تسابق دولة الاحتلال الزمن لإعادة هندسة قطاع غزة بما يخدم أجندتها الاستعمارية التوسعية، وتقطيع أوصاله بما يحول بينه وبين أي من مقومات الحياة، مستندة في ذلك إلى آلتها الإجرامية الوحشية، مرتكزة على ضوء أخضر أمريكي بلا سقف، وسط صمت دولي فاضح وعجز عربي مُعتاد.
قبل أيام أعلن رئيس وزراء الكيان، بنيامين نتنياهو البدء عمليًا في السيطرة على محور “موراج” الواقع بين مدينتي رفح وخان يونس في جنوب قطاع غزة، في خطوة فُسرت حينها على أنها بداية سلخ رفح عن جسدها الفلسطيني، وإعادة تشكيل خارطة غزة وفق أبجديات ومقاربات أمنية وسياسية مغايرة.
ومع ظهر السبت 12 أبريل/نيسان الجاري أعلن الجيش الإسرائيلي أن قوات من اللواء 188 ولواء غولاني انتهت رسميًا من الهيمنة على المحور، الذي يقسم جنوب قطاع غزة بين لواء رفح وخان يونس، فيما قال وزير الدفاع يسرائيل كاتس إن رفح أصبحت الآن جزءاً من “المنطقة الأمنية” لإسرائيل.
يومًا تلو الأخر تتكشف ملامح الخطة الإسرائيلية لتقطيع أوصال قطاع غزة، وتحويله إلى جيوب منعزلة، في محاولة لضرب بنيته الديموغرافية وإعادة تشكيل تموضعه الجيوسياسي، والهرولة نحو فرض واقع جديد، واستراتيجية مختلفة تمامًا عما تبنته العقلية الإسرائيلية خلال العقود الماضية، استراتيجية لا تستهدف المقاومة وحدها كما يردد نتنياهو وجنرالاته، بل إعادة رسم خرائط الصراع في الإقليم بأكمله.
لا يمكن قراءة ما يدور حاليًا في رفح بكل تفاصيله الإجرامية بمعزل عما تشهده المنطقة بأسرها، بداية من الضفة الغربية ثم لبنان مرورًا بسوريا واليمن، وصولا إلى الملف الإيراني الحاضر بقوة في المشهد وإن كان من خلف ستار، إذ بات يقينًا أن نتنياهو ماض وبقوة في ترجمة تهديده السابق بإعادة ترتيب توازنات القوى في الشرق الأوسط، مستغلا الظرف التاريخي الاستثنائي الحالي حيث الغطاء الأمريكي الكامل، والهوان العربي المٌخزي، والعوار الدولي الفاضح.
رفح منطقة أمنية عازلة.. ماذا يعني ذلك؟
بالسيطرة على محور “موراغ” يقسم الاحتلال جنوب قطاع غزة إلى قسمين، بين لواء رفح وخان يونس، وبإعلانه ضم رفح إلى المنطقة الأمنية العازلة فإنه بذلك يسيطر على مساحة تبلغ 75 كيلومترًا مربعًا، يسكنها نحو 200 ألف فلسطيني، ويحول القطاع بشكل كامل إلى جيب محاط بالأراضي الإسرائيلية، ويبعده بشكل محكم عن الحدود المصرية.
التقديرات الإسرائيلية التي تنشرها وسائل الإعلام العبرية تشير إلى سيطرة القوات الإسرائيلية حاليًا على 30% من قطاع غزة، حيث باتت رفح أقصى مدن القطاع جنوبًا، محاصرة بالكامل من قبل القوات الإسرائيلية، فيما تسيطر الفرقة 36 على طريق موراج، بينما تتولى فرقة غزة تأمين طريق فيلادلفيا على طول الحدود بين مصر وغزة.
وعلى مدار الأيام الماضية كثّف جيش الاحتلال من عملياته في رفح جنوبًا، عبر تدمير كامل للمباني والمشافي ومراكز الإيواء، ونسف لمقومات الحياة هناك، فيما تتولى الفرقة (36) أعمال الحفر بحثًا عن الأنفاق وتدميرها، وفي المقابل لا تتوقف أوامر الإخلاء ودفع الغزيين دفعًا بالقوة وتحت تهديد الصواريخ والمدفعيات وسلاحي الجوع والعطش للنزوح إلى مناطق الوسط لتفريغ الجنوب تماما من سكانه.
