ترجمة وتحرير: نون بوست
بينما تواصل إسرائيل ارتكاب إبادة جماعية في غزة، بدعم عسكري ودبلوماسي من الولايات المتحدة والقوى الغربية، تواصل الخطابات الإمبريالية تشكيل سياق المذابح والتطهير العرقي المستمر ضد الفلسطينيين. وعلى الرغم من مرور عقود على كتاباته، لا تزال أعمال غسان كنفاني المتميزة والمتقنة تعبّر بوضوح مذهل عن نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال.
نُشرت مجموعة “كتابات غسان كنفاني السياسية المختارة” (دار بلوتو للنشر) في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أي بعد سنة من بدء الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في غزة. ومن خلال مختارات مترجمة من كتاباته السياسية، يتمكن القارئ من فهم المقاومة الفلسطينية المناهضة للاحتلال من خلال تحليلات كنفاني.
ووفقًا لما كتبه المحرران لويس برهوني وتحرير حمدي في مقدمة الكتاب، فإن هذه المقاومة هي “مواجهة بين الإمبريالية وحركة تحرر مناهضة للإمبريالية ضد احتلال استيطاني وحشي”.
تنقسم الكتابات إلى خمسة محاور رئيسية، حيث يُظهر كل فصل بشكل مميز أهمية اللغة في التعبير عن معنى المقاومة المناهضة للاحتلال، ومخاطر الانقسامات الداخلية، وضرورة النظر إلى المقاومة الفلسطينية في سياق ما تواجهه إقليميًا وعالميًا. وكل نص مترجم من أعمال كنفاني السياسية يترافق مع مقدمة وتفسير من المترجم، مما يجعل هذا الكتاب مصدرًا بالغ القيمة لفهم النضال الفلسطيني.
يُعد غسان كنفاني مرادفًا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو معروف أيضًا بأعماله الأدبية البارزة. ولم تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن اغتياله إلا في سنة 2005، حين أقرت بتنفيذ عملية اغتياله عبر تفجير سيارة مفخخة في بيروت في يوليو/ تموز سنة 1972.
وفي ضوء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فإن الوصف الدقيق الذي قدّمه غسان كنفاني لما يواجهه الفلسطينيون يحمل أهمية مطلقة وواقعية.
وفي حديثهما مع موندويس، أوضح برهوني وحمدي أهمية وضع غزة في سياق كتابات كنفاني.
ويقول برهوني: “تتميز كتابات غسان كنفاني السياسية بعمقها ودقتها التحليلية، لدرجة أنني أعتقد أنه سيكون من المستحيل علينا فهم ملامح المواجهة الحالية بشكل حقيقي دون الرجوع إلى أعماله. وهذا على الأقل صحيح من وجهة نظرنا نحن الذين يتعبرون أنفسهم كيساريين أو اشتراكيين أو ماركسيين، فتهميش أعماله يتم من قبل قوى معادية للماركسية والرؤى الثورية.”
ويعتبر برهوني أعمال كنفاني نبوءة، ويلاحظ أن غزة تبرزه بشكل خاص. ويقول برهوني: “زار كنفاني غزة، وفي رسالة إلى غادة السمان بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، كتب عن مشاعره الخاصة بالعجز إلى جانب المقاتلين الذين كانوا يواجهون الصهيونية، قائلاً مباشرة: أشعر أكثر من أي وقت مضى أن قيمة كلماتي بأسرها هي تعويض وقح وتافه عن غياب الأسلحة، ولا تساوي شيئًا أمام انتفاضة رجال حقيقيين يموتون كل يوم من أجل قضية أكن لها كل الاحترام”.
ويشير برهوني إلى أنه بعد سنة 1967، غزة أصبحت “طليعة الكفاح المسلح”، وهو ما انعكس في قرارات كنفاني التحريرية لصحيفة “الهدف” التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وأوضح: “في عهده، تم تخصيص مساحة في صحيفة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “الهدف” للعمليات ضد الاحتلال، بما في ذلك الأعمال التي قادها مقاتلون ثوريون مثل محمد الأسود، المدرب في الصين الاشتراكية والملقب بـ “جيفارا غزة”.
