رقعة رفض الحرب تتسع ضد نتنياهو وحكومته.. غزة من تدفع الثمن

تتعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية منذ الأيام الماضية إلى هزّة عنيفة، لم تشهدها من سنوات، جراء اتساع رقعة المطالب التي تنادي بوقف الحرب في غزة في أسرع وقت وبأي ثمن كان، محملة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مسؤولية المقامرة بمستقبل الكيان وحياة الأسرى والجنود معًا لصالح أهدافه السياسية الشخصية.

وتقدم آلاف الإسرائيليين، العسكريين والمدنيين بقطاعات شتى، بعرائض رسمية يطالبون فيها بوقف الحرب وإعادة الأسرى، حيث كانت البداية بسلاح الجو مرورًا بسلاحي البحرية والمدرعات والقوات الخاصة، وصولا إلى الأكاديميين وعائلات الأسرى، وسط مخاوف الحكومة من تدحرج كرة النار إلى قوات وإدارات أخرى داخل الجيش وخارجه تقود الأمور إلى الانقسامات والكراهية داخل المجتمع الإسرائيلي، ما يضع الكيان على شفا حرب أهلية، كما جاء على لسان اللواء احتياط إسحاق بريك.

وأمام هذا السيل الجارف من الاحتقان وتصاعد وتيرة الغضب بين فئات عدة داخل الشارع الإسرائيلي، عسكريين ومدنيين، أضطر جيش الاحتلال أخيرًا للاعتراف بهذا الخلل داخل قطاعاته، والذي أربك كافة الحسابات، مُعربًا عن خشيته من اتساع رقعة الاحتجاجات، وذلك بعد تعتيم متعمد خلال الساعات الماضية، مُقررًا إجراء محادثات خلال الأيام المقبلة مع الجنود الموقعين على عرائض تدعو لوقف الحرب، محاولا احتواء الموقف وتقليل الإضرار المحتملة.

وبعيدًا عن تداعيات تلك الاحتجاجات على مستقبل الحرب في غزة إلا أنها تبرهن وبشكل عملي على أن إطالة أمد المعركة حتى اليوم قرار فردي من نتنياهو واليمين المتطرف، ولصالح حسابات وأهداف خاصة، وهو ما ينسف الكثير من الأكاذيب والمزاعم التي اعتاد رئيس الحكومة الإسرائيلية على ترديدها لتبرير استمرار القتال عبر إلقاء الكرة في ملعب المقاومة وتحميلها مسؤولية عرقلة المفاوضات.

كرة الاحتجاجات تتدحرج

ووفق ما نقلته هيئة البث الإسرائيلية فإن المئات من وحدات عسكرية جديدة في جيش الاحتلال تنضم تباعًا إلى العرائض المطالبة باستعادة الأسرى من قطاع غزة عبر وقف حرب الإبادة على الفلسطينيين.

وينتمي هؤلاء المحتجون إلى عدد من الإدارات والقطاعات المختلفة داخل المؤسسة العسكرية، أبرزها الوحدة 8200 الاستخبارية، ووحدات من القوات الخاصة والنخبة مثل: الكتيبة 13 في لواء المظليين، ووحدات شلداج، وسيرت متكال، وموران، وأن ما بين 20 و30% من المنضمين للعرائض، لا يزالون في الخدمة الاحتياطية الفعلية، ما يعكس مدى اتساع الفجوة داخل المؤسسة العسكرية، وفق ما ذكرت الهيئة.

وانطلق قطار العرائض منذ الخميس العاشر من أبريل/نيسان الجاري وحتى الاثنين الرابع عشر من الشهر، حيث بلغ العدد المقدم حتى كتابة تلك السطور 9 عرائض، مقدمة من عسكريين ومدنيين، وسط توقعات بزيادة رقعتها، رأسيًا وأفقيًا، بحسب تقديرات داخل الجيش الإسرائيلي، في وقت تتصاعد فيه الأصوات المطالبة بمراجعة سياسة الحرب ومآلاتها.