خلال هذه الاستراتيجية الإجرامية تنفذ قوات الاحتلال بحق الغزيين سياسة “الكماشة” عبر خطة الجنرالات شمالا، والمنطقة العازلة جنوبًا، وإجبارهم على النزوح لمناطق الوسط، حيث تضييق الخناق وفرض الحصار المطبق، ووضعهم فيما يشبه بالمعسكرات النازية، حيث يتحكم الاحتلال في مصير ما يقرب من مليوني فلسطيني يتحولوا مع مرور الوقت إلى أسرى في قبضة المحتل وورقة ضغط يوظفها لخدمة أجنداته.
عرض هذا المنشور على Instagram
إحياء لمشروع الأصابع الخمس
فصل رفح عن خان يونس ليس بالتطور المفاجئ بحسب بعض المراقبين، فهو إحياء لمشروع “الاصابع الخمس” الذي ابتكره رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، أرئيل شارون في 1971 وألغاه في 2005، لتقطيع أوصال قطاع غزة عبر خمسة محاور استيطانية تمتد من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
وبحسب هذا المشروع فإن الإصبع الأول يتمحور في إنشاء كتلة استيطانية في شمال قطاع غزة، وتوسيع المدى الاستيطاني اليهودي جنوب عسقلان وحتى ضواحي بيت حانون وغزة المدينة، فيما يتعلق الإصبع الثاني بمحور نيتساريم، حيث كان الهدف منه بتر تواصل الفلسطينيين بين غزة ودير البلح، أما الإصبع الثالث فكان عبارة عن كتلة من المستوطنات تهدف إلى فصل دير البلح عن خان يونس وهي جزء من محور كيسوفيم.
ويأتي الإصبع الرابع في صورة كتلة من المستوطنات تهدف إلى فصل خان يونس عن رفح، وهو ما يتم حاليًا على أرض الواقع، فيما كان الاصبع الخامس محاصرة قطاع غزة من الجنوب وفصله عن سيناء وعلى الارض المصرية، الأمر الذي تسابق إسرائيل الزمن في ترجمته قبل الجلوس على مائدة المفاوضات مجددًا.
وتذهب التطورات الراهنة في القطاع باتجاه ترجمة هذا المشروع الاستيطاني بشكل كبير، حيث استطاع الاحتلال تنفيذ الإصبعين الرابع والخامس بشكل شبه كامل، فيما يسير بخطى حثيثة لترجمة الأصابع الثلاثة الأخرى، رغم التحذيرات الأمنية الداخلية من تداعيات هذا التحرك على حياة الأسرى الإسرائيليين وعناصر الجيش التي من المتوقع أن تكون في مرمى الاستهداف أكثر من ذي قبل.
الضغط على حماس؟.. أكبر من ذلك
حسب التصريحات الرسمية الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية والنخبة السياسية والعسكرية في الداخل الإسرائيلي فإن اختيار رفح تحديدًا والإعلان عن ضمها للمنطقة الأمنية العازلة، يأتي في سياق الضغط على حركة حماس، وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات فيما يتعلق بالأسرى المحتجزين لديها ومسألة سلاحها ومغادرة قادتها الأراضي الفلسطينية.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى تبلور قناعة تامة لدى الكيان بأنه لن يحصل على دعم دولي، لعملية طويلة الأمد في القطاع، خاصة بعد الحديث عن تلميحات ترامب بضرورة إنهاء العمليات العسكرية في أقرب وقت، وهو ما دفع الجيش المحتل إلى استهداف المناطق التي يعتقد أنها ستشكل ضغطًا على قيادة الحركة وتدفعها نحو الرضوخ للشروط الإسرائيلية بشان التهدئة.
وفي ذات السياق مارس كاتس تحريضه المستمر ضد حماس وقادتها من خلال تجييش سكان القطاع ضدهم ودفعهم للانقلاب على الحركة، وتجريدها من ظهيرها المدني الشعبي، لافتا في بيان له إلى أن: “هذه هي اللحظة الأخيرة للإطاحة بحماس وإطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب”، بحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في موقعها الإلكتروني، وتابع “بإمكان من يهمهم الأمر أيضا الانتقال طواعية إلى مختلف دول العالم، وفقا لرؤية الرئيس الأمريكي التي نعمل على تنفيذها”.
غير أن ما يحدث على أرض الواقع ربما يتجاوز فكرة الضغط على المقاومة أو تركيعها فحسب، فالأمور تسير وفق خطة مدروسة تستهدف فرض واقع إقليمي جديد ينطلق من غزة، وتدشين معادلة توازنات مختلفة تتخذ من القطاع منطلقًا لها، وإعادة ترتيب لخارطة الشرق الأوسط برمته وفق البوصلة الأمريكية وعلى المقاس الصهيوني الاستيطاني، فالهدف لم يعد حماس كما يروج الاحتلال، ولا حتى القطاع والضفة القطاع، فالمؤامرة أكبر من ذلك بكثير.