وفي دراسات كتابنا، نقرأ أنه في سنة 1970، أشار كنفاني إلى “القيمة الكبيرة للمقاومة المسلحة المشتعلة بقطاع غزة” والمكان الذي كانت فيه الجبهة الشعبية تحقق فيه أمجاد الكفاح المسلح.
ووفقًا لرفيقه عدنان بدر هليو، كان كنفاني مسؤولًا عن نص مؤتمر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سنة 1972، الذي يُعرف باسم “المهام أو المرحلة الجديدة”. وفي الوثيقة، تم وصف غزة بأنها المكان الوحيد الذي أثبتت فيه طليعة الثورة الفلسطينية قدرتها على شن حرب شعبية فعالة، مع الأخذ في الاعتبار التاريخ الدولي للتحرر الوطني”.
ويتوسع حمدي في الحديث عن غزة، موضحًا أهمية كنفاني في فهم الوضع الحالي؛ حيث يقول: “يواجه الشعب الفلسطيني خطر الإبادة على يد الكيان الصهيوني الإبادي. وترتبط رؤية كنفاني لتحرير فلسطين ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم أساسية محورية في فكره، مثل بناء جيل جديد من الرجال والنساء وشعب صامد ومناضل وكاتب مناضل والطبقات الكادحة ووحدة الجبهات والوحدة الوطنية وأدب المقاومة والتجذّر. وتُشكل هذه الأفكار جزءًا من أخلاق ثورية راسخة في النضال المناهض للاحتلال الصهيوني الاستيطاني، وهو ما يتضمن أيضًا رفضًا كاملاً لسياسات الاستسلام التي تروّج لها الأنظمة الرجعية العربية.”
وتعتبر دقة كنفاني متجذرة أيضًا في رفضه للإملاءات الخارجية حول ما يواجهه الفلسطينيون. وفي مقابلة مع ريتشارد كارلتون، الصحفي بقناة “إيه بي سي”، لم تقتصر إجابات كنفاني على التأكيد على قضية الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا على تصحيح المصطلحات. وعندما حاول كارلتون تحريف الرواية بعيدًا عن استخدام كنفاني لمصطلح “حركة التحرير”، قائلاً: “حسنًا، أيًا كان اسمها الأفضل”، أجاب كنفاني: “ليس “أيًا كان”، لأن هذه هي نقطة البداية”.
وحول مقابلة قناة “إيه بي سي” مع كنفاني، يقول حمدي: “بالنسبة لكنفاني، لا توجد حلول وسط، فلا مفاوضات مع العدو، ولا توقيع معاهدات استسلام أو تنازل مع الإسرائيليين. وقد وصف مثل هذه الأفعال بأنها “حوار بين السيف والرقبة”.
ويتابع حمدي قائلاً: “كان كنفاني يرى أن تحرير فلسطين وشعبها كجزء من حركة مناهضة للإمبريالية في العالم العربي وخارجه. وكان يعترف بترابط النضالات الثورية ضد الاحتلال، كما كان يؤكد على وحدة الفصائل الفلسطينية المسلحة، مشددًا على أن ضعف إحدى منظمات الفدائيين سيؤثر حتمًا على الآخرين. ويؤمن كنفاني بوحدة هذه المنظمات بشكل مطلق، رغم اختلافاتها الإيديولوجية، لأن، كما كان يجادل دائمًا، النضال المسلح من أجل التحرير يعتمد على وحدة الجبهات الملحة”.
وبينما تتعلق كتابات كنفاني بفلسطين بشكل مباشر، فإنها أيضًا ذات صلة بالعالمية. ويشرح برهوني قائلاً: “الكثير مما كتبه غسان ذو صلة مباشرة بالنشطاء الفلسطينيين والعرب، التقدميين والمقاتلين، وهم يسعون للحفاظ على مواجهتهم مع الدولة الصهيونية والقوى الإمبريالية التي تقف وراءها.
