في مشهد مهيب، فرض نفسه على وسائل الإعلام، احتشد مئات الآلاف من البنغلاديشيين في العاصمة داكا، السبت 12 أبريل/نيسان الماضي، من أجل التضامن مع غزة وتنديدًا بالانتهاكات الإسرائيلية، في أكبر حشد تشهده البلاد من أجل فلسطين منذ سنوات.
ورفع المحتجون الذين احتشدوا في حديقة سهروردي والمناطق المحيطة بها، بقلب العاصمة البنغالية، الأعلام الفلسطينية، مرددين هتافات “فلسطين حرة”، كما سلطوا الضوء على المجازر الدموية التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق أطفال ونساء غزة من خلال حمل توابيت رمزية تمثل الضحايا الذين سقطوا جراء الهجمات الإسرائيلية الوحشية، متهمين الإدارة الأمريكية والهندية معًا بدعم الكيان المحتل.
وعلى عكس المعتاد على الساحة البنغالية، غابت الشعارات السياسية والطائفية والفئوية عن المشهد الاحتجاجي، حيث اكتفى المشاركون من مختلف الأطياف السياسية والدينية بالهتافات الداعمة لغزة والمنددة بالاحتلال، فيما توحد الجميع، مؤيدون ومعارضون، محافظون ويساريون وإسلاميون، تحت عنوان واحد “دعم القضية الفلسطينية”.
بنغلاديش تعلن إعادة تطبيق عبارة “هذا الجواز صالح لجميع دول العالم باستثناء إسرائـ..ـيل pic.twitter.com/etR5P6nobb
— المرصد (@almarsd_news) April 14, 2025
وفي اليوم التالي مباشرة، استيقظ البنغاليون، صبيحة الأحد 13 أبريل/نيسان الجاري، على قرار مفاجئ، حيث إعادة إدراج عبارة “باستثناء إسرائيل” على جوازات سفر المواطنين، ما يعني فعليًا منع البنغلاديشيين من السفر إلى تل أبيب، وهي العبارة التي أزيلت من على جوازات السفر خلال السنوات الأخيرة من ولاية رئيسة الوزراء المعزولة الشيخة حسينة.
تعكس تلك المواقف والأحداث المتلاحقة على الساحة البنغالية حجم ومستوى الدعم الذي تقدمه داكا لغزة والقضية الفلسطينية بصفة عامة، ورغم الوضع الاقتصادي الهش والاضطرابات السياسية والأمنية التي تشهدها البلاد إلا أن ذلك لم يحول دون نصرتها لحقوق الشعب الفلسطيني، والتنديد بجرائم الاحتلال وأعوانه رغم ما يمكن أن يترتب على هذا الموقف من أثمان باهظة وكلفة عالية.
ويُرسخ هذا المشهد عمق العلاقة البنغالية الفلسطينية، والتي تعود إلى حرب تحرير بنغلاديش عام 1971، حيث الدعم المطلق الذي تقدمه الدولة ذات الـ 170 مليون نسمة، أغلبهم من المسلمين، لقيام دولة فلسطينية مستقلة، ولا تربطها أي علاقات دبلوماسية مع الكيان المحتل رغم الضغوط التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية.
دعم غزة في حربها ضد الاحتلال
منذ اليوم الأول لحرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال في غزة، أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأعلنت داكا دعمها الكامل للشعب الفلسطيني والتنديد بجرائم الجيش المحتل التي وصفها وزير الخارجية البنغالي حسن محمود بـ”جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والذي طالب بضرورة محاسبة حكومة إسرائيل عليها.
ودعت الحكومة البنغالية مرات عدة منذ اندلاع الحرب لضمان وصول المساعدات الإنسانية لسكان القطاع المحاصرين، وفي كلمته خلال مؤتمر القمة الـ 15 لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي عقد في العاصمة الغامبية، بانجول، في مايو/أيار 2024 دعا وزير الخارجية البنغالي أعضاء المنظمة بضرورة الانخراط في جهود دولية واسعة ومتعددة المسارات لإنهاء أزمة غزة.
أما على المستوى الشعبي، فٌسمح للشارع البنغالي بالخروج للتعبير عن موقفه الداعم لغزة وحقوق الشعب الفلسطيني والمندد بجرائم الاحتلال، والمطالب بمحاسبة كل المتورطين والضالعين في حرب الإبادة التي يتعرض لها الغزيون، سواء جيش الاحتلال أو القوى الداعمة له.
