الشاهد الصامت على المقابر الجماعية.. حفار القبور يكشف هويته

في لحظة حاسمة، خرج محمد عفيف نايفة، أحد أبرز الشهود على جرائم نظام الأسد، من دائرة الاسم المستعار ليكشف عن هويته الحقيقية، فالرجل الذي عُرف لسنوات بلقب “حفّار القبور” أعلن اسمه الكامل، واضعًا وجهًا علنيًا على واحدة من أكثر الشهادات قسوة في تاريخ الثورة السورية.

في مداخلة أجراها يوم الأحد، 13 أبريل/نيسان الجاري، خلال مؤتمر عربي عقد في جامعة هارفارد الأمريكية، تحدث نايفة، ابن دمشق، عن سبع سنوات قضاها في مهمة لا تشبه عملًا رسميًا، بل أقرب إلى اشتراك قسري في جريمة: دفن ضحايا التعذيب الذين قضوا في معتقلات النظام السوري، في مقابر جماعية نُفّذت في سرية وظلام تامين.

سبق أن قدّم نايفة إفادته أمام الكونغرس الأمريكي عام 2019، ثم أمام المحكمة الإقليمية العليا في ألمانيا عام 2020، وفي هاتين المناسبتين، وثّق شهادته استنادًا إلى معايشته المباشرة، كاشفًا تفاصيل دفن آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في مقابر جماعية على أطراف دمشق، ضمن عمليات سرّية ممنهجة استمرت بين عامي 2011 و 2018.

“حفار القبور” ما قبل الثورة

قبل أن تتحول سوريا إلى مسرح مفتوح للموت، كان محمد عفيف نايفة، المعروف اليوم بلقب “حفّار القبور”، موظفًا مدنيًا يعمل في بلدية دمشق. حيث تلخصت مهمته في الإشراف على عمليات دفن المدنيين وفق الأصول الدينية والثقافية المعمول بها. وهو ما يتطلب دقةً واحترامًا للشعائر، وفهمًا لإجراءات الدفن الرسمية، بما في ذلك التنسيق مع الأهالي والمسؤولين المحليين، وتوفير ما يلزم لضمان دفن كريم للراحلين.

وفّرت خبرة نايفة في مجال الدفن، التي راكمها خلال عمله في بلدية دمشق، أساسًا مهنيًا راسخًا. فقد كان ملمًّا بجميع تفاصيل إجراءات الدفن، من التنسيق الأولي حتى إغلاق القبر، ملتزمًا بالحفاظ على كرامة الموتى واحترام الشعائر المرتبطة بذلك، كما جرت العادة في السياقات المدنية.

لكن مع بدء الثورة السورية، جرى استدعاؤه لتوظيف هذه الخبرة في مهمة مغايرة بالكامل وهي دفن جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في مسالخ النظام البائد، دون توثيق، ودون شعائر، في مقابر جماعية مخفية، وبأوامر مباشرة من أجهزة الدولة التي كان يعمل ضمنها.

تحول المهام.. إدارة الموت

بحسب تصريحات متفرقة أدلى بها نايفة، فقد شهد منتصف عام 2011 تحولًا جذريًا في طبيعة مهامه الوظيفية. إذ تم استدعاؤه من قبل ضباط في جهاز الاستخبارات السورية، وكُلّف بمهمة جديدة تمثلت في الإشراف على دفن جثث المعتقلين الذين توفوا تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز.

وكان يتولى نقل الجثث التي تُرحّل سرًا من الأفرع الأمنية إلى المستشفيات، ثم إلى مواقع مخصصة للدفن الجماعي بعيدًا عن أعين الجمهور.

هذا التغيير لم يكن نتاج اختيار، بل جاء في سياق أمني ضاغط، استخدمت فيه السلطات أساليب الترهيب لفرض مهام جديدة على موظفين مدنيين داخل الدولة. وبذلك انتقل نايفة من أداء وظيفة خدمية في البلدية إلى دور قسري ضمن منظومة أمنية مغلقة. 

ونُقل نايفة إداريًا للعمل في عدة مواقع، أبرزها مقبرة مدنية في بلدة نجها جنوب دمشق. إذ تم تحويل هذه المقبرة، التي كانت مخصصة للمدنيين، إلى مسرح لواحدة من أكثر الجرائم الممنهجة في تاريخ سوريا الحديث. إذ كان يقود مجموعة من العاملين المساعدين إلى المنطقة، قبل بزوغ الفجر، مستخدمًا حافلة بيضاء من طراز نيسان، تحمل صور بشار الأسد على زجاجها الأمامي.

وبالتنسيق مع إدارات المستشفيات، كان يشرف على نقل الجثث بواسطة شاحنات تبريد، مخصصة بالأصل لنقل المواد الغذائية، وهو تفصيل يقول الكثير عن كيفية تعامل النظام مع جثث الشهداء والمعتقلين.

كما نوّه في إحدى شهاداته إلى أنه في بعض الأيام، كانت تصل الشاحنات وهي محمّلة بين 100 و400 جثة، أغلبها تحمل آثار تعذيب واضحة: كدمات، كسور، حروق، وحتى علامات على الخنق أو الطلقات النارية.

بينما كان مطلوبًا منه وفريقه، إنجاز عملية الدفن بأقصى سرعة، وعدم ترك أي أثر يدل على هويات الجثث أو ظروف موتهم.

