رصاص وقنابل في “الوراق”.. التهجير القسري مستمر لصالح المستثمر الإماراتي

جولة جديدة من جولات الصدام والتوتر شهدتها جزيرة الوراق المصرية الواقعة في قلب النيل، حين اقتحمتها قوات الشرطة، السبت 12 أبريل/نيسان الجاري، واشتبكت مع المواطنين هناك، مما أسفر عن إصابة العشرات بحالات اختناق وإصابات جسدية، بينهم أطفال وكبار في السن، واعتقال عدد من السكان، بحسب شهادات الأهالي.
يُعد هذا التصعيد حلقة جديدة في الأزمة المستمرة التي تشهدها الجزيرة، الممتدة على نحو 1400 فدان بين منطقتي إمبابة (الجيزة) وشبرا الخيمة (القاهرة)، ويقطنها نحو 90 ألف نسمة وفق تقديرات غير رسمية.
وتتمحور الأزمة بين محاولات قوات الشرطة لإخلاء السكان تمهيدًا لتسليم الأرض إلى مستثمرين أجانب – يُرجّح أنهم إماراتيون – وبين الأهالي الذين يرفضون مغادرة منازلهم دون الحصول على تعويضات عادلة.
ومنذ عام 2017 وسكان الوراق يقدمون نموذجًا فريدًا في المقاومة الاجتماعية، حيث التصدي لمخططات التهجير القسري، دفاعًا عن وطنهم الصغير أمام حوت الاستثمار الوحشي الذي لا يضع في اعتباره سوى المكاسب المحققة ولو على حساب ممتلكات الناس وأرواحهم، فيما تحولت الشرطة المصرية إلى المتحدث الرسمي باسم المستثمر الإماراتي والمدافع عن مشروعاته حتى لو كان الثمن اختصام المواطنين والدخول في عداوات معهم.
وتُعتبر جزيرة الوراق حلقة واحدة في سلسلة مطولة من المواجهات والصدامات بين الأهالي وقوات الأمن، كأحد الارتدادات الاجتماعية الخطيرة الناجمة عن سياسة التسليع التي تتبعها الحكومة المصرية التي تسابق الزمن لسد فاتورة الفشل في السياسات المالية والاقتصادية المتبعة عبر إنعاش خزانة الدولة بعوائد طرح العديد من المناطق اللوجستية للمستثمر الأجنبي دون أي اعتبارات لأصحاب وسكان تلك المناطق، الأمر الذي يهدد الأمن الداخلي ويضع اللحمة الوطنية فوق فوهة بركان.
ما الذي حدث؟
في صبيحة السبت الماضي 12 من أبريل/ نيسان الجاري، اندلعت اشتباكات بين أحد الضباط وعدد من الشباب على إحدى المقاهي القريبة من كمين للشرطة داخل الجزيرة، وكان الشباب متواجدين في المكان انتظارًا لخروج مجموعة من المواطنين المحبوسين على خلفية مناوشات سابقة حدثت مع الشرطة.
وبينما هم ينتظرون في المقهى إذ بأحد الضباط يقتحم عليهم جلستهم لتبدأ مشادة كلامية بينه وعدد من الشباب، ليتطور الأمر إلى اعتداء عنصر الأمن على أحد الشباب، ليتدخل بقية أفراد الكمين دعما للضابط، مما أدى إلى اعتقال عدد من المواطنين، بعضهم من منازلهم والأخر ممن كانوا في الشارع.
في عصر اليوم نفسه هاجمت قوات الشرطة الجزيرة من جهة محور روض الفرج، حيث استهلت هجومها باستخدام قنابل مسيلة للدموع، إضافة إلى إلقاء الحجارة على منازل الأهالي والمارة المتواجدين في الشوارع، وهو ما تسبب في حدوث حالات اختناق كبيرة لاسيما في صفوف النساء والأطفال، حسب شهادات الأهالي التي نشرتها صفحة “جزيرة الوراق” على فيس بوك، والفيديوهات التي تم بثها عليها.