وبالتوازي مع المخطط الإقليمي الأكبر، فإن الاحتلال يحاول تجميع أكبر قدر ممكن من أوراق الضغط يمكن توظيفها حين يضطر للجلوس على مائدة المفاوضات، فالحرب لم تستمر إلى ما دون نهاية، وحتما ستنتهي، آجلا أم عاجلا، خاصة مع الضغوط الأمريكية الممارسة مؤخرًا، والتي يتوقع أن تتصاعد بعد اشتعال الحرب التجارية بين أمريكا والصين والمأزق الذي بات فيه ترامب حاليًا والذي وضعه في مرمى الانتقادات الدولية الحادة، وعليه فمن المرجح أن يطرق أبواب التهدئة وتصفير الأزمات في أكثر من ساحة مشتعلة، قد يكون من بينها غزة.
ماذا عن الموقف المصري؟
التحرك الإسرائيلي الأخير في رفح يعزل مصر رسميًا عن قطاع غزة، ويفقدها الحد الأدنى الذي كانت تتكئ عليه في تشاركها الحدودي مع الدولة الفلسطينية، وبعد التغيرات الديموغرافية الجيوسياسية التي يعيد الإسرائيليون هندستها في القطاع مؤخرًا، تجردت الدولة المصرية من عمقها الأمني فلسطينيًا، وباتت عارية بشكل كامل في مواجهة الجيش الإسرائيلي.
بالإعلان عن ضم مدينة رفح للمنطقة العازلة، وما يعنيه ذلك من احتلال محوري فيلادلفيا ونتساريم، والسيطرة على الشريط الحدودي للقطاع جنوبًا، وغلق معبر رفح بالكامل من الجانبين، تنسف إسرائيل شكلًا ومضمونًا الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد الموقعة مع تل أبيب، وتعرض مستقبل اتفاقية السلام التطبيعية بين البلدين للخطر.
وكانت القاهرة حذرت أكثر من مرة من التغول على معاهدة السلام عبر التلويح بالسيطرة على محور فيلادلفيا، غير أن مثل تلك التحذيرات لم تثن الجانب الإسرائيلي الذي تجاهلها بالكلية وضاعف من إجهازه على بنود الملحق الأمني للمعاهدة باحتلال المحور وشريطه الحدودي بل واحتلال مدينة رفح بأكملها وإعادة هندسة القطاع أمنيًا وسياسيًا وديموغرافيًا بما يخدم أجندته الاستيطانية التوسعية.
واكتفت الخارجية المصرية ببيانات الشجب والإدانة التي استنكرت من خلالها التحركات الإسرائيلية في مدينة رفح، مؤكدة على موقفها الرافض للتهجير القسري لسكان القطاع، دون تطوير تلك البيانات إلى تحركات وإجراءات فعلية من شأنها إظهار العين الحمراء للكيان المحتل الذي يعربد بأريحية مطلقة دون أي قلق من رد فعل عربي مُلجم له ومُعرقل لتحركاته ومُهدد لأجندته.
ثمة عوامل ومؤشرات وتقديرات تُغري إسرائيل على تنفيذ كافة مخططاتها الإقليمية دفعة واحدة، فمنذ أن وطأت بأقدامها ثرى الأراضي الفلسطينية عبر عصاباتها اليهودية الإجرامية أربعينات القرن الماضي، لم تشهد حالة استئناس عربي كالذي تعايشه حاليًا، ولم تجد خذلانًا فجًا للفلسطينيين كما هو عليه الآن، بل لم يعهد الإسرائيليون تهميشًا عروبيًا للقضية الفلسطينية كالذي يجري الآن.
وفي المحصلة.. فإن ما يحدث في القطاع من تقطيع لأوصاله عبر خطة الجنرالات شمالا وضم رفح للمنطقة الأمنية العازلة جنوبًا، حتى وإن حاولت به إسرائيل فرض أمر واقع يجبر الجميع على الانصياع لمطالبها من أجل فرض التهدئة وإنهاء القتال، إلا أنه تحرك كاشف وفاضح للمخطط الإسرائيلي الذي يتجاوز فكرة القضاء على حماس إلى هندسة الإقليم برمته.. فهل تستفز مثل تلك المخططات المهددة للأمن القومي العربي من جذور، الحكومات والأنظمة العربية وتدفعها للتخلي نسبيًا عن مقارباتها المنبطحة؟