ترجمة وتحرير: نون بوست
من الشائع والصائب القول بأن اليمين الشعبوي ليس فاشيًا بالمعنى التقليدي. قد يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الإصلاحي البريطاني نايجل فاراج وأمثالهما، متقاربين أيديولوجيًا مع الفكر الفاشي، ومن المؤكد أن بروزهم يشجع الفاشيين الصرحاء، لكن هناك أيضًا بعض الاختلافات الجوهرية بين اليمين الشعبوي والتنظيمات الفاشية التقليدية، سواء التنظيمات الأصلية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي، أو ورثتها مثل الحزب الوطني البريطاني.
أحد الاختلافات الجوهرية هو أن المنظمات الفاشية التقليدية اعتمدت على تشكيل قوات شبه عسكرية للسيطرة على الشوارع وترهيب وقمع المعارضين، سواء كانوا اشتراكيين أو نقابيين أو أقليات. أما اليمين الشعبوي الحديث فإنه يفتقر إلى هذا العامل الحاسم، وينتظم في الغالب ضمن أحزاب مؤسسية دون أجنحة شبه عسكرية، رغم وجود علاقة تكافلية بين اليمين الشعبوي وتنظيمات ترغب بتشكيل مثل تلك الأجنحة. على سبيل المثال، جماعة “براود بويز” في الولايات المتحدة، أو أنصار تومي روبنسون في المملكة المتحدة.
لكن هذه العلاقات ليست مستقرة ومنظمة، ولا تشكل استراتيجية فاشية للسيطرة على الشوارع، وقد اضطر فاراج إلى النأي بنفسه عن روبنسون الصيف الماضي، في ظل تعبئة ضخمة مناهضة للعنصرية أعقبت موجة من أعمال الشغب العرقية في أغسطس/ آب الماضي.
من المهم توضيح هذا الأمر، لأن استخدام الأساليب التي اعتاد مناهضو الفاشية الاعتماد عليها في مواجهة محاولات الفاشية لبناء قاعدة شعبية، قد لا يؤدي إلى النجاح ذاته إذا استُخدمت ضد اليمين الشعبوي.
لا يُشارك فاراج في مسيرات، ولا يُرسل عصابات لتفريق المظاهرات الاشتراكية أو اعتصامات النقابات العمالية. ترتكز جهود اليمين الشعبوي في مواجهة اليسار على محاور أخرى، أحدها ثقافي: الحرب على “الوعي”، حيث يشتعل صراع أيديولوجي يفرض على اليسار قواعد مختلفة في مواجهة اليمين الجديد، والعنصر الحاسم هنا هو أنه لا يمكن هزيمة اليمين بمجرد الدفاع عن كل موقف يتبناه اليسار.
هياكل القمع
يكمن سر تغلغل اليمين الشعبوي في وعي الطبقة العاملة في أن جزءًا كبيرًا من النهج العمالي/ الإداري لمحاربة القمع لا ينطوي في الواقع إلا على تغيير طفيف أو سطحي، تاركًا أهم هياكل القمع على حالها، أو الأسوأ من ذلك، مُخفيًا ترسخها المتزايد.
ولعل أفضل مثال على هذه المعضلة، هو احتفاء اليسار بكريسيدا ديك عندما أصبحت أول امرأة ترأس شرطة العاصمة، في الوقت الذي قتل فيه أحد ضباطها سارة إيفرارد، وقامت الشرطة بقمع المحتجين على تلك الحادثة، وتبيّن من خلال تحقيق رسمي أن الجهاز بأكمله عنصري ومتحيز جنسيًا على المستوى المؤسسي.
الحل هو أن مناهضي القمع يجب أن يُوحّدوا الطبقة العاملة، بدلًا من التأييد الأعمى لسياسات الهوية التي تُفتّت وتُفكّك الوعي والتنظيم الطبقي.
لكن اليمين الشعبوي الحديث لا يخوض معركة ثقافية مع اليسار فحسب، بل يستغلّ أيضًا أجهزة الدولة وقدراتها القمعية بدرجة أكبر بكثير مما كان عليه الحال في السنوات الماضية، على الأقل في الغرب.
تتمثل أعراف الديمقراطية البرلمانية فيما يلي: أولًا، لا يُستخدم الجهاز القمعي للدولة إلا عند الضرورة، ويُفضّل اللجوء إلى الإقناع والدعاية كأساليب حكم اعتيادية، وهذا لا يعني أن استخدام بعض القوة ليس مُتاحا.
ثانيًا، يتم الحفاظ على وهم حيادية أجهزة الدولة من خلال الفصل بين السلطات، ويقتصر عمل جهاز الدولة ونشاطه المنتظم على تلك المشاريع التي تصب في مصلحة الطبقة الحاكمة، سواء كليًا أو جزئيًا، وليس لدعم أهداف حزب واحد من أحزاب السلطة.