الهجوم المباغت قوبل بغضب شعبي من أهل الجزيرة الذين خرجوا لإنقاذ أهاليهم في الشوارع، لتبدأ الاشتباكات مع قوات الأمن المتواجدة، والتي لأول مرة تلجأ لاستخدام الرصاص الحي لتفرقة المتظاهرين، ما تسبب في وقوع إصابات خطيرة، وثقها نشطاء بالصور الحية.
واستمر اقتحام الجزيرة من عصر السبت حتى منتصف الليل والساعات الأولى من صبيحة الأحد، وسط مناوشات لم تتوقف، وإطلاق للنار المكثف، والقنابل المسيلة للدموع، ما تسبب في إحداث فوضى عارمة أججت مشاعر الغضب داخل الجزيرة ما دفع قوات الأمن للانسحاب، والاكتفاء بالمناوشات الخفيفة بين الحين والأخر.
يقول الأهالي إن الأجواء في الجزيرة لم تهدأ على الإطلاق منذ أن تم الإعلان عن تحويلها إلى مشروع استثماري لصالح الإماراتيين، حيث شدد الأمن من حصارها، ومنعوا دخول مستلزمات البناء، فيما احتجزوا المعدية التي تعتبر وسيلة النقل الوحيدة للخروج من الجزيرة، وهو ما فٌسر على أنه حصار ممنهج في محاولة لتشديد الضغوط على السكان لتركيعهم وإجبارهم على ترك منازلهم.
الثاني في أقل من شهر
يعد اقتحام السبت الماضي هو الثاني من نوعه في أقل من شهر، تحديدًا في غضون عشرين يومًا فقط، ففي 26 مارس/أذار الماضي شنت قوات الأمن هجوما عنيفًا استهدف سكان الجزيرة وأسفر عن اعتقال عدد منهم، حيث أغلقت القوات الشرطية المعدية (وسيلة التنقل الوحيدة بين الجزيرة والبر الرئيسي)، وأغلقت المستشفى الحكومي الوحيد في الجزيرة ومكتب البريد والجمعية الزراعية وغيرهم.
وتحاول الشرطة من خلال تلك التحركات التي رافقها هدم عدد من البيوت، ترهيب سكان الجزيرة وإظهار “العين الحمراء” لهم، لإجبارهم على الرضوخ لإملاءات وشروط الحكومة فيما يتعلق بالتنازل عن منازلهم وبيوتهم نظير مقابل مادي زهيد لا يتناسب مطلقا مع قيمة المنطقة التي يعيشون فيها.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تعرضت الجزيرة لهجمتين سابقتين، في 19 و 20 من الشهر، حيث حوصرت بالقوات الشرطية، واحتجزت المعدية، وفرض على الأهالي حظر تجوال إجباري، فيما أعيد التأكيد على منع دخول مستلزمات البناء واعتقال الحرفيين والصنايعية العاملين، في محاولة لتجميد كل خطوة من شأنها أن تعكس إصرار أهالي الجزيرة على البقاء.
وكلاء الإمارات في المنطقة
على مدار 8 سنوات كاملة تحولت الشرطة المصرية إلى وكلاء للمستثمر الإماراتي في الجزيرة، منذ أن تم الإعلان عن تدشين مدينة جديدة تحمل اسم “حورس” فوق أطلال الجزيرة عام 2017، لصالح جهاز مشروعات القوات المسلحة، ومنها إلى مستثمرين إماراتيين، لتبدأ معاناة عشرات آلاف المواطنين الذين باتوا تحت رحمة المال الإماراتي.
اللافت هنا أن الأهالي لا يرفضون فكرة المشروع من حيث المبدأ، بالعكس أبدوا مرونة كبيرة في التعاطي مع المفاوضات الخاصة بالمقابل الذي سيحصلون عليه نتيجة التخلي عن بيوتهم وأراضيهم، حيث انقسموا إلى قسمين، الأول لا يمانع في الخروج، شرط الحصول على تعويضات عادلة بسعر مناسب قياسا بسعر المتر في تلك الأرض، والثاني يميل إلى البقاء في الجزيرة، وذلك عبر الحصول على وحدة سكنية بديلة لمنزله بعد الانتهاء من عملية البناء وإقامة المشروعات السياحية المزعومة.