أولا: العرائض الموقعة من عسكريين:

– الأولى: وقعها نحو 1000 عسكري بسلاح الجو.

– الثانية: وقعها مئات العسكريين من سلاحي المدرعات والبحرية.

– الثالثة: وقعها عشرات الأطباء العسكريين الاحتياطيين.

– الرابعة: وقعها مئات العسكريين بالوحدة 8200 الاستخبارية.

– الخامسة: وقعها المئات من وحدات مختلفة منها قوات خاصة ونخبة، أبرزهم 150 جنديًا خدموا في لواء غولاني

– السادسة: وهي الأحدث والتي وقعها مئات الجنود في عدد من الوحدات الأخرى.

ثانيًا: العرائض الموقعة من مدنيين:

– الأولى: موقعة من نحو 3500 أكاديمي إسرائيلي

– الثانية: موقعة من قرابة 3 آلاف من العاملين في مجال التعليم

– الثالثة: موقعة من أكثر من ألف من أولياء الأمور

ولاقت تلك العرائض دعمًا كبيرًا من الجبهة الداخلية الإسرائيلية، حيث أصدر نحو 200 من عائلات الأسرى الإسرائيليين ونشطاء رسالة دعم للجنود والطيارين الذين دعوا لوقف الحرب، حيث قالت العائلات في بيان نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت إن “العملية العسكرية تعرض حياة المخطوفين للخطر، وأنها أدت سابقا إلى مقتل 41 مخطوفا”.

البيان كشف أن نتنياهو اختار نسف مقترح الرئيس دونالد ترامب والتضحية بحياة 59 أسيرا محتجزين في غزة لأهداف سياسية، لافتين إلى أن طريقة الإفراج الجزئي عن الأسرى على شكل دفعات نهج خطير يعرض جميع الأسرى للخطر، فيما طالبت العائلات باعتماد حل مناسب يفضي إلى إنهاء الحرب، وإعادة جميع الأسرى دفعة واحدة وبشكل فوري.

وانضم لهذا الحراك العديد من أبناء النخبة العسكرية والسياسية، من أبرزهم رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، الذي وقّع على عريضة تدعم رسالة الطيارين الداعية إلى وقف الحرب من أجل إطلاق سراح الأسرى، كما أفادت القناة 13 الإسرائيلية.

فيما وصف رئيس هيئة الأركان السابق دان حالوتس، نتنياهو -خلال مقابلة مع القناة 12- بأنه تهديد فوري لأمن “إسرائيل”، ولا يجب إخضاعه أو القضاء عليه بل ينبغي أسره، على حد تعبيره.

تكثيف جهود الاحتواء

منذ اليوم الأول للحرب يحاول نتنياهو وحكومته إيهام الشارع الإسرائيلي والعربي والدولي بتماسك الجبهة الداخلية، والتي تشكل ضلعًا أساسيًا في مثلث القوة الإسرائيلية ( الدعم الأمريكي – الجيش – الجبهة الداخلية)، حيث بذلوا لأجل هذا الهدف جهودًا حثيثة، بدعم واضح من الحليف الأمريكي والغربي، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا.

ورغم ذلك فشلت الحكومة في إخفاء الانقسام الذي بدا يتمدد جليًا داخل الجيش، بسبب إدارة نتنياهو للحرب في غزة، وفشله في حسمها وفق الأهداف المنشودة سلفًا، والإصرار على المضي فيها بعدما باتت بلا رؤية ولا هدف واضح، فضلا عن تعريضه حياة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة للخطر بجانب حياة العسكريين الإسرائيليين أنفسهم.

واستطاعت قيادة الجيش نسبيًا  -بدفع قوي من نتنياهو واليمين المتطرف- إخفاء حالة التململ المتصاعدة داخل صفوف المؤسسة العسكرية حتى التغييرات التي أجراها نتنياهو خاصة القيادات الأمنية والعسكرية ذات الثقل الكبير، مثل وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس الشاباك.

