ترجمة عبدالله فايد – خاص نون بوست
عندما نشر جهاديو “دولة العراق والشام” (داعش) صورًا لبلدوزر يقوم بتسوية حاجز حدودي بين العراق وسوريا قاموا بإعلان – وهم يشعرون بفخر كبير- أنهم يحطمون حدود “سايكس – بيكو”.
قد يبدو هذا الإعلان مُحيرًا للبعض، خصوصًا من جماعة تشن حربًا طائفية داخل العراق وسوريا، ولكن تلك الجماعات دائمًا ما تمتلك مُخيلة تاريخية خصبة وشعور قوي بالمظلومية تجاه الغرب خصوصًا.
ذلك الإجراء الرمزي من المقاتلين تجاه مُخلفات استعمارية يقترب عمرها من قرن من الزمان يتم تغديته بأسطورة عن براءة زمن ما قبل الاستعمار، عندما كانت الامبراطورية العثمانية والإسلام السُني يسيطران على مساحة متصلة من الأراضي من شمال أفريقيا حتى الخليج الفارسي (العربي)، والاسم “داعش” نفسه يشير إلى فكرة وحدة الشام التاريخية قبل رسم الحدود الحالية لدول منطقة الشام.
ولكن لماذا اكتسبت سايكس – بيكو كل هذه الأهمية؟ أحد أهم الأسباب هو أنها تمثل للكثير من العرب سلسلة من خيانات الغرب لهم، التي تشمل أيضًا تفكيك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، إنشاء دولة “إسرائيل” عام 1948، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
تلك الاتفاقية التي تمت تسميتها باسم الدبلوماسيين الفرنسي والبريطاني الذين وقعاها بموافقة الإمبراطورية الروسية قبل الثورة البلشفية بشهور معدودة في مايو 1916، وقد قاموا بتقسيم المقاطعات العربية للإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية؛ فتم تقسيم كل إمبراطورية من الثلاثة في حالة الانتصار المستقبلي على تحالف “ألمانيا – الإمبراطورية النمساوية المجرية -الإمبراطورية العثمانية”، فتم إلحاق الشريط الساحلي ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن وجنوب العراق إلى إنجلترا، بينما تم إلحاق الجنوب الشرقي لتركيا وشمال العراق وكل سوريا ولبنان إلى فرنسا، بينما تم الاتفاق على إلحاق إسطنبول ومضيق الدردنيل والمناطق الأرمنية التابعة للإمبراطورية العثمانية إلى روسيا.
الصورة: خريطة تحدد المناطق التي يسيطر عليها الفرنسيون (A) والبريطانيون (B) طبقا لاتفاقية سايكس بيكو
تحت اتفاقية سان ريمو عام 1920 وهي تلك التي بنت على سايكس – بيكو، كان للقوى الغربية مطلق الحرية لرسم الحدود في تلك المنطقة، وتم تكوين دمج الولايات العثمانية الثلاث (الموصل – بغداد – البصرة) وإنشاء دولة “العراق”، وتم تأكيد الانتدابات الفرنسية على لبنان وسوريا، والبريطانية على العراق وجانبي نهرالأردن، فكانت تلك الحواجز الحدودية التي حطمتها “داعش” هذا الشهر هي الحدود بين الأراضي التي كان الفرنسيون يتحكمون بها (سوريا) وتلك الدولة التي صنعها وكان يتحكم بها البريطانيون (العراق).
وقد تم الحرص على إخفاء اتفاقية سايكس – بيكو، حتى قام البلاشفة بالكشف عنها بعد الثورة الروسية؛ مما تسبب في فضيحة كبيرة، وقام البرلمان السوري – الذي عُقد عام 1919 – بطلب الحرية الكاملة والاستقلال الذي وُعدِنا إياه، ولكن تلك الاتفاقية لم تُرسّخ لنظام جديد من الهيمنة الغربية على السكان المحليين فقط، ولكنها أيضًا تعارضت بوضوح مع الوعد الذي وعده رجل بريطانيا في مصر، السير “هنري ماكماهون” لحاكم مكة الشريف حسين بأنه ستكون هناك مملكة عربية في أعقاب هزيمة العثمانيين.
