لا يستفق المصريون من ضربة حتى تأتيهم الأخرى، وبقوة أشد وتأثير أعمق، فمحدودو الدخل وحتى متوسطوه، بالكاد التقطوا أنفاسهم بعد موسم رمضان والعيد، وهو موسم يفرغ الجيوب، لا سيما في ظل جنون الأسعار، إذ بهم يتعرضون لضربة جديدة ربما هي الأقوى خلال العشرية الأخيرة.
الحكومة المصرية، وعكس عقارب الساعة الاقتصادية العالمية، فاجأت المصريين بقرار خارج التوقعات، فبينما كان الشارع المصري مشغولًا بـ”ترندات” عدة، منها تجديد لاعب الزمالك المصري “زيزو” وأزمة مباراة القمة بين القطبين، وواقعتي محافظ سوهاج ووزير التربية، وسيلفي ماكرون في خان الخليلي، تعلن لجنة تسعير الوقود، مساء الخميس العاشر من أبريل/نيسان الجاري، عن موجة جديدة من زيادة أسعار المحروقات كافّة، بنسب تتراوح ما بين 11% إلى 40%، وفق ما جاء في بيان اللجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزراء البترول والكهرباء والمالية والداخلية والتموين والتنمية المحلية، على أن يدخل هذا القرار حيز التنفيذ صبيحة اليوم التالي مباشرة.
زيادة أسعار الوقود
بنحو 15 % في #مصر pic.twitter.com/gVraafRE2s— Nadia El-Magd ناديا (@Nadiaglory) April 10, 2025
يأتي هذا القرار في وقت تشهد فيه أسعار النفط العالمية تراجعًا ملحوظًا وصل لقرابة 3 دولارات للبرميل الواحد، حيث انخفضت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي 2.28 دولار أو 3.66% لتبلغ عند التسوية 60.07 دولار للبرميل، بينما تراجعت العقود الآجلة لخام برنت 2.15 دولار أو 3.28% لتبلغ عند التسوية 63.33 دولار للبرميل، ما دفع بعض الدول لتخفيض الأسعار مثل الأردن والإمارات وغيرها.
اللافت هنا، أنه رغم تلك الزيادات التاريخية في أسعار المحروقات إلا أن وزارة البترول المصرية تؤكد على أن “الفجوة السعرية ما زالت قائمة بين تكلفة المنتجات البترولية وأسعار بيعها، نتيجة للزيادة الكبيرة في التكاليف” في إشارة واضحة إلى حدوث زيادات قادمة خلال الأشهر المقبلة، وصولًا إلى الهدف المنشود، الخاص بتصفير دعم الطاقة، والذي تعهدت به الحكومة لصندوق النقد الدولي ضمن برنامج الإصلاح المقدم للحصول على القرض الأخير.
زيادة غير متوقعة
جاء قرار لجنة التسعير هذه المرة ليصعد بسعر بنزين 95 أوكتين من 17 إلى 19 جنيهًا، وبنزين 92 من 15.25 إلى 17.25 جنيهًا، وفئة 80 أوكتين من 13.5 إلى 15.5 جنيهًا، والكيروسين من 13.50 إلى 15.50 جنيهًا، أما سعر المازوت لصناعة الطوب والشركات العامة والخاصة عدا المورّد لمحطات توليد الكهرباء وصناعة الخبز التمويني المدعّم فارتفع بقيمة 1000 جنيها مرة واحدة، ليرتفع طنّ المازوت من 9500 جنيه إلى عشرة آلاف و500 جنيه.
كما رُفع سعر طنّ الغاز من 1200 جنيه إلى 1600 جنيه، وزادت سعر المليون وحدة حرارية لقمائن صناعة الطوب من 190 إلى 210 جنيهات، ورفعت اللجنة سعر أسطوانة البوتاجاز المستخدم للأغراض المنزلية والطهي وزن 12.50 كيلوغرامًا من 150 إلى 200 جنيه، بنسبة 33%، فيما ارتفع سعر اسطوانة البوتاجاز التجاري من 300 جنيه إلى 400 جنيهًا.
بتلك الزيادات ترتفع أسطوانة الغاز (الأكثر استهلاكًا من قبل المصريين) من 5 جنيهات في 2012 إلى 200 جنيهًا في 2025 بمعدل زيادة بلغ 40 ضعفًا وبنسبة 300% سنويًا وهو معدل غير مسبوق في التاريخ أن تزيد سلعة أكثر من ثلاثة أضعاف في العام الواحد على مدار 13 عامًا فقط، كذلك ارتفع سعر لتر بنزين 80 (الأكثر استخدامًا) من 1.6 جنيهًا للتر عام 2012 إلى 15.5 جنيها في التحريك الأخير، بزيادة وصلت لأكثر 960%.
جدير بالذكر أن مصر تستورد نحو 40% من احتياجاتها من السولار، و50% من استهلاكها من الغاز، و25% من كمية استهلاك البنزين، فيما تشير وزارة البترول المصرية إلى أن حجم الدعم اليومي المقدم للمنتجات البترولية يصل لنحو 366 مليون جنيه مصري، ما يعادل 11 مليار جنيه شهريًا.