لكن الغريب أن الأجهزة الأمنية قدمت أرقاما هزيلة للتعويضات، إما مبلغ متواضع أو الانتقال لوحدة سكنية في إحدى المدن الجديدة البعيدة عن العاصمة، وهو ما رفضه الأهالي لتبدأ جولات الكر والفر، ومخطط الترهيب بغية التهجير، طواعية أو قسرًا، لتفريغ الجزيرة من سكانها عنوة، وهو ما قوبل بصمود ومقاومة غير متوقعة من الناس هناك.
وعلى مدار 8 سنوات كاملة تحولت السلطات الأمنية إلى وكيل للمستثمرين الأجانب، بل تجاوزت ذلك إلى قيامها بدور “البلطجي” الذي يحاول إخافة السكان وترهيبهم ودفعهم دفعا للتهجير، تارة بالقوة العنيفة، وأخرى بالحصار، وثالثة بالاغراءات المادية التي سرعان ما كشف زيفها وخداعها وأن هدافها الأساسي كان الوقيعة بين الأهالي.
وفي أواخر يوليو/تموز 2023، نشرت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية (حكومية) مخططًا أوليًا للمدينة الخيالية المتوقع تدشينها على أطلال جزيرة الوراق، والتي حملت اسم “حورس”، لافتة إلى أن كلفة المشروع ستصل إلى 17.5 مليار جنيه، فيما تٌقدر الإيرادات الكلية بـ122.54 مليار جنيه، وتبلغ الإيرادات السنوية نحو 20.422 مليار جنيه مصري لمدة 25 سنة.
ويتضمن المشروع الذي سيقوم على مساحة تبلغ 1516 فدانًا، أي ما يعادل 6.36 كيلومترات مربعة، 8 مناطق استثمارية، ومنطقة تجارية، ومنطقة إسكان متميز، وحديقة مركزية، ومنطقة خضراء، ومارينتين (1 و2)، وواجهة نهرية سياحية، بالإضافة إلى منطقة ثقافية وكورنيش سياحي، وإسكان استثماري.
وقبيل الإعلان عن هذا المشروع كشف مكتب “RSP للهندسة العقارية” في الإمارات عن مخطط استثماري لمشروع جزيرة الوراق، لافتا إلى أنه يعود إلى عام 2013.
واعتبر أن تطوير الجزيرة يُعدّ نموذجًا للتنمية المستقبلية في القاهرة، لما تتمتع به من موقع استثنائي على نهر النيل، يربط بين المدينة الجديدة وتاريخ العاصمة العريقة، منوها أن المشروع يهدف إلى تحويل الجزيرة إلى منطقة خدمات مالية تشبه جزيرة مانهاتن في مدينة نيويورك.
واستطاعت الإمارات خلال السنوات القليلة الماضية الهيمنة على العشرات من الأصول المصرية بأبخس الأسعار، تحت زعم الاستثمار، حيث استولت على العديد من الأراضي اللوجستية ذات القيمة الاستثمارية والأمنية الخطيرة مثل رأس الحكمة شمال مصر، وجزيرة الوراق في قلب نيل القاهرة، هذا بخلاف الاستحواذ على جزء كبير من قطاع الصحة والتعليم والقطاع المصرفي والزراعي.
وهو ما زاد من وتيرة الاحتقان الشعبي خاصة في ظل الثمن الناجم عن هذا التغول والذي يدفع كلفته المواطن العادي، إما بإجباره على التهجير أو بخس حقه في تعويضات زهيدة، فضلا عن الثمن الأكبر الذي تدفعه الدولة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا جراء موجة التنازل عن الأصول التي بدأتها قبل سنوات لسد العجز الناجم عن فشل السياسات الاقتصادية المتبعة بجانب التحديات التي فرضتها المستجدات الإقليمية والدولية مؤخرًا.