حقيقةً، فإن ذلك الوعد الذي وعده إياه ماكماهون خلال مراسلات شخصية بينهما ما بين يوليو 1915 إلى يناير 1916 ترك حدود تلك المملكة العربية غامضة، وقد تم استعمال ذلك الأمر فيما بعد لمنع العرب من السيطرة على فلسطين، وقام ماكماهون باستبعاد تلك المناطق من سوريا التي تقع غربي دمش وحلب وحمص وحماة التي لا يمكن أن “نسميها عربية بشكل خالص” حسب تعبيره، وقد تسببت تلك الفقرة فيما بعد في جدالات وصراعات طويلة ومريرة حول هل فلسطين – التي وعدها البريطانيون في نوفمبر 1917 كوطن قومي لليهود – يمكن اعتبارها غرب ولاية دمشق أم لا.
أصر “وينستون تشرشل” عام 1922 على كون أرض فلسطين غربي نهر الأردن مستبعدة تمامًا من وعد “ماكماهون”، ولكن الكُتاب العرب ومن بينهم اللبناني – المصري “جورج حبيب أنطونيوس” جادلوا بدقة بالغة حول حقيقة أن فلسطين لم تكن مستبعدة من وعود “ماكماهون” للشريف حسين، ومما قوّى حجتهم أن الحكومات البريطانية المُتعاقبة رفضت نشر تلك المراسلات، وكان من الصعب الكشف عن تلك الوعود الغير مُحددّة والغير دقيقة حتى أظهرها “أنطونيوس” عام 1938 في كتابه “الصحوة العربية”.
ومن المثير للدهشة حتى بعد اتفاقية (سايكس – بيكو) أنه كان هناك تيار آخر من السياسية البريطانية يعمل على تحرير الأراضي العربية من الشرق الأوسط وتحت قيادة بريطانية، لقد سيطر البريطانيون على مصر مند عام 1882 وقام هذا التيار بدعم حلم الوحدة العربية، ثم قاموا بتشجيع شريف مكة الذي قام أبناؤه (عبدالله وفيصل) بقيادة “الثورة العربية” ضد الأتراك.
حقيقةً، قام “المستعربون” من البريطانيين و من بينهم “ماكماهون و”جيلبرت كلايتون” و “توماس لورانس” الشهير بـ “لورانس العرب”، بدور أساسي في تحرير المقاطعات العربية، بل وتشجيع قيام حكومات محلية بطريقة تتعارض ظاهريًا مع الاتفاقية البريطانية – الفرنسية، وعندما تحرك الجيش البريطاني من مصر إلى الشام، أحجم عن دخول المدن والبلدات الكبيرة، ليترك الفرصة لفيصل وقواته أن يحتلوها لكي يحافظوا على زخم وشرعية حركة “الاستقلال” العربية.
احتلال دمشق في أكتوبر 1918 كان مثالاً ساطعًا على ذلك، وكما قال الكاتب الإسرائيلي “ايال زيسر”: “هدفهم كان خلق موقف يمكن الزعم فيه أن تلك المناطق والمدن قد تم تحريرها من قبل العرب لا غيرهم، فيكون لهم الحق ادعاء السيادة عليها”.
ولكن كان الوضع مختلفًا إلى حدٍ ما مع “مارك سايكس” كان أكثر التصاقًا بالفرنسيين ومصالحهم خوفًا من أن يُنفّر حلفاؤه الفرنسيين من التطورات في الشرق الأوسط، على الأقل مقارنةً بزملائه المُستعربين.