ومنذ تدشين لجنة تسعير المنتجات البترولية عام 2016، في إطار برنامج الإصلاح الهادف إلى ضبط الأسعار بشكل دوري وتدريجي، بما يتواكب مع تقلبات الأسعار العالمية، شهدت أسعار المنتجات البترولية في مصر 13 زيادة متتالية، وصلت نسبتها إلى أكثر من 530% مما كانت عليه قبل 9 سنوات.
تناقض حكومي وصدمة للمصريين
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي قال رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي “إذا استقر سعر النفط بين 73 – 74 دولارًا للبرميل سيكون لدينا فرصة لعدم زيادة أسعار المواد البترولية بالصورة المخطط لها حتى نهاية 2025″، وهو التصريح الذي اعتبره الشارع المصري إيجابيًا ومنطقيًا ويعكس رغبة الحكومة في التخفيف عن كاهل المواطن.
ليتفاجأ المصريون مساء الخميس الماضي بتلك القرارات الصادمة التي كشفت عن حجم التناقض الكبير في تصريحات الرجل الثاني في الدولة، وهو التناقض الذي وضع مدبولي في مازق كبير أمام الشارع المصري الذي وصفه بالمراوغة والسعي لتخدير الشعب بالتصريحات الكاذبة لتمرير هذه القرارات التي تؤكد رضوخ الحكومة لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي بما يفند شكلا ومضمونا مزاعم الاستقلالية والسيادة الاقتصادية التي يتشدق بها الوزراء المصريون.
التوقيت في حد ذاته كان صدمة مدوية للشعب المصري الذي لم يبتلع ريقه بعد من الضغوط الاقتصادية التي تعرض لها خلال شهر رمضان وعيد الفطر، حيث معدلات الإنفاق العالية في ظل الأسعار الجنونية للسلع والخدمات، فبينما كان يؤمل المواطن نفسه بفترة يلتقط فيها أنفاسه إذ به يفاجأ بهذه الضربة غير المتوقعة، التي تسحب في ذيلها تداعياتها الكارثية فورًا دون تأجيل أو إرجاء.
رئيس الوزراء «مصطفى مدبولي» يتراجع عن كلامه، ويزيد أسعار الوقود رغم انخفاضها عالميا pic.twitter.com/ecY0DYaxhL
— شبكة رصد (@RassdNewsN) April 11, 2025
كارثة على الاقتصاد الوطني
من المتوقع أن تُلقي تلك الزيادات في أسعار المحروقات بظلالها القاتمة على الاقتصاد الوطني المصري من خلال بعض المؤشرات أبرزها:
زيادة معدلات التضخم.. حيث يتوقع الخبراء الاقتصاديون أن تدفع تلك الزيادة معدلات التضخم للارتفاع بنسبة تصل إلى 5% ومن المرجح أن يظهر أثرها بشكل أوضح خلال مايو/أيار القادم، حيث تشهد معظم السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج والنقل زيادات تتناسب طرديًا مع نسب الزيادة التي شهدتها المحروقات بين 11 – 40% وهي نسبة كبيرة للغاية قد لا يتحملها الكثيرون من الشعب المصري.
وقد شهدت الشوارع المصرية ووسائل النقل بعد ساعات قليلة من دخول هذا القرار حيز التنفيذ سجالات حادة بين المواطنين ومقدمي الخدمات بسبب الطفرة التي شهدتها أجرة النقل وأسعار السلع، وصلت في بعض الأحيان إلى الاشتباك بالأيدي، وسط تحذيرات من تعاظم حالة الاحتقان المجتمعي بسبب الضغوط التي يتعرض لها المصريون بين اليوم والآخر.
اضطراب السياسات النقدية.. وفق ما تناولته تقارير إعلامية عدة كان البنك المركزي المصري ينتوي خفض الفائدة مع اجتماع لجنة السياسات النقدية نهاية الأسبوع الجاري، غير أن الزيادة الأخيرة في أسعار المحروقات وما يليها من ارتفاع في معدلات التضخم سيحولان دون اتخاذ هذه الخطوة، ويكبحان رغبة الحكومة في إخراج السيولة المتراكمة بالبنوك خارج القطاع المصرفي، وتنشيط الاستثمارات الخاصة.
جدير بالذكر أن معدلات الفائدة بـ”المركزي” قد ارتفعت إلى 27.25% بين البنوك، وتتراوح ما بين 28% إلى 32% للقطاعات الصناعية والاستهلاكية، وهو الرقم الكبير الذي يميل مصرفيون إلى ضرورة تخفيضه بأسرع وقت ممكن لتشجيع الاستثمار، لكن هذا الأمر سيصطدم بمعدلات التضخم التي ارتفعت من 12.8% خلال فبراير/ شباط الماضي إلى 13.6% في مارس/آذار 2025، وسط توقعات بزيادة هذا المعدل خلال الشهر القادم.
