منذ استئناف الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الواسع على قطاع غزة، بعد انقلابه على المسار التفاوضي في مارس/آذار 2025، بدت ملامح مرحلة جديدة في إدارة الحرب تتجاوز أهداف الردع الظرفي أو استنزاف المقاومة إلى محاولة فرض واقع جغرافي وسياسي جديد، يعيد رسم حدود القطاع ويرسِّخ مفهوم “الهندسة الأمنية”.
تدل المؤشرات الميدانية أن “إسرائيل” تتجه نحو استراتيجية قائمة على السيطرة التدريجية على “المحيط” الغزي، وتحويل مناطق الأطراف إلى مناطق عازلة متعددة الوظائف: أمنية، وسياسية، وتفاوضية.
المحاور العسكرية النشطة: طوق ناري يلتف على القطاع
تُظهر خريطة العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة نمطًا ميدانيًّا قائمًا على تطويق القطاع من أطرافه، عبر فتح عدد واسع من المحاور العسكرية في وقتٍ واحد.
ووفق ما أورده المحلل العسكري الإسرائيلي، دارون كادوش، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يعمل حاليًّا في عشرة محاور نشطة، موزعة بشكل دائري حول القطاع، في ما يبدو أنه طوق ناري يمتد من شماليه حتى أقصى جنوبيه.
الاحتلال الإسرائيلي يُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على النزوح مجددًا، ويحوّل ثلثي قطاع #غزة إلى مناطق محظورة وأخرى مخصصة للتهجير القسري. pic.twitter.com/Xjdm2Ag6YO
— نون بوست (@NoonPost) April 5, 2025
تشمل هذه المحاور: الساحل الشمالي ومنطقة العطاطرة، وبيت حانون، وحي الشجاعية، وحيَّي الدرج والتفاح شرق مدينة غزة، كما تنشط القوات في محور نتساريم وسط القطاع، حيث تسيطر على نصف الممر حاليًّا، ما يمنحها موقعًا استراتيجيًّا يسمح بقطع أو عزل شمالي القطاع عن جنوبيه.
أما في الجنوب، فتتقدم القوات في منطقة خربة خزاعة شرقي خان يونس، وتتحرك بشكل مكثف على محور “فيلادلفيا”، الحدودي مع مصر، في ظل عمليات عسكرية متواصلة تستهدف رفح.
تتخذ العمليات في رفح طابعًا اجتياحيًّا شاملاً، إذ تتركز الهجمات في أحياء مثل تل السلطان والشابورة، وتمتد شرقًا نحو محور “موراج”، الذي بات بمثابة الحد الميداني الفاصل بين مدينتَي رفح وخانيونس. وتُعد هذه المحاور الجنوبية اليوم الأكثر فاعلية من حيث التمدد الميداني الإسرائيلي، مقارنةً ببقية المحاور في الشمال والوسط.
وعلى الرغم من هذا الانتشار الواسع، تُسجَّل ملاحظة استراتيجية لافتة هي أن غالبية هذه المحاور لا تمتد فعليًّا إلى عمق المناطق الحضرية في القطاع، باستثناء رفح ومحور “موراج”، ما يعني أن الجيش الإسرائيلي يتجنب التوغل المباشر داخل التجمعات السكانية الكبيرة، ويركِّز بدلًا من ذلك على السيطرة المحيطية، متَّبعًا استراتيجيةً تقوم على تطويق غزة من الخارج والعمل على قضمها تدريجيًا.
يعكس هذا التوجه ملامح ما بات يُعرف باستراتيجية “القضم المحيطي”، وهي منهجية عسكرية تهدف إلى تقليص مساحة القطاع الفعلية، دون خوض معارك كبرى في العمق، عبر السيطرة على المناطق الطرفية، وتثبيت مواقع جديدة للجيش، بما يخلق أمرًا واقعًا جغرافيًّا يُوظَّف لاحقًا في الحسابات التفاوضية والسياسية.
تكتيك “الدفع إلى الداخل”: محيط يتحرك ويأكل الداخل
يُمارس جيش الاحتلال الإسرائيلي سياسةً ميدانيةً تقوم على تحويل الشريط الحدودي المحيط بالقطاع (بعمق تقريبي 1 كيلومتر) إلى منطقة عازلة متقدمة، تُدفع تدريجيًّا نحو العمق الفلسطيني. ويجري ذلك بوتيرة متزامنة، وفي عدة محاور في آنٍ واحد، بهدف تقليص مساحة القطاع تقليصًا متوازيًا وبطيئًا، دون الحاجة لخوض معارك كاسحة داخل المراكز السكانية الكثيفة.