لو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت الدولة كما وصفها كارل ماركس مجرّد “لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للبورجوازية بأكملها”. وإذا انهار هذا الشرط، فإن الدولة تتحوّل إلى ساحة للصراع بين مكونات الطبقة الحاكمة، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج فوضى المنافسة الاقتصادية داخل بنية الدولة نفسها، وهو بالضبط ما يُفترض أن تتجاوزه أجهزة الدولة.
أزمة النظام
بالتأكيد يحدث الصراع بدرجات متفاوتة، والدولة تستوعب دائما تلك الصراعات بين مكونات الطبقة الحاكمة. يتجادل أعضاء البرلمان فيما بينهم للوصول إلى تسويات، ومن المفترض أن يكون هذا الجدال ضمن عملية تحكمها القواعد إلى حدٍّ ما.
يُحدث صعود اليمين الشعبوي أزمة في هذا النظام، إذ يعمل على تسييس أجهزة الدولة بشكل علني، ويسعى إلى السيطرة على أجزاء منها لمصالحه الخاصة، مما يعرقل الإطار التفاوضي الذي تعتمد عليه الطبقة الحاكمة ككل.
يهدد ذلك إلى كشف طريقة عمل أجهزة الدولة للرأي العام، مما يقوّض أسطورة حياد الدولة. ومن ثم قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الذي يتطلب استخدام القوة ضد المعارضين بشكل أكبر، كما تميل إليه نزعات اليمين الشعبوي.
يعد مسار تطور ترامب منذ ولايته الأولى درسا تطبيقيا لفهم هذه العملية. فمن محاولة الانقلاب في مبنى الكابيتول هيل، إلى التهديد بعدم الاعتراف بالنتائج إذا خسر في حملته الثانية، إلى تعيين إيلون ماسك وتفكيك أجهزة بيروقراطية حكومية معادية له من خلال “وزارة الكفاءة الحكومية”، إلى استخدام الأوامر التنفيذية لإصدار قوانين دون المرور بالكونغرس، إلى تفكيك “النظام الدولي القائم على القواعد”، يتخطى ترامب آليات الحكم الديمقراطي البرلماني.
وفي المملكة المتحدة، ساعد اليمين الشعبوي في جرّ الطيف السياسي نحو اليمين، مما مكّن اليميني المتطرف بوريس جونسون من الاستيلاء على حزب المحافظين وأدى إلى تهميش المحافظين من أنصار الأمة الواحدة. كان جونسون نفسه من المؤيدين لتقسيم جهاز الدولة، وأبرز مثال على ذلك هو ترقية مستشاره دومينيك كامينغز، وهو قرار كان كارثيًا في نهاية المطاف على رئيس الوزراء السابق.
جربت سويلا برافرمان الاستراتيجية ذاتها في وزارة الداخلية، محاولًة استغلال الشرطة لصالح اليمين المتطرف استنادا إلى ادعاءات يمينية حول “التعامل الأمني المزدوج“.
استمرت هذه العملية التي بدأها حزب المحافظين، على غرار الكثير من الأمور الأخرى، في حقبة رئيس الوزراء الحالي كير ستارمر، والذي يُظهر في إطار حكمه الاستبدادي تساهلا كبيرا تجاه اليمين، بما في ذلك اليمين المتطرف.
يمكن ملاحظة هذا الانجذاب القوي نحو اليمين المتطرف من خلال انهيار الديمقراطية الاجتماعية في ألمانيا أمام حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وتراجع أحزاب الوسط في فرنسا أمام مارين لوبان.
تم إرسال العشرات من المتظاهرين السياسيين في بريطانيا إلى السجون. يُتهم قادة الحركة المؤيدة للفلسطينيين بارتكاب مخالفات تتعلق بالنظام العام، بينما يتم استجواب آخرين، بينهم ناجٍ من الهولوكوست يبلغ من العمر 87 عاما، وممثل مشهور.
اقتحمت شرطة العاصمة مركزا لجمعية “الكويكرز” لاعتقال ست نساء كن يناقشن القضية الفلسطينية، وتخطط الحكومة لتمرير تشريعات أكثر تقييدًا لحرية التجمع. تحدث قصص مشابهة في الولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة في ألمانيا.
من المحتمل أن تُؤدي موجة إعادة التسلح في أوروبا إلى تعزيز هذا الهجوم على الحقوق الديمقراطية، وهذه هي ساحة المعارك القادمة مع اليمين الشعبوي وأشباهه من الديمقراطيين الاجتماعيين.
المصدر: ميدل إيست آي