الشهادة.. حراسة الحقيقة

رغم الرقابة الصارمة والبيئة المحكومة بالخوف، احتفظ نايفة بكل ما شاهده خلال عمله، حيث دأب على إحصاء الجثث، وتسجيل أعدادها، وتتبع مصادرها. وتدوين كل ذلك في وثائق وسجلات، استخدمها لاحقًا في تثبيت أقواله باعتبارها أدلة جنائية ضد النظام السوري.

فيما أسهمت هذه القرائن في ترسيخ حقيقة المقابر الجماعية في سوريا باعتبارها جزء من سياسة قتل ممنهجة نفذها نظام الأسد على مدى سنوات الثورة. يتم تنفيذها بتخطيط مسبق، وبإشراف مباشر من أجهزة الدولة، ضمن تسلسل إداري وأمني صارم، يعكس طابعها المؤسسي ويدحض أي ادعاء بكونها جرائم عشوائية.

وقدّم عام 2019، تحت اسم “حفّار القبور”، أولى شهاداته العلنية أمام الكونغرس الأمريكي، وذلك في جلسة استماع مخصصة لمناقشة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. عرض خلالها تفاصيل موثقة عن دوره القسري في دفن جثث معتقلين قضوا تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، موضحًا الآلية التي كان يُنقل بها الضحايا من الأفرع الأمنية إلى المستشفيات، ثم إلى مواقع الدفن الجماعي.

مثّلت شهادته حينها أحد أبرز مصادر المعلومات المباشرة حول ممارسات القتل الممنهج في سوريا، وأسهمت في تعزيز الدعوات لاتخاذ إجراءات دولية أكثر حزمًا تجاه نظام الأسد.

ثم أدلى لاحقًا بشهادة أخرى، عام 2020، أمام المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، ألمانيا، في إطار أول محاكمة عالمية لجرائم ارتُكبت من قبل مسؤولين في النظام السوري. هذه القضية التاريخية حوكم فيها أنور رسلان، العقيد السابق في جهاز الأمن الداخلي، بتهم تعذيب وقتل مئات المعتقلين.

وكانت شهادته جزءًا أساسيًا من ملف الادعاء، إذ قدّم وصفًا تفصيليًا لطبيعة العمل المنظم بين أجهزة الأمن والمستشفيات ومواقع الدفن، مشيرًا إلى أن العمليات كانت تتم ضمن تسلسل إداري واضح وتحت إشراف مباشر من الدولة، ما يدحض فكرة أن هذه الجرائم كانت عشوائية أو فردية.

الأثر النفسي.. عبء الشهادة

رغم التماسك الظاهري الذي طبع روايته للأحداث، لم يُخفِ محمد عفيف نايفة الأثر النفسي الثقيل الذي خلّفته سنوات عمله القسري داخل منظومة الموت. ففي شهادات متفرقة، تحدّث عن معاناته من كوابيس متكررة وقلق دائم، وعن شعورٍ خانق بالذنب رافقه حتى بعد مغادرته سوريا. إذ لم تكن الجثث التي دُفنت تحت التراب تُمحى من ذاكرته، بل ظلّت تطارده كوجوه مجهولة تطلب الاعتراف والإنصاف.

ذلك العبء النفسي تحوّل لاحقًا إلى دافع للمواجهة والكشف، كما يقول، حيث آمن أن الصمت سيكون جريمة ثانية، وأن الشهادة – رغم ألمها – هي الطريق الوحيد للنجاة من حمل ثقيل لا يمكن احتماله بصمت.

في ختام ظهوره العلني الأخير في جامعة هارفارد، حمَل محمد عفيف نايفة، رسالة مزدوجة: واحدة تتجه نحو العدالة، وأخرى نحو رفع المعاناة عن الشعب.

وفي كلمة صريحة، دعا إلى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، والتي ساهمت شهاداته ذاتها في تبرير فرضها على نظام الأسد. وأشار نايفة إلى أن هذه العقوبات، رغم كونها استهدفت النظام، لا تزال تثقل كاهل السوريين بعد مرور 4 أشهر على سقوطه، وتُبقي المدنيين رهائن لحصار اقتصادي لا ذنب لهم فيه.

وفي الوقت ذاته، شدد نايفة على أن المسار القضائي يجب ألا يتوقف، وأن العدالة لا تكتمل إلا بمحاكمة كل من تورط في ارتكاب الجرائم بحق السوريين، دون استثناء. فقد “انتهى النظام، لكن آثار جرائمه ما زالت ماثلة، ولا يمكن طيّ صفحتها إلا إذا نال كل مجرم جزاءه أمام القضاء.” في دعوة موجهة إلى دول العالم والحكومة السورية لتحقيق توازن بين المساءلة والرحمة، وبين العدالة وتخفيف المعاناة عن من تبقّى.

وبالكشف عن هويته التحق “حفّار القبور” بركب الشخصيات التي قررت كسر جدار الصمت وكشف هويتها، تمامًا كما فعل “قيصر” – المساعد أول فريد المذهان – الذي كشف جرائم التعذيب في سجون النظام السوري بصور وثّقت مقتل آلاف المعتقلين.

وبظهوره العلني، أصبح “حفّار القبور” شاهدًا جديدًا على وحشية النظام، مسلطًا الضوء على الجرائم التي ارتُكبت في المقابر الجماعية وعمليات الدفن السرية التي شارك في توثيقها. ومثله مثل قيصر، فإن قراره بالكشف عن هويته جاء ليمنح الشهادات طابعًا إنسانيًا مباشرًا، ويعزز مصداقية الجهود الدولية الساعية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.