كيف يُنفَّذ هذا التكتيك؟
- تمهيد ناري مكثَّف ومسبَق لتطهير المحاور من الكمائن.
- تقدُّم آلي محدود ومنضبط في المناطق “المحروقة” أو المُخلاة من السكان.
- إحكام السيطرة على مفاصل جغرافية مركزية (مرتفعات، وشوارع، ومفترقات).
- تثبيت نقاط تمركز دائمة تجري عبرها مراقبة المناطق العازلة وإدارتها.
يُستخدم هذا التكتيك لتحقيق أهداف مركَّبة: تقليص عمق العمل المقاوم، وتقليل الضغط السياسي الناتج عن سقوط خسائر بشرية إسرائيلية، وخلق جغرافيا جديدة تخدم أغراضًا استراتيجية وتفاوضية.
إضافةً إلى ما سبق، يسمح هذا التكتيك لحكومة الاحتلال بتجنب الضغط السياسي الداخلي من الائتلاف الحكومي بضرورة استئناف العمليات العسكرية بزخم، عبر تقديم العمليات الحالية على أنها ناتجة عن استخلاص هيئة الأركان الجديدة في جيش الاحتلال لتجارب وإخفاقات المناورة البرية الواسعة للجيش الإسرائيلي منذ بداية الغزو البري في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
📌 #رفح.. رحلة مدينةٍ فلسطينية من بوابة حضارات إلى خط نار لا ينطفئ.
منذ آلاف السنين، كانت رفح حدًّا للتاريخ، بوابة للتجار والحجّاج، ومعبَرًا للفاتحين.. واليوم، صارت عاصمة اللجوء والمحرقة، حيث لا يعلو على صوت النار سوى صمت العالم.
تابعوا قصة المدينة في هذا الإنفو🔗 تفاصيل… pic.twitter.com/iXH9xiIIiZ
— نون بوست (@NoonPost) April 11, 2025
تُجسِّد مدينة رفح المثال الأوضح لتطبيق استراتيجية “القضم التدريجي” وتحويل المناطق الطرفية إلى نطاقات أمنية محروقة، فعلى مدار الأشهر الماضية، وعلى الرغم من فترات التهدئة، حافَظ الاحتلال الإسرائيلي على سيطرة نارية شبه دائمة على معظم أجزاء المدينة، انطلاقًا من الحدود الجنوبية مع مصر وصولًا إلى وسط الأحياء المكتظة مثل الشابورة.
ومع استئناف العمليات البرية، تحوَّلت العمليات إلى اجتياح فعلي شمل المناطق الشمالية من رفح، ولا سيما أحياء الجنينة وخربة العدس ومصبح، قبل أن تمتد رقعة السيطرة شرقًا إلى محور موراج، وغربًا حتى مواصي رفح، ما يعني أن المدينة باتت عمليًّا تحت تطويق شامل.
تعكس هذه العمليات توجُّهًا واضحًا لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لتجريد رفح من قاعدتها السكانية، وتحويلها إلى “أرض ميتة” خالية من الحياة المدنية، يمكن التحكم بها عسكريًّا دون أعباء المواجهة مع مقاومة شعبية أو مراكز عمرانية مأهولة.
وفي هذا السياق، تسعى “إسرائيل” إلى فصل المدينة جغرافيًّا عن قطاع غزة، عبر شريط حدودي عازل يمتد بطول 14 كيلومترًا على جانبَي الحدود، يشمل الأراضي المصرية السابقة التي تم إخلاؤها منذ سنوات، والأراضي الفلسطينية المدمَّرة مؤخرًا.
يتجاوز هدف العملية في رفح الاعتبارات الميدانية التقليدية، ليصل إلى البعد الاستراتيجي المرتبط بمنظومة الأمن الإسرائيلي، فبتحويل رفح إلى منطقة فاصلة، تسعى “إسرائيل” إلى القضاء على ما تعدُّه “شرايين الإمداد” للمقاومة الفلسطينية، ولا سيما عبر الأنفاق الحدودية، والممرات اللوجستية (المُفترضة) والممتدة من الجانب المصري.