لكن مع تفاقم الوضع ميدانيًا، وعرقلة الحكومة لأي جهود للتهدئة، بالتزامن مع زيادة رقعة الرافضين لأداء الخدمة العسكرية في صفوف الاحتياط (والتي وصلت إلى ما بين 40 – 50% بحسب بعض التقديرات) خرج الوضع عن السيطرة، فتوالت الاحتجاجات والخلافات داخل الجيش، وصولا إلى العرائض المقدمة رسميًا والتي تطالب بإنهاء الحرب فورًا وإبرام صفقة تبادل مع المقاومة.

توهم نتنياهو أن الضغط لكبح جماح هذا الاحتجاج سيؤتي ثماره، حيث شن هجومًا عنيفًا على الرافضين لأداء الخدمة، وتعهد بتوقيع عقوبات قاسية على الموقعين على العرائض، معتبرًا أن مثل تلك التحركات تقوي الأعداء- على حد تعبيره، واصفا إياها بالتمرد والعصيان.

فيما صدّق رئيس الأركان إيال زامير على قرار فصل قادة كبار ونحو ألف جندي احتياط من الخدمة، بعد توقيعهم على العرائض، كأحد وسائل الترهيب المستخدمة.

ومع التأكد من فشل تلك الاستراتيجية في وقف هذا التمرد المتصاعد، تدخل رئيس الأركان لتبريد الأزمة، حيث عقد جلسة مع القيادات الأمنية والعسكرية لمحاولة امتصاص الغضب المتزايد، مشيرًا إلى إدراك الجيش جيدًا لحجم الضرر المحتمل والدلالات العميقة للتوسع المتزايد في ظاهرة الاحتجاج بين صفوف قدامى الجنود.

وتفيد تقديرات جيش الاحتلال بأن الخلافات باتت موجودة ويخشى من اتساع رقعة الاحتجاجات، حسبما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مصادر عسكرية داخل المؤسسة، لافتة أن هناك جهودا ستبذل خلال الأيام المقبلة ولقاءات ستُعقد مع الجنود الموقعين على تلك العرائض لإثنائهم عن موقفهم، والتأكيد على أن العمليات في غزة تتم بدعم كامل من جميع قادة الأجهزة الأمنية.

الحرب مستمرة بأمر نتنياهو

تدحرج كرة الاحتجاجات المطالبة بوقف الحرب وإبرام صفقة تبادل تؤكد أن استمرار القتال في غزة هو قرار فردي لرئيس الحكومة ويمينه المتطرف، فهما الطرفان الوحيدان اللذان يبذلان الغال والنفيس لإبقاء المشهد مشتعلا، بما يخدم مصالحهما السياسية الخاصة، بعيدًا عن مصالح الكيان المحتل والذي تكبد الكثير من الخسائر خلال تلك الحرب رغم التدمير والتنكيل الذي حل بالقطاع وأهله.

ومنذ بداية الحديث عن جهود تهدئه بعد شهر واحد فقط من اشتعال المواجهة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وقف نتنياهو ومعه وزيرا المالية والأمن القومي المتطرفين، في وجه أي مسار من شأنه أن يقود إلى الحل السياسي، حيث رفضوا كافة الحلول الدبلوماسية، رافعين شعار “الحرب إلى ما لانهاية” فهي الضمانة الوحيدة لبقائهم في السلطة وتجنيبهم الزج في غياهب السجون كنتيجة قضائية محتملة بسبب اتهامات الفساد التي تلاحقهم.

واستقر في يقين الشارع الإسرائيلي بشتى انتماءاته أن نتنياهو استغل تلك الحرب لمآربه الخاصة، وأن كل مزاعمه التي أشهرها لتبرير استمرار القتال إنما هي في حقيقتها أكاذيب روجها لإيهام الإسرائيليين بأن المعركة مستمرة وأن المقاومة هي من تعرقل أي جهد دبلوماسي لوقف إطلاق النار، متجاهلا مصير الأسرى وسلامة الجنود.

