في صباح بعيد بارد، استيقظنا والثلج يهطل بغزارة، أشعلت أمي المدفأة، وتسلّل دفؤها ببطء إلى أطراف الغرفة، بعد قليل، طرقت جدتي الباب، وهي تحمل دلو الحليب الذي حلبته للتو من البقرة، تفوح منه رائحة طازجة لا تُنسى، وضعت أمي الحليب في قدر على النار، وبدأت تقطع الخبز اليابس وتضعه في الزبادي الصغيرة. بعد دقائق، سكبت الحليب المغلي فوق الخبز، ورشّت الكثير من السكر على السطح، ثم تحلّقنا حول المائدة نتناول فتة الحليب، وكل ملعقة كانت تملأ أجسادنا بالدفء.
في أيام أخرى، كانت أمهات قريتنا الباردة “سرغايا” التابعة لمدينة الزبداني في سوريا، يُحضّرن سندويشات من السمن المرشوش بالسكر لأطفالهن، ويُكثِرن من السكر أو الدبس حتى يحصل الأولاد على قدر كافٍ من الطاقة لتحمّل مشقة الطريق وبرودة الجو، أما قبل النوم، فكانت زُبدية اللبن الرائب مع السكر تسكيتة جوع آخر النهار.
غادرت بلدي قبل أكثر من عشر سنوات، وسكنت في مدينة مليونية متسارعة، هي إسطنبول، شيئًا فشيئًا، امتلأت حياتنا بالإنترنت والمواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، وصنعت المدينة والحداثة وما بعدها عالمنا الجديد. ضجيج يومي لا يتوقف حول الطعام: هذا مفيد، وهذا ضار، هذا عضوي، وهذا مهدرج، وتبدلت علاقتنا مع الأكل، صار الخبز متهمًا، والسكر خطيئة، وعدد ملاعق الأرز محسوبة، صرنا نأكل بقلق، ونتحدث عن السعرات الحرارية في الطعام أكثر مما نستلذّه.
ثم عدت بعد غربة طويلة في زيارة قصيرة إلى بلدي الخارج لتوّه من أتون حرب قاسية، هناك، لا أحد يقرأ كل يوم مئة منشور عن أضرار السكر، وكم ذُهلت حين وضع لي النادل في المطعم السكر باستخدام كوب آخر، بدلًا من الملعقة، دون حساب، كأن لا شيء يدعو للقلق، وسألني: أزيد؟
هذه البلاد، التي عاشت أزمات متلاحقة: انهيار اقتصادي، وفقر مدقع، ونقص في كل شيء، لا مكان لرفاهية قلق (الكالوريز) فيها، فالمهم هو توفر الطعام، بغض النظر عن أي شيء آخر، في الوقت الذي يوفّر لي السوبرماركت أسفل بيتي في إسطنبول كل شيء: من الأغذية الخالية من الغلوتين، إلى الحليب النباتي، إلى خبز مصنوع من خمسة أنواع حبوب.
كل شيء متوفر، عدا تلك الطمأنينة القديمة حين كنا نأكل بلا خوف ولا تأنيب، فقط لأننا نحتاج الطعام، ليس لأننا نخافه.
من اخترع (الدايت)؟ رحلة من الطبقة الراقية إلى ثقافة الاستهلاك
لكن هذا التبدل في علاقتنا مع الطعام، ليس وليد اللحظة، بل نتيجة رحلة طويلة بدأها (الدايت). في القرن التاسع عشر، لم تكن الحمية (الدايت) تعني ما تعنيه اليوم، بل كانت، في بداياتها، سلوكًا يقتصر على الطبقات الراقية في بريطانيا وأوروبا.
يُعتبر ويليام بانتينغ أحد أوائل من نشروا مفهوم (الحمية) بشكل شعبي، من خلال كتيّبه الشهير عام 1863 بعنوان Letter on Corpulence، والذي روى فيه تجربته في خسارة الوزن باتباع نظام غذائي منخفض الكربوهيدرات. كان بانتينغ رجلًا ثريًا من الطبقة المتوسطة العليا، وتحولت قصته لاحقًا إلى نموذج يُحتذى به في دوائر الطبقة الميسورة، التي بدأت تربط النحافة بالانضباط والتحكم الذاتي، وهي قيم لطالما اقترنت بالبرجوازية الصناعية الناشئة آنذاك.
في تلك المرحلة، لم يكن يُنظر إلى “الوزن الزائد” كمشكلة في الطبقات العاملة، بل كان دليلًا على الوفرة، أما بين الطبقات الثرية، فقد بدأ يُنظر إلى التحكم بالجسد – عبر التحكم باستهلاك الطعام – كرمز للتمدن والرقي.
ومع مطلع القرن العشرين، دخلت مفاهيم التغذية والحمية إلى الخطاب الطبي والإعلامي، ومع ازدهار الإعلانات التجارية، بدأت الحمية تتحول تدريجيًا إلى صناعة، صارت الحميات تُباع على شكل كتب، ومكملات، وبرامج تدريب، وأخيرًا تطبيقات رقمية.