في محاولة منه للتخفيف عن الفرنسيين عن خسائرهم الضخمة في مواجهة الألمان في الجبهة الغربية من الحرب (كان عدد الضحايا الفرنسيون أكثر من نظائرهم البريطانيون بحوالي المليون)، فسمح لهم بأن يزعموا حقهم التاريخي في سوريا الكبرى التي كانت لهم فيها مطامع من القرن السادس عشر الميلادي، وأعلنوا فيها مسئوليتهم عن حماية “المارونيين” مند العام 1649، واستطاعوا تفعيل تلك الحماية منذ العام 1860 عندما بعث الفرنسون بستة آلاف جندي للدفاع عن المارونيين بينما كان يتم الفتك بهم في حرب أهلية مع الدروز.
وفي هذه الأحيان تحطمت آمال العرب في مملكة عربية مستقلة تحت الوصايا البريطانية تحت وطأة تلك الآمال والطموحات الفرنسية.
ومما قد يكون غنيًا بالدلالات الآن، أن تلك المدينة التي قامت داعش ومعها بعض الفصائل السنية (الموصل) كانت رهينة ذلك الصراع المبكر خلف الستار ما بين فرنسا وبريطانيا.
بعد صراع دامٍ وعنيف مع العثمانيين أثناء حملتهم هناك ما بين الأعوام 1915 و1918، رسّخ البريطانيون تواجدهم في العراق، وبعد زيارة الرئيس الفرنسي “جورج كليمنصو” إلى لندن، اتفقوا على أن بريطانيا لها مطلق الحرية في الموصل وباقي العراق، بالإضافة إلى فلسطين (وهي التي كان من المفترض وفقًا لاتفاق سايكس – بيكو أن تكون تحت حماية دولية)، بينما يسيطر الفرنسيون على حصة الألمان في شركة البترول العراقية.
الصورة: فيصل مع وفده في مؤتمر باريس للسلام (لورنس هو الثاني من اليمين في الصف الثاني)
وعلى الرغم من أن لورانس أخذ فيصل إلى مؤتمر باريس للسلام في عام 1919 وخطط له أن يقابل رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد لويد جورج”، ولكن باءت مخططاته في إقامة مملكة عربية مركزها دمشق بالفشل.
في يوليو 1920 بعد أربعة أشهر من جعل فيصل ملكًا لسوريا في شهر مارس، قام الفرنسيون بالاستيلاء على دمشق، وتم طرده وفرض حُكم مباشر على سوريا من عام 1921، وهو ما اعتبره البريطانيون مُتعارضًا مع مفهوم “دوائر النفود” المُتفق عليه في سايكس – بيكو.
عن طريق إلغاء الحدود السورية – العراقية، تأمل “داعش” إلى استحضار الذكريات عن العصر العثماني قبل أن يعتبروه “دول مُصطنعة” تم بناؤها لمصلحة الدول الأوروبية الكبرى، وقت عندما كانت الحدود مفتوحة وشعائر الإسلام يتم اتباعها بشكل واسع.
الخطأ الكارثي في تلك الرؤية الطوباوية – بغض النظر عن عدم دقتها تاريخيًا – هو إغفالها لحقيقة أن الانقسام السُني – الشيعي يعود لعصور أقدم كثيرًا من التدخل الأوروبي في العراق وسوريا، فقد تحولت العديد من القبائل العراقية – التي كانت معروفة تاريخيًا بعدائها لأي حكومة – إلى التشيع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن قادة “داعش” يريدون أن يُصدّروا صورة أن الجهاديين العرب يتجاوزون الآن قرنًا من الإمبريالية الغربية، بينما تصاعد قوة “داعش” هو تطور طبيعي للصراعات الطائفية التي طالما كانت موجودة في المنطقة، سياسيًا، نال الجهاديون تأييدًا واسعًا بسبب فساد نظام المالكي وتدليله الزائد للشيعة، الذي أعقب نظام صدام حسين، فاستبدل فسادًا بفسادٍ، بالإضافة إلى العنف الدامي لنظيره في دمشق، وذلك الصراع – من وجهة نظرنا – مدفوع بشكل أكبر بالصراعات الإقليمية بين السعودية وإيران من كونه مدفوعًا من القوى الغربية التاريخية.
المصدر: The New York Reviews of Books