لم يكن الالتزام بالقضية الفلسطينية، الذي عبّر عنه المغاربة من خلال الحراك الشعبي الواسع منذ السابع من أكتوبر 2023، أمرًا طارئًا أو مستجدًا؛ فقد تجسّد هذا الالتزام عبر وقفات ومسيرات تضامنية عمّت مدن المغرب، مؤكدةً عمق العلاقة التاريخية بين الشعبين، ويكفي أن يُذكر باب المغاربة وحارتهم في القدس، كشاهد على قِدم هذا الارتباط ومتانته.
منذ بدايات القرن العشرين، ترجم رموز الحركة الوطنية المغربية هذا الالتزام من خلال مواقف ومحطات متعددة، لا سيما بعد فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، والذي جاء بعد سنوات قليلة من خضوع المغرب للاستعمار الفرنسي والإسباني، وهي مرحلة شكلت حافزًا لتعميق أواصر التضامن بين شعبين كانا يواجهان تحديات استعمارية متشابهة.
وبعد نكبة عام 1948، أصبحت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في الوعي المغربي، فرافقت أحاديث الناس اليومية، وتجلّت في الإبداع الفني والأدبي، وغدت بمثابة بوصلة أخلاقية يُقاس بها موقف الأفراد من جميع أشكال الظلم والاضطهاد في العالم.
إلى جانب المسيرات الشعبية التي شهدتها مختلف المدن المغربية، ظل حضور فلسطين متجذرًا في ذاكرة المغاربة ووجدانهم، وقد عبّروا عن ذلك بطرق متعدّدة، من بينها الفن والأدب، وتسمية شوارع وأحياء وبنايات بأسماء فلسطينية، فضلًا عن تبادل البعثات الطلابية وغيرها من مظاهر التضامن الثقافي والرمزية.
القدس في الذاكرة المغربية
بعد تحرير القدس بمشاركة الجنود المغاربة ضمن جيش صلاح الدين الأيوبي، والذي شكّل فيه المغاربة ما بين 20 و25 في المئة من المقاتلين، كُوفئوا على تضحياتهم العظيمة في معركة التحرير بمنحهم قطعة أرض خاصة، أُطلق عليها لاحقًا اسم “حارة المغاربة”، اعترافًا بدورهم البطولي في الجهاد من أجل القدس.
وقد استوطن عدد من المغاربة هذه الحارة، التي بقيت قائمة حتى دمرها الاحتلال الإسرائيلي بالكامل عقب حرب عام 1967، وتُعدّ حارة المغاربة دليلًا ماديًا وحيًّا على قِدم العلاقة التي تجمع الشعب المغربي بفلسطين عمومًا، وبالقدس على وجه الخصوص، حيث كان المغاربة في السابق يؤدون فريضة الحج، ثم يمرّون في طريق عودتهم عبر المسجد الأقصى، باعتباره ثالث أقدس موقع في الإسلام.
ومع تصاعد الأطماع الصهيونية في أرض فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني، وهي المرحلة التي تزامنت مع خضوع المغرب للاستعمار الفرنسي والإسباني، وجد رموز الحركة الوطنية المغربية أنفسهم في موقع تضامن طبيعي مع حركات التحرر العربية والمغاربية.
وقد عبّر هؤلاء الرموز عن دعمهم العميق للقضية الفلسطينية في مناسبات ومحطات عدة، واضعين إياها في صدارة أولوياتهم، ومؤمنين بأن وحدة الصف العربي تشكل حجر الأساس في دعم نضال الفلسطينيين.
في هذا السياق، شكّلت أحداث البراق في القدس عام 1929 لحظة مفصلية أظهر فيها الشعب المغربي موقفه الرافض للسياسات البريطانية المتواطئة مع الحركة الصهيونية، من خلال مظاهرات حاشدة اجتاحت مدنًا مثل تطوان وسلا والدار البيضاء وفاس.
كما قُدّمت وثيقة احتجاج رسمية إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، رامزي ماكدونالد، باسم الشعب المغربي، عبّر فيها كل من علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني عن استياء المغاربة العارم من الظلم الفادح والانتهاكات الجسيمة التي لحقت بالفلسطينيين.