ومع هذا الإطباق، تُقدِّم “إسرائيل” نفسها بوصفها الطرف الوحيد القادر على التحكم الكامل بمنافذ القطاع، تمهيدًا لفرض شروطها الأمنية ضمن أي تسوية مستقبلية.
المقاومة.. غياب تكتيكي لا غياب استراتيجي
على الرغم من التمدد الإسرائيلي في عدد من المحاور داخل قطاع غزة، لم تُسجَّل مواجهات ميدانية كبرى في خلال الأسابيع الأخيرة، ما فسَّره بعض المحللين الإسرائيليين على أنه نتيجة لنجاح التكتيكات البرية الجديدة التي يتَّبعها جيش الاحتلال في تحييد العقد القتالية للمقاومة.
وقد زعمت تقارير إسرائيلية أن القتال في غزة يكاد يكون غائبًا، وأن العمليات العسكرية تجري بقوات محدودة على الأطراف دون التوغل إلى داخل المدن، مع تأجيل استدعاء جنود الاحتياط، كما أشارت التقارير إلى حرص رئيس الأركان، إيال زمير، على تقليل الخسائر البشرية، وتجنُّب الانزلاق إلى مواجهات دامية مع المقاومين.
على عكس هذه الرواية، تشير المعطيات الميدانية إلى أن ما يبدو غيابًا للمقاومة في الواقع خيار مدروس، يعبِّر عن استراتيجية مضادة تتبناها المقاومة الفلسطينية، تقوم على فحص دقيق لسلوك الجيش الإسرائيلي وخططه الهجومية الجديدة.
كما أن المقاومة لا تتعجل الاندفاع إلى المساحات المكشوفة التي ينشط فيها الاحتلال، لا لعجز في القدرة على المواجهة، بل في سياق تطوير استراتيجية دفاعية مرنة، تواكب تطورات المشهدين الميداني والسياسي.
تقوم هذه الاستراتيجية على جملة من المبادئ المركزية، أبرزها التقنين في استخدام الذخيرة، في ظل حرب استنزاف طويلة النَّفَس وحصار خانق يجعل تعويض الذخائر أمرًا بالغ الصعوبة، ما يفرض على المقاومة ترشيد استخدام الصواريخ والقذائف.
كما تعتمد على تجنُّب حرق القدرات الخاصة في هذه المرحلة التفاوضية، إذ تمنح الأولويةَ لوقف العدوان، وتُجنُّب الكشف عن أدوات مواجهة أو كمائن أُعِدَّت مسبقًا، دون ضرورة عملياتية أو استراتيجية حاسمة.
كذلك، تتعمد المقاومة تأجيل المواجهات الكبرى لتفادي استخدامها ذريعةً لتعليق المسار السياسي أو تعزيز الضغوط الدولية لنزع سلاحها، وفي الوقت نفسه تُواصل التحضير لمعركة نوعية لاحقة، على غرار ما جرى بعد انهيار التهدئة الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2023، إذ قد تباغت الاحتلال بضربات دقيقة تستهدف تمركزاته داخل أراضي القطاع.
بالتالي، فإن “الهدوء المؤقت” لا يُعبِّر عن غياب للقدرة، بل عن تقدير تكتيكي مدروس، يعكس تحكمًا في مسار المعركة ضمن قواعد اشتباك مرنة ومتحركة. وقد أثبتت تجربة المقاومة في خلال شهور حرب الإبادة قدرتها على إيقاع الخسائر بقوات الاحتلال، حتى في المناطق التي يدَّعي إحكام سيطرته عليها، كما في رفح وبيت حانون، ما يعزِّز من فرضية أن الصمت الحالي يخفي خلفه الكثير من التحضير والتخطيط لما هو قادم.
حدود متعددة الطبقات
يمكن قراءة ما يجري في غزة منذ عودة العمليات البرية بوصفه التطبيق الحي للعقيدة الأمنية الإسرائيلية الجديدة، التي تبلورت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي تقوم على إنشاء حدود متعددة الطبقات.
تعتمد الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة على مبدأ الحدود متعددة الطبقات، وتُكيَّف هذه الطبقات وفق طبيعة العلاقة مع الدول أو الكيانات المجاورة، إما على الحدود مع الدول المرتبطة باتفاقيات سلام (مثل مصر والأردن) يركِّز الاحتلال على تعزيز الردع من خلال البُنى الدفاعية الثابتة.