ويمكننا القول إن كتابات غسان تحمل أيضًا نوعًا من العالمية الثورية للاشتراكيين الثوريين، كمساهمات في النظريات التحررية التي تم تطويرها في النضالات الثورية الوطنية من فيتنام والصين إلى الجزائر وأيرلندا، وأيضًا إلى نظرية الثورة الماركسية التي نشأت من تجارب الاشتراكية في كوبا، أو في قلب الوحش الإمبريالي من قبل حزب النمور السوداء وغيرها من الحركات الثورية في مختلف أنحاء العالم”.
ويشير حمدي إلى أن الوحدة كانت سمة بارزة في كتابات غسان كنفاني. وكان هذا ينطبق على الفصائل الفلسطينية، فضلاً عن حركات المقاومة المناهضة للاحتلال في جميع أنحاء العالم، حيث يشترك الجميع في أسس نضال مشابه ضد الاحتلال والإمبريالية.
وعلى غرار الثوري الأرجنتيني إرنستو تشي جيفارا، الذي حارب إلى جانب فيدل كاسترو في النضال الكوبي ضد الاحتلال والإمبريالية ضد الديكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة فولغنسيو باتيستا، شرح كنفاني أيضًا ضرورة بناء وعي اجتماعي جديد.
ويوضح حمدي: “السؤال المهم اليوم هو: بعد 53 سنة من اغتيال كنفاني في بيروت، هل ناضلت القضية الفلسطينية لتحقيق الشروط التي حددها لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر؟ الإجابة البديهية هي لا، حيث إن الانقسامات التي نراها اليوم هي بالضبط ما عارضه كنفاني بشدة.
وكانت تهدف منصته الماركسية العربية التقدمية إلى مواجهة الانقسامات والطائفية التي تعصف بالعالم العربي اليوم، الانقسامات التي تم هندستها ودعمها عمدًا من قبل الإمبريالية الغربية والرجعية العربية ووسائل إعلامهم لصناعة الإجماع وتقسيم الشعوب العربية على أسس دينية وطائفية وعرقية، كما نرى في “سوريا الجديدة” اليوم. وكان كنفاني حازمًا في معارضته لتحويل “النضال ضد الإمبريالية وجهازها الدولي، إسرائيل، إلى مواجهة عنصرية ودينية”.
وبالعودة إلى غزة، يلاحظ حمدي أن كنفاني قد منحها اهتمامًا كبيرًا في كتاباته السياسية والأدبية؛ حيث رأى كنفاني في مقاومة وصمود غزة وعدًا كبيرًا، وهو موضوع عاد إليه كثيرًا في كل من كتاباته السياسية وأعماله الأدبية.
وفي مقابلة سنة 1971 مع فريد هاليداي، علق كنفاني على مقاومة غزة تحت الحصار قائلاً: “هناك أيضًا عامل نفسي: غزة محاطة من الغرب بالبحر، ومن الجنوب بسيناء، ومن الشرق بالنقب، ومن الشمال بالدولة الإسرائيلية. إن الفلسطينيين هناك محاصرون نفسيًا ومعتادون على الصعوبة… في غزة كانوا أقوى وأكثر احترافًا”.
وكان كنفاني يعتقد أن الحصار والضغط الناتج عنه جعلا الشعب أقوى وأصلب وأكثر صمودًا. وعلى عكس نوايا العدو، فإن الحصار الشديد والقصف الوحشي لغزة أسفر عن خلق شعب شجاع وقوي. شعب يقاوم بكل شجاعة، حيث تبقى مقاومته العنيفة وصموده غير مفهومة بالنسبة للعالم الخارجي”.
وفي قصته القصيرة “رسالة من غزة”، التي نُشرت في سنة 1956، صوّر كنفاني أهل غزة باعتبارهم مرتبطين ارتباطًا عميقًا بالأرض، وأن مقاومتهم تتحدى حتى أقسى الظروف. وقد أكدت تضحياتهم ومقاومتهم وصمودهم على السياسات الاستسلام المهينة والمذلة التي تنتهجها الرجعية العربية، وهي سياسة لا تزال ظاهرة حتى اليوم.
