الممكنة.
عدا ذلك، فخيارات “قسد” العسكرية محدودة اليوم مقارنة بالسابق، فيما لو حدث تصعيد عسكري ضدها، كما أن ممارساتها خلال السنوات الماضية خلقت في محيطها بيئة معادية ورافضة لوجودها.
ولا يزال السكان في الجزيرة يترقبون تنفيذ الاتفاق بشكل سلمي، حالهم حال بقية السوريين في مختلف أنحاء البلاد، ولهذا فالمعطيات الإيجابية أكبر، ولعل تنفيذ الاتفاق في حيي الشيخ مقصود والأشرفية خير مؤشر على تكرار التجربة في مناطق أخرى قريبًا.
الخلاصة والنتائج المتوقعة
لا تزال التصريحات السياسية الخارجة من “الإدارة الذاتية” وتطالب بالحكم الذاتي، والفيدرالية، واللامركزية، مع خصوصية ثقافية للأكراد، وتمثيل سياسي جيد في الحكومة السورية، وإعادة المهجّرين إلى قراهم وديارهم، تتكرر، وتوازيها كذلك تصريحات شبيهة من الأحزاب الكردية الأخرى، وعلى رأسها “المجلس الوطني الكردي”.
ولمناقشة هذا الطرح بواقعية، علينا أن ندرك أننا نتحدث عن مناطق بغالبيتها مختلطة ديموغرافيًا، كالحسكة، وتل أبيض، وريف عين العرب “كوباني”، والحديث هنا عن الجزيرة “شرق الفرات”.
فما هي الأرض التي ستقوم عليها الفيدرالية التي تصبو إليها الأحزاب الكردية، وما هو نطاقها الجغرافي؟ وتحديدًا في الحسكة.
لذلك، هناك مساعٍ تقودها “الإدارة الذاتية” مؤخرًا في الحسكة، عبر الاجتماع بشيوخ عشائر هناك موالين لـ”قسد”، ولبحث الموضوع معهم.
وأمام ظاهرة التشرذم في المشيخات التي تعيشها أغلب العشائر والقبائل، ارتأت “الإدارة الذاتية” التركيز على شيوخ قبيلة شمر الجربا، ويبدو أن ثمة توافقًا مبدئيًا حول وحدة البلاد وخصوصية جميع المكونات في الجزيرة.
وهناك ضوء أخضر أولي أعطته مشيخة آل الدهام الجربا لـ “الإدارة الذاتية”، بحسب مصادر لـ “نون بوست”، يقضي بأنهم يتوافقون مع مطالب اللامركزية في الحكم، على الأقل في الجزيرة، مع الحفاظ على وحدة البلاد.
وبالنظر إلى الواقع اليوم، فإن طرح الفيدرالية بمعناها الكامل في الجزيرة يُعتبر خطًا أحمر للسكان العرب أولًا، ثم للحكومة السورية، ثم لتركيا.
لكن السيناريو الأكثر قابلية للتطبيق اليوم، هو ذلك الذي سيكون عليه الحال في الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، أحياء ومناطق كردية بشرطة خاصة بها، تحت راية الدولة السورية، وبلديات تعمل بشكل منفرد ولها تمثيل في مجالس المحافظة السورية.
الفكرة هنا هي تطبيق اللامركزية الإدارية فقط، بعيدًا عن إنشاء كيانات مستقلة تنحو نحو خلق دولة داخل دولة.
ونعود هنا مجددًا لنتساءل عن الحيز الجغرافي الذي ستقوم عليه فيدرالية كردية في منطقة ذات غالبية عربية كالحسكة، وشمال الرقة “تل أبيض”.
وفيما يخص جزئيتي حفر الأنفاق التي تقوم بها “قسد” حتى اليوم، مع سيل الانتهاكات المتواصلة بحق السكان، فما هي إلا محاولات هدفها تحصيل مكاسب أكبر خلال تنفيذ الاتفاق، وعملية ضغط على الحكومة السورية، وكذلك هي عبارة عن رسالة لأنصارها وحاضنتها، والأهم، تحذير لجميع السكان في مناطقها من مغبة افتعال أي عمل ضدها، على شكل مظاهرات أو أعمال مسلحة. لذلك تبادر بخطوة مسبقة بهذا الصدد، للحفاظ على الوضع الحالي، وعدم خسارة أي أوراق تفيدها في السجال الحاصل اليوم.
مع كل الكلام المطروح اليوم، والتصريحات التي لا تتوقف، إلا أن الاتفاق يسير بالفعل، وقريبًا سيشمل مناطق جديدة في شرقي سوريا. الكل يحاول السير نحو بر الأمان، بعيدًا عن شبح حرب جديدة لا يرغب فيها أحد، الواقع سيقول كلمته بالنهاية، ولا يزال الآلاف من السوريين، كردًا وعربًا، يتوقون للعودة إلى ديارهم، بعيدًا عن تصريحات الساسة وطموحاتهم.