وأدت سياسات نتنياهو ورفاقه المتشددين وإدارته العنصرية لتلك الحرب إلى تصاعد حدة الاحتقان لدى المجتمع الإسرائيلي الذي بدأ تململه يتجاوز خطوطه الحمراء، منتقلا من السجالات الكلامية والإعلامية إلى التحرك الميداني وتقديم العرائض الرسمية، وسط القلق من تنامي منسوب ومستوى الغضب الذي ضم تحت لواءه معظم ألوان الطيف السياسي والعسكري والمدني الإسرائيلي.

هذا التململ لم يقف عند حاجز الإسرائيلي وفقط، بل امتد للحليف الأبرز والأهم، الولايات المتحدة، التي بدأت تستشعر الخطر على مصالحها بسبب نتنياهو وإدارته للحرب، وإصراره على إشعال المنطقة بأكملها لصالح حسابات خاصة، وهو ما يمكن الوقوف عليه خلال زيارته الأخيرة لواشنطن واللقاء البارد نسبيًا مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي لا يقارن مطلقًا باللقاء الأول في فبراير/شباط الماضي، لا من حيث مستوى حرارة الاستقبال ولا المكاسب التي عاد بها نتنياهو.

 غزة من تدفع الثمن

نتنياهو حاليًا يبدو وكأنه “لص” هارب من ملاحقيه، يسابق الخطى للإفلات منهم، حتى لو كان ذلك عن طريق حرق الطريق الذي يجري فيه، خاصة وأنه يجيد هذه الاستراتيجية بشكل احترافي، ونفذها أكثر من مرة على مدار سنوات حكمه، استراتيجية الهروب للأمام، إما باختلاق مشاكل وأزمات جديدة وتوسعة دائرة الصراع،  أو تبني سياسة الأرض المحروقة وإن ترتب عليها خسارة الجميع.

بداية لا يٌنكر أحد تأثير تلك الموجة من الاحتجاجات على قدرات جيش الاحتلال، لكنه التأثير الذي لن يغير كثيرًا في المشهد في الوقت القريب، خاصة وأن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تنصاع بشكل كبير للقيادة السياسية بصرف النظر عن الاتجاهات والميول العاطفية تجاه قادتها أو بعض منتسبيها.

غير أن ما يمكن أن يقلق نتنياهو فعليًا هو اتساع رقعة الاحتجاجات لتشمل وحدات عسكرية بأكملها، أو تدشين تشكيلات جديدة داخل الجيش تعلن تمردها عن المؤسسة وترفض الانصياع لقراراتها، تزامنا مع زيادة رقعة العصيان المدني بما يتضمن كافة التيارات السياسية، ومما يعمق الأزمة دخول إدارة ترامب على الخط، خاصة بعد المطالبات الأخيرة بضرورة إنهاء الحرب في أقرب وقت.

كل تلك الضغوط حتمًا ستدفع غزة ثمنها، حيث مسارعة الجيش المنصاع لأوامر نتنياهو للإجهاز على ما تبقى من القطاع في أسرع وقت، وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر، عبر تكثيف آلة القتل والتدمير والتنكيل والتشريد، ودفع الفلسطينيين دفعا للنزوح، قسرًا وطواعية، في محاولة للحصول على الحد الأقصى من أوراق الضغط التي تساعد رئيس الوزراء ومجلسه المتطرف في نزع المكاسب من المقاومة حين يٌضطر للجلوس على مائدة المفاوضات.

وفي المحصلة.. تذهب المؤشرات الأخيرة جميعها، لاسيما التي شهدتها الساعات الماضية حيث وضع مسألة نزع سلاح المقاومة على الطاولة لأول مرة منذ بداية الحرب، في هذا الاتجاه، حيث تكثيف الضغوط الممارسة على حماس وشقيقاتها من الفصائل، التي باتت في موقف لا تٌحسد عليه،  تارة من الاحتلال، وأخرى من الحليف الأمريكي، وثالثة من الوسطاء، وسط صمت دولي فاضح كالعادة وخذلان عروبي إسلامي مُعتاد.