اليوم، لم تعد الحمية مجرد قرار شخصي، بل منظومة كاملة تستهدف المستهلك، وتصنع في الوقت ذاته شعوره بالذنب إن لم يخضع لها، وهكذا، بدأ الدايت كامتياز برجوازي، ثم تحول إلى سلعة عالمية باهظة الثمن.
(الدايت) المعاصر: عندما يُصبح الغذاء الصحي امتيازًا لا حقًّا
لم يفقد (الدايت) طابعه الطبقي حتى اليوم، وإن اتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا، إذ باتت الحمية المعاصرة مرهونة بجملة من العوامل غير الصحية في حد ذاتها: مستوى الدخل، والوقت، والطبقة الاقتصادية للحي الذي يسكنه الناس، وطبيعة المدينة.
ويُشكّل اتّباع نظام غذائي صحي تحديًا متزايدًا في المدن الكبرى حول العالم، يشير تقرير منظمة الفاو لعام 2022 إلى أن نحو 3.1 مليار شخص حول العالم لم يتمكنوا من تحمّل كلفة نمط غذائي صحي في عام 2020، بزيادة قدرها 112 مليون شخص مقارنة بعام 2019.
وفي بريطانيا، تبين أن الطعام الصحي يكلف أكثر من ثلاثة أضعاف ما يكلفه “الجنك فود”، فيما تتركز مطاعم الوجبات السريعة في الأحياء الأكثر فقرًا بنسبة تفوق 30% مقارنة بـ22% فقط في المناطق الغنية.
أما في مدن العالم النامي، فالتحديات مضاعفة، إذ يعاني السكان أصلًا من الوصول إلى أي شكل من أشكال الغذاء، فضلًا عن الصحي، نتيجة انعدام الأمن الغذائي. وترتفع هذه النسبة إلى 70–95% في الأحياء العشوائية، بحسب البنك الدولي. وفي ظل ضعف البنية التحتية وغياب الدعم الغذائي، تصبح المنتجات الرخيصة والمصنّعة – رغم فقرها الغذائي – الخيار الوحيد للغالبية.
أي أن الغذاء الصحي تحوّل من انضباط فردي إلى امتياز حضري معقّد، يُمنح لمن يملك الموارد والوقت والمساحة الذهنية، ويُستثنى منه من يعيش تحت ضغط يومي لا يتيح حتى التفكير في وجبة طازجة. وتظهر المفارقة بوضوح حين نقارن بين استهلاك “الجانك فود” في الدول النامية مع الدول الأعلى دخلًا، حيث تعتبر الوجبات السريعة – في كثير من الأحيان – في الدول النامية رفاهية لا يقدر عليها سوى الميسورون.
أما في المدن الكبرى، فقد أصبح نمطًا غذائيًا مرتبطًا بالفئات الأقل دخلًا، التي لا تستطيع تحمّل كلفة وجبات طازجة أو مطاعم تستخدم مكونات عالية الجودة. وهكذا، لم تعد مطاعم الوجبات السريعة مجرد خيار سريع، بل انعكاس دقيق للهرم الطبقي الغذائي.
لكن من ناحيتها، قالت أخصائية التغذية رولا علوش إن الحالة المادية قد تمنح فرصة الوصول إلى غذاء صحي، لكنها أيضًا تُسهّل الانجراف نحو خيارات غذائية ضارة، خاصة في المدن الغنية. “بكل وضوح، الأغنياء ليسوا بالضرورة أكثر صحة. صحيح أن لديهم المال، لكن هذا المال قد يسهل الوصول إلى خيارات أسوأ، مثل تكرار الأكل خارج المنزل، والركون إلى الراحة المفرطة.
في المقابل، يمكن للفقير، إذا امتلك الوعي، أن ينشئ نظامًا غذائيًا متوازنًا باستخدام العدس، والحمص، والفول، وكلها بروتينات نباتية ممتازة ومغذية. التحدي الحقيقي لا يكمن في المال وحده، بل في الوعي، والمعرفة، والبيئة التي تتيح للإنسان أن يُطبق ما يعرفه ويجعل منه نمط حياة ممكنًا”.
ترند الأكل الصحي: بين التغريب الغذائي وعبء الوعي
مع توسع خطاب “الصحة الغذائية” على مواقع التواصل وفي الإعلانات، بات يُروّج لنمط حياة مثالي يُختزل في مكونات محددة بأسماء وأشكال غريبة عن المجتمعات المحلية، وكأن الطريق إلى العافية لا يمر إلا عبر هذه المواد المستوردة والمكلِفة. ويغفل هذا الترويج حقيقة جوهرية: أن المجتمعات المختلفة تملك أنظمتها الغذائية المتجذّرة، والتي وفّرت عبر قرون توازنًا صحيًا بأبسط الموارد. فلا يمكن إهمال المواد التي تنتجها البيئة المحلية، لصالح مواد غريبة ثقافيًا، لا تُزرع في بلادنا، ومرتفعة السعر. وهذا ما يساهم في تحويل الحديث عن “الغذاء الصحي” من ثقافة محلية إلى موضة معولمة، ترتبط بالاستهلاك والطبقية أكثر من الصحة الحقيقية.