وفي هذا المثال من أدب المقاومة الذي كتبه كنفاني، يخبر الراوي صديقه في الولايات المتحدة أنه لن ينضم إليه، بل يحثه على العودة إلى غزة ليتعلم من أهلها “معنى الحياة وقيمة الوجود”، رغم الدمار والمجزرة التي يتعرضون لها بسبب القصف الإسرائيلي المستمر. وفي استكشافه لأدب المقاومة، كان كنفاني يؤكد باستمرار على ارتباطه الراسخ بالأرض والقضية. بالنسبة لكنفاني، كان الهروب والفرار من المواجهة يعدان علامات على الهزيمة.
وفيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ضد الاحتلال بشكل أوسع، وليس فقط في غزة، يلاحظ برهوني: “من المثير أن نرى كيف تطور دور وأهمية الضفة الغربية في الفترة التي تلت كتابات غسان. فخلال هذه الفترة، وصف غسان المنطقة بأنها “حاجز بشري” بين الدولة الصهيونية والأردن، التي كانت في ذلك الوقت جبهة رئيسية في حركة التحرر الفلسطينية.
ولعبت الدولة الأردنية دورًا خاصًا في سحق المقاومة في منطقة الوحدات وغيرها من المخيمات، وقد كشف غسان ورفاقه عن هذا من خلال الكلمات والأفعال والثقافة.
وساهم الاستعمار المتسارع للضفة الغربية الذي شهدناه منذ أوسلو في الدور الخبيث للرد الفعل البرجوازي العربي، الذي تم نقده بتفصيل في هذا العمل. وفي الوقت نفسه، كان غسان وغيره من الثوار الفلسطينيين يصرون على أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يقتصر على غزة والضفة الغربية.”
إن رفض السلطة الفلسطينية للكفاح المسلح يتناقض مع صمود غسان كنفاني؛ حيث يشير حمدي إلى أن: “التحرير والعودة إلى الوطن يتطلبان الحرب، كما يخبر سعيد زوجته صفية في رواية كنفاني القصيرة “العودة إلى حيفا”. وتنتمي فلسطين لأولئك المستعدين للقتال والتضحية من أجلها، كما يظهر خالد، نجل سعيد، في هذه الرواية:
بالنسبة لخالد، الوطن هو المستقبل. هكذا اختلفنا، ولهذا يريد خالد حمل السلاح… يتطلع رجال مثل خالد إلى المستقبل، لتصحيح أخطائنا وأخطاء العالم. دوف هو عارنا، لكن خالد هو شرفنا الدائم. ألم أخبرك من البداية أنه لا ينبغي لنا المجئ، لأن ذلك كان شيئًا يتطلب حربًا؟ هيا بنا!
ويؤكد حمدي أنه “لا يمكن لحركة ثورية لتحرير وطن أن تتخلى عن النضال المسلح وتتبنى التطبيع مع الكيان الاستعماري الاستيطاني – هذا هو الاستسلام والهزيمة، الموقف الذي اختارته السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية المهزومة. اليوم، تقف غزة كرمز مثالي للمقاومة والتحرير المنشود الذي، كما يقول الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في مذكراته رأيت رام الله، سيؤدي إلى ‘عودة الملايين، وتلك هي العودة الحقيقية’.”
ومع إشارة أخيرة إلى أهمية تكريم الرسالة الحقيقية للكاتب، يحذر برهوني قائلاً: “يتم إخفاء أعمال كنفاني عمدًا من قبل الأكاديميين الانتهازيين الذين يعارضون التحرير الوطني الفلسطيني عمليًا بينما يقدمون الدعم الشكلي ويتظاهرون بـ”التضامن”. وتكمن أهمية أعمال كنفاني في الكيانات الإمبريالية مثل بريطانيا والولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي في الدروس التي يمكن أن تقدمها لبناء الوعي الثوري. إنها تقدم نموذجًا من الماركسية الفلسطينية للتصدي للمحاولات الليبرالية والانتهازية التي تتجنب دعم النضال المسلح، أو التي تحاول تصوير الصهيونية كظاهرة مسيطرة على النظام بأسره.”
وأضاف برهوني: “كان غسان واضحًا في قوله إنه لا توجد حلول ليبرالية. ولا يمكن بناء المستقبل إلا من خلال مواجهة شاملة مع الإمبريالية.”
المصدر: موندويس