إلى جانب الحراك الشعبي والدعم الرمزي، لم تتوقف الجهود الدبلوماسية المغربية على المستوى الدولي، حيث سعى المهدي بنونة إلى إقناع الدول العربية الحاضرة في الأمم المتحدة بعدم التصويت لصالح تقسيم كوريا، مقابل محاولة إقناع الدول الشيوعية بعدم التصويت لصالح تقسيم فلسطين، وهي مساعٍ لم تُكلّل بالنجاح في نهاية المطاف.
وفي هذا الصدد، يذكر بنونة في كتابه “المغرب.. السنوات الحرجة” أنه تواصل مع عدد من الوفود العربية لاستطلاع آرائهم بشأن طرح قضية استقلال المغرب وتونس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أن التوجّه العام كان يميل إلى عدم إثارة أي قضية خارج القضية الفلسطينية، خشية تشتيت الجهود وفتح جبهات متعددة تضعف فرص التأثير في القرار المتعلّق بفلسطين.
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبّر المقاوم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي ترأس “لجنة تحرير المغرب العربي”، عن استعداد أبناء الدول المغاربية للالتحاق بجبهات القتال من أجل تحرير فلسطين، وهو من أبرز رموز المقاومة ضد الاستعمار الإسباني، وقد ألهمت تجربته حركات التحرر في العالم، بما في ذلك المقاومة الفلسطينية.
وقد اعتبر الخطابي، في نداء وجهه إلى الأمة العربية والمغاربية والإسلامية، أن القضية الفلسطينية تمثل قضية مركزية، داعيًا إلى تسليح المقاومة الفلسطينية، بدلًا من إرسال الجيوش العربية إلى ساحة المعركة، والتي رأى أن مشاركتها قد تشكّل “ثغرة استراتيجية” تصب في مصلحة الاحتلال، بسبب غياب التنسيق وافتقارها إلى قيادة موحّدة.
وفي ستينيات القرن الماضي، تواصل الدعم المغربي للقضية الفلسطينية على المستوى الإعلامي والسياسي؛ فقد أصدر “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” صحيفة بعنوان “فلسطين” عام 1968، استمرت في الصدور حتى عام 1971، كما خصّصت جريدة “المحرر” صفحة أسبوعية للقضية الفلسطينية، إضافة إلى المساهمة في تخليد “يوم الأرض” سنويًا، بما يعكس استمرار حضور فلسطين في وجدان النخب السياسية والثقافية المغربية.
يُضاف إلى المحطات التاريخية السابقة، مبادرة رموز الحركة الوطنية المغربية بإرسال بعثات طلابية إلى فلسطين، في خطوة تعكس عمق الروابط الثقافية والتعليمية بين الشعبين، ففي أكتوبر/تشرين الأول 1928، أرسل عبد السلام بنونة بعثة تعليمية إلى مدينة نابلس، ضمّت تلاميذ أغلبهم من مدينة تطوان، إضافة إلى عدد من أبناء مدن مغربية أخرى، بهدف الدراسة في “مدرسة النجاح”، التي تحوّلت لاحقًا إلى جامعة معروفة.
وقد شكّلت هذه المبادرة حافزًا لبعثات أخرى، إذ توالت أفواج الطلبة المغاربة إلى نابلس حتى عام 1935، في تأكيد عملي على دعم التعليم الفلسطيني وتعزيز التبادل بين الشعبين.
ورغم التضييق الذي مارسته سلطات الاستعمار الفرنسي، لم يتوان المغاربة عن جمع التبرعات المالية وإرسال المساعدات الإنسانية إلى إخوانهم في فلسطين، وهو ما أدى إلى ملاحقة عدد من القيادات الوطنية واستدعائهم للتحقيق، واستمر هذا التقليد التضامني حتى بعد استقلال المغرب، ولا يزال قائمًا إلى اليوم، رغم موجة التطبيع الرسمي مع الاحتلال الإسرائيلي.
فلسطين في حياة المغاربة اليومية
منذ القرن الماضي وحتى اليوم، لا تزال شوارع وأزقّة مدن مغربية عديدة تشهد على عمق ارتباط فلسطين بالذاكرة الجماعية للمغاربة. وفي هذا السياق، وقّع مجلس مدينة مكناس سنة 1990 اتفاقية توأمة مع مدينة القدس، عبر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، وهي خطوة شكّلت انطلاقة لعدة إجراءات عززت حضور القضية الفلسطينية في الفضاءات العامة للمدينة.