في مشهد استثنائي، مئات المتظاهرين يلوّحون بأعلام #فلسطين من فوق قطار في بنغلاديش، تضامناً مع القضية الفلسطينية ورفضاً لحرب الإبادة على #غزة.#FreePalestine pic.twitter.com/3Rwj9WVSXe
— نون بوست (@NoonPost) April 13, 2025
وكان للجامعات في بنغلاديش دورًا محوريًا في هذا الحراك الشعبي، حيث نظم الطلاب عشرات الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات داخل حرم جامعاتهم لإدانة الهجمات الإسرائيلية على غزة والتضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث أطلقوا حملة إعلانية وإعلامية وتعليمية شاملة لدعم الفلسطينيين.
وشهدت الجامعات خلال الأشهر الماضية العديد من المسيرات الحاشدة، وسط دعوات لمقاطعة أكاديمية من أجل غزة، حيث عٌلقت الأنشطة التعليمية والأكاديمية داخل المؤسسات التعليمية البنغالية، ومن أبرز الجامعات التي استجابت تلك الحملة، جامعة دكا، التي أعلنت في بيان لها، تعليق الامتحانات والدروس، مؤقتًا، دعما للطلاب الذين أكدوا أن الإبادة الجماعية في غزة قضية “تتجاوز السياسة”، مطالبين الحكومة بفرض مقاطعة مالية على “إسرائيل”.
نصير قوي للقضية الفلسطينية
شهدت السنوات الأخيرة عددًا من المواقف والأحداث التي تبرهن على لحمة الصداقة القوية التي تجمع بين بنغلاديش وفلسطين، حكومات وشعوب، وكيف أن الأولى باتت واحدة من أكثر البلدان الناصرة والمؤيدة والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته التاريخية، وهو ما توثقه العديد من القرارات والمواقف التي اتخذتها في هذا المسار.
في ديسمبر/كانون الأول 2020 وخلال مشاركته الافتراضية بالاحتفال بيوم النصر البنغالي، والذكرى المئوية لميلاد رئيس بنغلادش الأسبق الشيخ مجيب الرحمن، المعروف باسم “بانغاباندو” أو “صديق البنغال”، أكد وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني، رياض المالكي، متانة العلاقة التي تربط دولة فلسطين وجمهورية بنغلاديش الشعبية، وأنها مثال على الرابطة الإنسانية بين دولتين وشعبين.
وأشار المالكي إلى أن العلاقة بين البلدين مبنية على أسس وروابط الصداقة القوية والدعم والتضامن بين البلدين، واصفًا داكا بأنها نصير ثابت وقوي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، اضافة الى انها داعم قوي لتحقيق حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف.
واستشهد الوزير الفلسطيني بالخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس البنغالي الأسبق مجيب الرحمن في قمة حركة عدم الانحياز بالجزائر عام 1973 حين أعرب عن دعم بلاده الثابت للحق المشروع والنضال العادل للشعب الفلسطيني والمعارضة بشدة للاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي لأرض دولة فلسطين.
وفي يونيو/حزيران 2012 وخلال مؤتمر صحفي عقده وزير خارجية بنغلاديش – آنذاك- أبو الكلام عبد المؤمن، مع سفير فلسطين لدى بلاده يوسف رمضان، أكد إدانته الكاملة للجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، مشيرًا إلى أنها “ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
وأضاف عبد المؤمن بشكل قاطع وواضح أن بلاده لم ولن تعترف بـ “إسرائيل” قبل أن ينال الشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس، واصفا العلاقة التي تربط بنغلاديش وفلسطين بـ “العلاقة الروحية المتأصلة والتي لا يمكن لأحد أن يعبث بها”.
وفي المقابل، ثمّن السفير الفلسطيني موقف حكومة بنغلاديش وشعبها، الداعم للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في كافة المحافل الدولية، مؤكدًا على ثبات العلاقة التاريخية بين الدولتين والمتجذرة منذ 50 عامًا، كما وجه الشكر للتبرعات المالية التي قدمها البنغاليون – رغم أوضاعهم الاقتصادية الصعبة- للشعب الفلسطيني لتجاوز المعاناة التي يتعرضوا لها بسبب الجرائم الإسرائيلية، في رسالة تحمل الكثير من الدلالات.
لا علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل”
تُعد بنغلاديش واحدة من الدول الـ 29 الأعضاء في الأمم المتحدة التي لا تعترف بدولة “إسرائيل”، بجانب أنها من البلدان القليلة التي تحظر رسميًا على مواطنيها السفر إلى تل أبيب ولا تقبل جوازات السفر الإسرائيلية، كما أنها لا تحتفظ معها بأي علاقات دبلوماسية تحت أي مسمى، وتقول صراحة إنها لن تعترف بالكيان الإسرائيلي حتى توجد فلسطين المستقلة.