وإما على الجبهات النشطة أو شبه النشطة (غزة، لبنان، الجولان)، فقد وضعت المؤسسة الأمنية تصورًا ميدانيًّا أكثر تعقيدًا يشمل ثلاث طبقات: دفاع مباشر داخل الأراضي المحتلة، ودفاع متقدم داخل أراضي الخصم، وأخيرًا نزع السلاح من مناطق التهديد.
في الطبقة الأولى، يُقام شريط دفاعي مباشر يشمل مواقع ثابتة، وجدرانًا عازلة، وأجهزة استشعار، ووحدات قتالية عالية الجاهزية، تهدف إلى منع التسلل وضمان سرعة الرد. في غزة مثلًا، يجري التأسيس لوجود دائم من خلال مواقع ثابتة قرب محاور مثل “فيلادلفيا” و”موراج”، في حين تنتشر في الجولان ولبنان مواقع متقدمة على ارتفاعات تُشرف على أراضي الخصوم.
وتُترجَم الطبقة الثانية عبر التوغل داخل أراضي “الخصم” وإنشاء مناطق أمنية عازلة، كامتداد للسيطرة الميدانية، ويتمثل هذا حاليًّا في غزة عبر مناطق داخلية يُعلِن الاحتلال نيتَه البقاء فيها، وفي لبنان من خلال المواقع التي تحتلها “إسرائيل” بعد اتفاق وقف إطلاق النار، وكذلك في الجولان السوري عبر الانتشار داخل المنطقة الفاصلة.
تتكامل هذه الطبقات مع شرط أساسي تسعى “إسرائيل” إلى فرضه ضمن أية تسوية مستقبلية، وهو نزع السلاح الكامل من مناطق التهديد، بدءًا بغزة التي يُشترط فيها نزع الصواريخ والمسيَّرات وحتى الأسلحة الفردية، وصولًا إلى جنوبي لبنان حيث تطالب “إسرائيل” بإخضاع المنطقة جنوب الليطاني، والجولان السوري حيث تريد فرض منطقة منزوعة السلاح حتى الحدود مع الأردن، مع احتفاظها بحق التدخل العسكري المباشر لفرض ذلك إذا اقتضت الحاجة.
وقد طبَّقت “إسرائيل” هذا النموذج في لبنان وسوريا، وتحاول الآن فرضه على غزة عبر محوري “فيلادلفيا” و”موراج”، وربما لاحقًا على ممر “نتساريم”، إضافةً إلى المنطقة العازلة على طول الكيلومتر أو أعمق شرقي قطاع غزة، والتهديدات بتعميق السيطرة على مدن الحافة الشمالية بيت حانون وبيت لاهيا.
البُعد التفاوضي: الوقائع الميدانية بوصفها أوراق ضغط
تكمن خطورة هذه الاستراتيجية في بعدها التفاوضي، فهي لا تسعى إلى إحداث تغيير في المعادلة الأمنية فحسب، بل إلى فرض “إعادة تفاوض” على الوقائع الجديدة، فعبر قضم الأراضي، وتغيير الجغرافيا، يصبح أي اتفاق سياسي لاحق مشروطًا بالتعاطي مع هذه الوقائع، ما يعني:
- إسقاط تفاهمات يناير/كانون الثاني 2025 عمليًّا.
- فرض سقوف أقل لأي اتفاق مستقبلي.
- إجبار المقاومة والفصائل الفلسطينية على تقديم تنازلات أكبر مقابل استعادة جغرافيا أو وقف العدوان.
بناءً عليه، يمكن التلخيص بأن عمليات الاحتلال العسكرية في قطاع غزة لم تعد مجرَّد عمليات عسكرية تقليدية تهدف إلى الوصول إلى أسراه أو الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات، بل تُشكِّل سلسلةً من العمليات التراكمية لإنجاز مشروع استراتيجي متكامل لإعادة تعريف الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية، بما يخدم عقيدةً أمنيةً جديدةً ويرسم ملامح مرحلة قادمة تقوم على قاعدة “حسم الصراع” مع الشعب الفلسطيني.
في المقابل، تختار المقاومة التريث والمواجهة الذكية، ما يفتح الباب على احتمالات متداخلة ومعقدة في الأسابيع المقبلة، تتراوح بين فرض واقع دائم بالقوة، أو انفجار جولة ميدانية أعنف، أو فرض تسوية جديدة بمضامين مختلفة كليًّا.