تتفق رولا علوش مع هذا، وترى أن “الأكل صار ترندًا، مثل اللباس والأغاني، إذ يُطلّ كل فترة نوع طعام جديد ويصبح موضة: شوفان، وأفوكادو، وبذور شيا، وكينوا… كلها أطعمة غير مألوفة على بيئتنا. هل التغذية ضدها؟ لا، لكن الخطأ الكبير أننا نحصر الحياة الصحية فيها. منذ آلاف السنين نعيش على الخضار والفواكه، والجبنة واللبنة، وبذور من أرضنا، لم تكن هناك مشكلة. لا يوجد نظام غذائي عالمي يجب أن نتبعه جميعًا”.
وما يزيد الضغط، أن كثيرين باتوا يشعرون بالذنب إن لم يتبعوا هذه الترندات، رغم أنها لا تشبه بيئتهم، ولا تتناسب مع دخلهم، ولا نمط حياتهم، فيتحول الوعي الصحي من أداة سلامة إلى عبء دائم وتأنيب ذاتي مؤرّق.
المدينة تستهلكنا.. ولا تترك وقتًا لنأكل بسلام
يتراجع الطعام من كونه طقسًا اجتماعيًا أو قرارًا واعيًا في قلب المدن الكبرى، ليصبح متعة سريعة تُستهلك تحت ضغط الجوع أو نتيجة تحفيز إعلان صُمم بدقة ليخاطب لحظات الضعف. نأكل على عجل ودون تخطيط، وأحيانًا دون حتى أن نجوع فعلًا.
ويواجه سكان المدن صعوبة في الطهي أو التخطيط للوجبات، بسبب العمل الطويل والإجهاد الذهني، ما يدفعهم نحو الطعام الجاهز أو الوجبات السريعة، رغم تدني جودتها الغذائية. وهكذا، يصبح التمسك بنظام غذائي صحي تحديًا يوميًا، لا خيارًا متاحًا.
في ظل هذا الواقع، تتحول الوجبة إلى مكافأة شخصية. إذ يشعر الكثيرون، بعد يوم مزدحم ومضنٍ، أن الوجبة الدسمة أو الحلوى السريعة هي نوع من “الاستحقاق العاطفي”، لا مجرد طعام. وفي بيئة يتسابق فيها كل شيء، تصبح الوجبة السريعة لحظة راحة، حتى لو كانت تُقايَض بالصحة.
يزيد من تعقيد المشهد أن النصائح الصحية المتداولة تفترض دومًا في فراغ: “طبق السلطة، حضّر خضرواتك الطازجة، نظّم وجباتك مسبقًا”، بينما الواقع أن مجرد التفكير بذلك بعد ساعات طويلة من العمل يبدو ترفًا بحد ذاته.
ثم تأتي التفاصيل الصغيرة التي تتحول إلى عقبات كبيرة: الذهاب إلى السوق، غسل المكونات، الطهي، غسل الصحون، التعامل مع بقايا الطعام. بينما في المقابل، هناك خيار أبسط بكثير: تطبيق توصيل، وجبة ساخنة، بلا مجهود.
هل يمكن أن نأكل جيدًا دون أن ندفع الكثير؟
في مواجهة كل هذا الضجيج الغذائي، تتراجع الأسئلة الكبيرة أمام سؤال بسيط: هل يمكن أن نأكل بشكل أفضل دون أن نكون أثرياء، ودون أن نطارد نموذجًا لا يشبهنا؟
أفكر في هذا السؤال كثيرًا، ليس من موقع الباحث عن وصفة جديدة، بل من موقع الأم التي لا تملك الوقت ولا الطاقة لكل هذا الهوس الغذائي اليومي.
في مرحلة ما، وجدت نفسي أنشغل بفكرة ما إذا كان الطعام الذي أقدّمه كافيًا، صحيًا، متوازنًا، هل يحتوي كل شيء؟ هل أُقصّر دون أن أشعر؟ ثم بدأت ألحظ أن الانشغال المستمر بالسؤال نفسه يُرهق أكثر مما ينفع، وأن التفكير بالغذاء لا يجب أن يتحول إلى عبء دائم.
ترى رولا علوش أن الحالة المادية تؤثر على كل تفاصيل الحياة، من نوعية الطبخ، إلى القدرة على الراحة، إلى إمكانية إجراء تحاليل أو الاشتراك في نادٍ، لكنها لا ترى أن المال وحده يحدد جودة التغذية، بل إن الوعي والبيئة المحيطة هما جزء أساسي من قدرة الشخص على تطبيق ما يعرفه. وتشير إلى أن “كثيرًا من أكلنا التقليدي في بلادنا أصلاً طبيعي وعضوي من دون أن نُسميه كذلك، لكن المشكلة أننا لا نراه لأنه لا يشبه ما يُعرض علينا”.
لم أعد ألاحق كل تفصيل غذائي كما كنت، بل بدأت أصغي لما يناسبني فعليًا، صار كافيًا أن أقدم طعامًا بسيطًا، دون أن أُرهق نفسي بنموذج مثالي لا يشبهني، هذا التغيير لم يكن في مكونات الطعام، بل في طريقة النظر إليه.