زيادة معاناة المواطن
بعد ساعات قليلة من دخول أسعار الوقود الجديدة حيز التنفيذ، خرج مسؤولو الشعب والغرف التجارية ليؤكدوا على تداعيات هذه الزيادات على أسعار السلع والخدمات المقدمة والتي يدفع المواطن وحده كلفتها الباهظة:
– الخضروات والفاكهة.. أكد نائب رئيس شعبة الخضروات بغرفة القاهرة التجارية، حاتم النجيب أن ارتفاع سعر السولار سيؤدي لارتفاع أسعار الخضروات والفاكهة، بقيمة تصل إلى نحو 25 قرشا في الكيلو
– الدواجن.. قال رئيس شعبة الدواجن بغرفة القاهرة، عبد العزيز السيد، إن أسعار الدواجن ستتأثر بشكل كبير وخاصة المزارع التي لا يوجد بها كهرباء وتعمل بالديزل، وهو ما أكده العديد من أصحاب المزارع وتجار الدواجن في الأسواق
– النقل البري البضائع.. قال رئيس شعبة النقل البري بغرفة القاهرة التجارية، ورئيس الجمعية التعاونية لنقل البضائع، أحمد الزيني، إن قيمة الزيادة في تكاليف أسعار النقل عقب زيادة سعر السولار بلغت نحو 20% ومن المتوقع ارتفاع كلفة النقل بذات النسبة تقريبًا خلال الفترة المقبلة.
– الأجهزة الكهربائية.. قال رئيس شعبة الأجهزة الكهربائية بغرفة القاهرة التجارية، أشرف هلال، إنه رغم عدم اتخاذ أي قرار بعد بشأن تداعيات الزيادة الجديدة في أسعار المحروقات على الأجهزة الكهربائية، إلا أنه في العادة وبمنطلق اقتصادي بحت، فإن أي زيادة في أسعار المحروقات أو الطاقة يقابلها عادة ارتفاع في أسعار السلع.
– المواصلات العامة والخاصة.. منذ صبيحة الجمعة 11 أبريل/نيسان الجاري، حيث بداية التطبيق الفعلي لقرار زيادة أسعار الوقود، ارتفعت أجرة المواصلات في وسائل النقل العامة والخاصة بنسب تتراوح بين 15 – 25%، وهي النسبة التي تزيد بطبيعة الحال من الأعباء اليومية الواقعة على كاهل المواطن.
– المواد الغذائية.. قال عضو شعبة المواد الغذائية، حازم المنوفي، إن قرار زيادة أسعار السولار له تأثير مباشر على تكلفة النقل والخدمات اللوجستية، والتي تُعد من المكونات الأساسية في سلسلة الإمداد للسلع الغذائية، خاصة الأساسية منها، فيما استبقت المتاجر القرارات الرسمية برفع أسعار السلع بنسب تبلغ في المتوسط 10% في انتظار التعليمات الصادرة عن الجهات الحكومية.
– مواد البناء.. كشف مسؤولو شعبة مواد البناء بغرفة القاهرة التجارية عن ارتفاعات متوقعة في أسعار مواد البناء كالحديد والإسمنت، لأن مصانع الحديد تعمل بالغاز الطبيعي الذي لم يشهد أي زيادة في السعر، هذا بخلاف كلفة النقل التي ارتفعت بعد زيادة السولار، والتي يتحملها المستهلك بشكل شبه كامل.
وتتزامن تلك الموجة من الزيادات في المحروقات مع تراجع لقيمة العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، مما يزيد الطين بلة، ويعمق من حجم المأساة والمعاناة للشعب الذي لا يتجاوز متوسط دخل معظمه حاجز الـ 7000 جنيه شهريًا (137 دولارًا) في ظل ضبابية الرؤية بشأن انفراجة في المشهد تُحدث ولو بصيص من التوازن في تلك المعادلة المختلة.
وهنا يتسائل المصريون: ماذا عاد علينا من نتائج ومكتسبات جراء 3 برامج إصلاح اقتصادي نفذتها الحكومة منذ عام 2013 وحتى 2025، وذلك بعد وصول سعر الصرف من 7 الى 51.70 جنيها للدولار، واسطوانة الغاز من 8 الى 200 جنيها، ولتر البنزين 92 من 2.6 الى 17.25 جنيها، ولتر السولار من 1.8 الى 15.25، وبلغ الدين الخارجي 150 مليار دولار بدلا من 40 مليار، فيما قفز الدين الداخلي من 1.74 تريليون جنية الى 12.5 تريليون جنية؟
الغريب أن السلطة التي مررت تلك البرامج الإصلاحية الثلاثة على مدار السنوات الـ 13 الأخيرة لا تزال تتشدق وتشيد بالسياسات النقدية والاقتصادية التي تبنتها خلال تلك الفترة، ليبقى السؤال: إذا ما كان كل هذا التدني الذي يحياه المواطن في شتى مجالات حياته إنجازات من وجهة نظر الحكومة.. فما هو الفشل إذًا؟