ورغم أن “إسرائيل” كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال بنغلاديش بعد حرب التحرير التي خاضتها عام 1971، كما أيدت تطلعات الشعب البنغالي في استقلال وطنه، وأعربت عن استعدادها لدعمه بأي شكل من الأشكال، إلا أن الحكومة البنغلاديشية قد رفضت رسميا هذا الاعتراف الإسرائيلي، حيث أصدر وزير خارجية البلاد آنذاك، خندكر مشتاق أحمد، رسالة يقول فيها إن هذا الاعتراف غير مقبول.
وفي نوفمبر/ تشرين ثان 2003 ألقت السلطات البنغالية القبض على صحفي بنغالي يدعى “صلاح شودري” بسبب محاولته السفر إلى تل أبيب، بما يخالف موقف الدولة الرسمي، حيث قُدم للمحاكمة وقتها بعد أن وجهت إليه تهمة “إثارة الفتنة، والخيانة، والتجديف”، وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات.
وحاولت تل أبيب أكثر من مرة مغازلة داكا لإقامة علاقات دبلوماسية معها، لكنها المحاولات التي مٌنيت بالفشل، ففي سبتمبر/أيلول 2011 قال متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، في بيان نشرته صحيفة “جروزاليم بوست” العبرية: “ليس لدينا صراع مع بنغلاديش، نحن نريد الحوار، نحن نريد العلاقات بين الشعبين، ونرحب بشعب بنغلاديش القائم على العقيدة الدينية لزيارة أرض القدس المقدسة”، وفي عام 2014 قالت الشيخة حسينة، رئيسة الوزراء البنغالية – آنذاك- إن بلادها تدعم الفلسطينيين وأن احتلال الإسرائيليين لأرضهم لا يمكن قبوله أبدًا.
القطيعة البنغالية مع الكيان الإسرائيلي -والمنبثقة في الأساس من الدعم الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني- لا تقتصر على الجانب الدبلوماسي والسياسي وفقط، كما هو الحال في كثير من الحالات الأخرى، لتمتد إلى البعد الاقتصادي كذلك، حيث تواصل بنغلاديش فرض حظر على التجارة مع دولة الاحتلال رغم أن كلا البلدين عضوين في منظمة التجارة العالمية.
فلسطين- بنغلاديش.. 50 عامًا من العلاقات الثنائية
تعود العلاقة بين الدولتين إلى حرب تحرير بنغلاديش عام 1971، حيث الاتصالات بين القيادات البنغالية ومنظمة التحرير الفلسطينية، ورغم تباطؤ الدول العربية في الاعتراف بالدولة البنغلاديشية حديثة النشأة، إلا أن داكا دعمت الفلسطينيين بشكل كبير خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حيث أرسلت فريق طبي وإمدادات الإغاثة للفلسطينيين، وهو ما فتح الباب على تدشين علاقات دبلوماسية بين الطرفين.
وفي عام 1974 كان الاجتماع الأول بين البلدين على مستوى رفيع، عندما التقى رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات برئيس الوزراء شيخ مجيب الرحمن، على هامش مؤتمر القمة الثاني لمنظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في مدينة لاهور الباكستانية، لتتوالى بعد ذلك الاتصالات الدبلوماسية بين الدولتين.
وخلال عام 2009 بدأت خطوات تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عبر تبادل السفراء، ففي 6 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام سّلم غلام أحمد أوراق اعتماده سفيرًا غير مقيم لبنغلاديش إلى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس في العاصمة الأردنية عمان، فيما قدمت ناهده سُبحان أوراق اعتمادها سفيرةً غير مقيمة لجمهورية بنغلادش الشعبية لدى دولة فلسطين إلى وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني رياض المالكي، في 9 فبراير/شباط 2021.
واتسمت العلاقات بين البلدين على مدار 5 عقود كاملة بالتفاهم والتناغم الأقرب للتطابق في دعم كافة حقوق الشعب الفلسطيني، حيث قدمت بنغلاديش، الدولة غير العربية، نموذجًا جليًا في مسألة الانتصار للمبادئ والإنسانية مهما كانت التبعات والعواقب، وبصرف النظر عن الانتماءات العرقية والأيديولوجية، حين أغلقت الباب تمامًا أمام مغريات الاحتلال لتدشين علاقات دبلوماسية معه ولو في أضيق الحدود، رغم الضغوط القاسية والكلفة الباهظة التي تعرضت لها على مدار سنوات، كانت -ولا تزال تعاني- فيها من أوضاع اقتصادية صعبة قادت أكثر من مرة نحو اضطرابات سياسية وأمنية وفوضى داخلية.