وإلى جانب عرض مجسّم طبق الأصل لقبة الصخرة في إحدى ساحات المدينة، أطلق المجلس أسماء عربية ترتبط بالقضية الفلسطينية على عدد من الشوارع والأزقة والساحات، كما في زنقة “حطين”، و”زنقة سيناء”، و”شارع محمود الهمشري”، وهو ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، الذي اغتالته “إسرائيل” عام 1973.
وباعتبار القدس رمزًا للهوية الإسلامية، تنتشر في مختلف أنحاء المملكة مؤسسات تعليمية تحمل اسمها، بهدف ترسيخ وعي الناشئة بقضايا الأمة، وغرس قيم التضامن والعدالة في عقول التلاميذ، وتنمية حسّ المسؤولية تجاه القضايا العادلة في العالم.
وفي إطار هذا الحضور الرمزي، أُطلق اسم “الشهيد محمد جمال الدرة” على مركب ثقافي كبير بمدينة أغادير، تخليدًا لاستشهاده تحت إبط والده خلال انتفاضة الأقصى عام 2002، وقد أثار قرار تغيير اسم هذا المركب سنة 2024، بعد مرور عشرين عامًا على اعتماده، جدلًا واسعًا في المدينة، لما يحمله من رمزية قوية في الوعي العام.
ولا يقتصر هذا الحضور الفلسطيني على البنايات والشوارع، بل يمتد أيضًا إلى الحياة اليومية والأنشطة الاجتماعية، ومن أبرز تجلياته إطلاق أسماء مدن فلسطينية على فرق دوريات الأحياء لكرة القدم، فأصبح من المألوف أن تحمل فرق هذه الدوريات الشعبية أسماء مثل “غزة”، “نابلس”، “رفح”، “بيسان”، وغيرها من المدن الفلسطينية.
مدرجات الملاعب وخشبات المسرح تهتف لفلسطين
رافقت القضية الفلسطينية الإبداعات الفنية المغربية، معبّرة عن مشاعر الناس وما يعتمل في قلوبهم، فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، ومع بروز المجموعات الغنائية وانتشارها الواسع، بدأت تتبلور موجة غنائية تُجسّد المواقف الإنسانية للشعب المغربي، وتُترجم انشغالاته في قوالب فنية تجاوزت القضايا المحلية إلى القضايا الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وقد غنّت مجموعة جيل جيلالة عن القدس، وتغنّت لمشاهب بالانتفاضة، في حين خصّصت ناس الغيوان ألبومًا كاملًا وثّقت فيه محطات مفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، مقدمةً بذلك كلمات وألحانًا كانت بمثابة صدى حيّ لما يختلج في صدور المغاربة.
ولم تكن الأغنية العربية وحدها حاضنة لهذا الالتزام، بل شاركتها الأغنية الأمازيغية في التعبير عن التضامن والوعي، من خلال محطات عدّة، أبرزها ما قدّمه الفنان الأمازيغي الراحل محمد رويشة، الذي ردد في مهرجانات عديدة أغنيةً مؤثرة تعكس حزنه العميق على واقع الشرق الأوسط الممزّق بالحروب، مشبّهًا “الحق بالأعرج الجالس على الأرض في زمنٍ علا فيه شأن الظلم”.
كما عبّرت مجموعة إزنزارن عبد الهادي، وهي من أبرز الفرق الغنائية الأمازيغية، عن تضامنها الصريح مع الشعب الفلسطيني، مندّدة بالظلم والانتهاكات التي يتعرض لها.
زيادة على ذلك، منحت جماهير كرة القدم في المغرب زخمًا مهمًّا للقضية الفلسطينية، خاصة في أوساط الشباب، من خلال أهازيج وأغانٍ تحولت إلى رموز شعبية للتضامن، من أبرزها “رجاوي فلسطيني”، التي انتشرت على نطاق واسع في العالم العربي، و”أرض الصمود”، التي أطلقتها جماهير نادي الوداد البيضاوي تزامنًا مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
أما في مجال المسرح، فقد أنتج الفنانون المغاربة عددًا من الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية، من بينها مسرحية “الجنازة الأخيرة” للمخرج إبراهيم بن لحسن إقلل، والتي تسرد حكاية رجل هاجر إلى الغرب بعد أن قَتَل الاحتلال أفراد عائلته، ثم عاد ليجد قريته وقد تحولت إلى مقبرة يحكمها حفّار قبور.