تهديد للسلم المجتمعي وانتهاك صارخ للدستور
من جانبها أدانت “الحركة المدنية الديمقراطية” (كيان سياسي مستقل يضم عددًا من أحزاب المعارضة والشخصيات العامة) ما يتعرض له أهالي جزيرة الوراق من ممارسات قمعية وانتهاكات ممنهجة تستهدف تهجيرهم قسرًا من أراضيهم ومنازلهم التي عاشوا فيها لأجيال، وصنعوا فيها تاريخًا من الاستقرار.
الحركة في بيان لها وصفت ما يحدث من اقتحامات واستخدام قوة مفرطة ضد مواطنين عُزَّل، بأنه “تعديًا صارخًا على حقوق دستورية وإنسانية، وقمعًا أمنيًا غاشمًا يستهدف اقتلاع الناس من بيوتهم وأراضيهم لصالح مشروعات استثمارية لا تعترف بوجود المواطنين”، مضيفة أن ما يجري على الأرض “ليس نزاعًا حول تخطيط عمراني، بل جريمة متكاملة الأركان، ويكشف عن استمرار نهج الدولة في إدارة ملفات السكن والتخطيط العمراني بمنطق القوة، لا الحوار والمشاركة والعدالة”.
وشددت الحركة على ضرورة “احترام الحق في السكن الآمن، ورفض التهجير القسري، وضمان مشاركة الأهالي في أي مشروعات تطوير تخص حياتهم” لافتة أن ذلك واجب دستوري وإنساني وسياسي، كما وصفت التعامل الأمني مع المواطنين باعتبارهم عقبة أمام المشروعات القومية بأنه “يُعدّ انحرافًا عن مفهوم التنمية الحقيقي، الذي يجب أن يُبنى من أجل الإنسان، لا على حسابه”.
بدوره جدد “حزب المحافظين”، أحد الأحزاب المنضوية تحت لواء الحركة، تضامنه مع أهالي جزيرة الوراق، مشددًا على أن اللجوء إلى العنف في التعامل مع المواطنين هو خط أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي مبرر، مضيفًا في بيان له أن “ما حدث مؤخرًا من استخدام مفرط للقوة ضد الأهالي المحتجّين سلميًا ليس فقط تجاوزًا أمنيًا، بل يمثل تهديدًا مباشرًا للسلم المجتمعي، ويعكس خللًا في آليات إدارة الأزمات وتجاهلًا خطيرًا لمبدأ الحوار والتوافق”
كما حذر الحزب من مغبة استمرار التصعيد ضد أبناء الجزيرة، ومؤكدًا أن الاستمرار في هذا النهج سيولد احتقانًا مجتمعيًا خطيرًا، ربما يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها، “وأن الحل الوحيد يكمن في فتح قنوات تفاوض جادة، واللجوء إلى آليات الشفافية والعدالة في تقييم الأوضاع، ومشاركة الأهالي في صنع القرار المتعلق بمصيرهم”.
ودعا الحزب جميع القوى السياسية والمجتمعية والبرلمانية إلى الاصطفاف خلف هذا المطلب العادل، وترسيخ مبدأ أن الدولة القوية هي التي تحمي أبناءها، لا التي تتعامل معهم بمنطق القمع.
بات واضحا أن هناك إصرارًا لا رجعة فيه على المضي قدمًا في تبني استراتيجية العصا الغليظة والخطاب الخشن مع المواطنين لتركيعهم لأهواء السلطة، حتى لو تحولت تلك السلطة إلى وكيل لخدمة مصالح حفنة من المستثمرين من هنا وهناك، ولو على حساب أبناء الوطن الذين تعرضوا في الآونة الأخيرة للكثير من الهزات العنيفة التي حذر خبراء كثيرون من تداعياتها على الثقة بين المواطن والدولة، في صلف غير مفهوم لعدم التعلم من دروس الماضي وتكرارها ذات الأخطاء بحذافيرها.