كما عُرضت مسرحية “ما تبقّى لكم”، المقتبسة من رواية بالعنوان نفسه للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، خلال افتتاح عروض الدورة الثالثة عشرة من مهرجان المسرح العربي، الذي احتضنته مدينة الدار البيضاء عام 2023.
وفي الفنون التشكيلية، لم يكن الحضور الفلسطيني غائبًا عن إبداعات الفنانين المغاربة، إذ عبّروا بطرق مختلفة عن رمزية هذه القضية في وجدانهم، ومن أبرزها، معرض “قطاف الأهلة” الذي أقيم بمدينة الرباط سنة 2021، بمشاركة أكثر من 120 فنانًا تشكيليًا، وقد خُصّصت مداخيل المعرض لتمويل برامج الوكالة الثقافية والفنية الموجّهة لدعم المبدعين الفلسطينيين في مدينة القدس.
تضامن لا يُقيده التطبيع
لم يُغيّر التطبيع الرسمي مع الاحتلال الإسرائيلي من مركزية القضية الفلسطينية في وجدان الشعب المغربي، إذ لم تتوقف المسيرات والوقفات الشعبية الداعمة للمقاومة بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث برز المغرب كأحد أكثر الشعوب العربية خروجًا إلى الشارع للتنديد بالإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.
كما لم يغب الدعاء لفلسطين عن خطب الجمعة في المساجد المغربية، ورغم توجّس بعض الأئمة في الأشهر القليلة التي أعقبت توقيع اتفاق التطبيع مع “إسرائيل”، إلا أن غياب أي قرار رسمي يمنع ذلك، سمح بعودة هذا التقليد إلى طبيعته، لا سيّما بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، حيث استعاد الحضور الفلسطيني مكانته في الوجدان الديني المغربي.
في هذا السياق، أعلنت “الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة” أن المدن المغربية شهدت خلال عام من العدوان تنظيم أكثر من 730 مسيرة شعبية، وما يزيد عن 5800 مظاهرة، وهو رقم شهد ارتفاعًا ملحوظًا خلال الأشهر الأخيرة.
تُعد القضية الفلسطينية، بالنسبة لكثير من المغاربة، بوصلةً أخلاقية يُقاس بها موقف الإنسان من جميع أشكال الظلم، إذ لا يُنظر إليها فقط باعتبارها قضية فلسطينية، بل باعتبارها معيارًا عامًا للموقف من المآسي الإنسانية، بما في ذلك تلك التي لحقت باليهود خلال المحرقة (الهولوكوست).
ومن المهم التذكير بأن الاحتفاء بالمكوّن اليهودي كأحد روافد الثقافة المغربية، كما ينص دستور المملكة، لا يتناقض بأي حال مع دعم القضية الفلسطينية، فالحضور اليهودي في المغرب أسبق زمنيًا من قيام “إسرائيل” بقرون، والتاريخ المغربي غنيّ بأسماء يهودية بارزة ناهضت الصهيونية
من أبرز هذه الشخصيات المفكر المغربي إدمون عمران المالح، الذي وصف بـ”فيلسوف القيم والحياة”، وكان من أهم المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومعارضًا صريحًا لسياسات “إسرائيل” وجرائمها، وقد عبّر بوضوح عن رفضه لتهجير آلاف اليهود المغاربة نحو “إسرائيل” في ستينيات القرن الماضي، قائلاً: “لا أعرف أية دولة اسمها إسرائيل”.
هكذا، ظلت فلسطين حاضرة في وجدان المغاربة باعتبارها قضية مركزية، عبّروا عنها بمختلف الوسائل الثقافية والاجتماعية والسياسية، وحتى في ظل تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية، بقي الموقف الشعبي ثابتًا، رغم محاولات فردية تهدف إلى خلخلة هذا الإجماع الشعبي وتلميع خيار التطبيع.