حاول أن يوازن بين البندقية والعقل، وبين السعي للتغيير والعمل على بناء الإنسان، ولم يكن مجرد قائد عسكري في مشهد سوري مكتظ باللاعبين، بل كان رجل مراجعات، حامل مشروع إصلاح لا مشروع غلبة، يرى أن المعركة الحقيقية تبدأ في الوعي قبل أن تصل إلى المتاريس.
في زمنٍ تصدّرت فيه مشاهد التشدّد والغلو، حاول حسان عبود، أو “أبو عبد الله الحموي” كما كانت يُعرف، أن يرسم مسارًا ثالثًا، لا هو تبعية لتنظيمات عابرة للحدود، ولا هو انسلاخ عن الهوية الإسلامية التي حملها بصدق وعقلانية. عاش سنوات عمره بين القراءة والعمل، بين السجن والمنفى، بين التفاوض وساحات القتال، واضعًا نصب عينيه هدفًا أكبر من مجرد إسقاط نظام: إعادة بناء مجتمع حر وواعٍ ومتماسك، لا ينكسر أمام وحشية نظام بشار الأسد ولا يضيع في صراعات الهوية.
في هذا التقرير، نفتح صفحات سيرة حسان عبود؛ نقترب من رؤيته الفكرية ومسيرته السياسية والعسكرية، نتتبع ملامح نشأته وتكوينه، ونسلّط الضوء على التحولات الكبرى في تجربته، لنفهم كيف صاغ هذا الرجل معادلة الثورة وأراد لها أن تكون أكثر من مجرد بندقية في وجه الطغيان، وكيف أصبح اسمًا لا يُنسى في ذاكرة الثورة السورية رغم رحيله المبكر.
أنجبت سوريا قادة جهاديين تركوا أثرًا عميقًا على الحركة الجهادية محليًا وعالميًا، نواصل في سلسلتنا هذه التي تنشرها “نون بوست”، سيرة أبرز هؤلاء القادة والرموز ضمن ملف “الجهادية السورية“، مستعرضين البيئة التي نشأوا فيها، والمنعطفات التاريخية والسياسية التي أسهمت في تكوينهم النفسي وشكلت أفكارهم وشخصياتهم.
ملامح النشأة ومسار التكوين
في سبعينات القرن الماضي، رسخ حافظ الأسد سلطته، محولًا الدولة إلى منظومة أمنية شمولية تهيمن على كافة مفاصل الحياة، كما عمد إلى تعزيز نفوذ الطائفة العلوية في مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية، ما ساهم في تأجيج التوترات داخل المجتمع السوري. ومع رفض التيارات الإسلامية للنهج العلماني وسياسات الأسد، شهدت البلاد سلسلة من الاضطرابات بين النظام والمعارضة الإسلامية.
وسط هذا المناخ المتوتر، وُلد حسان عبود عام 1978 في قرية الحويز التابعة لمحافظة حماة، وتنحدر أصول أسرته من قرية خربة الناقوس، لكنها استقرت في الحويز الواقعة في منطقة سهل الغاب بريف حماة.
نشأ عبود في بيئة ريفية محافظة طغت عليها قيم وعادات متوارثة، مما أثر في شخصيته وتمسكه بقيمه. وبعد أربع سنوات من ولادته، شهدت مدينة حماة مجزرة عام 1982 التي ارتكبها النظام، فخيمت أجواء القمع والقبضة الأمنية على المدينة، ليعيش عبود سنوات طفولته وصباه في مناخ مشحون بالإحساس بالظلم والاضطهاد.
تلقى عبود تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدرسة الحويز في وقت كانت فيه مناهج التعليم خاضعة لتوجهات حزب البعث، حيث ركز النظام على غرس الولاء للنظام في عقول الطلاب، ورغم هذا الجو الفكري الموجه، لم يتأثر عبود بتلك المناهج، بل وجد مصدر إلهامه الحقيقي في والده الذي كان مدرسًا للغة العربية، ومحبًا للقراءة ونهمًا لجمع الكتب.
وفي كنف هذا الجو الثقافي في البيت، تفتحت عينا عبود مبكرًا على حب القراءة كما تروي والدته، وانطلق في رحلته الفكرية مستفيدًا من مكتبة والده الغنية التي كانت من أكبر المكتبات في مدينة حماة وريفها، لا سيما في مجال اللغة العربية، فكانت له منبعًا معرفيًا أثرى مداركه ووسع آفاقه.
بعد ذلك، التحق عبود بمدرسة أكرم علي الأحمد في قلعة المضيق لإكمال دراسته الثانوية، ثم انتقل إلى جامعة حلب، وانضم إلى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وقد شكلت هذه المرحلة محطة مفصلية في حياته، إذ بدأت خلالها تتضح معالم توجهه الفكري وتتبلور رؤيته بصورة أعمق وأكثر نضجًا.
لم تكن الجامعة مجرد مكانًا للدراسة بالنسبة لعبود، بل كانت ساحة فكرية أسهمت في تشكيل وعيه السياسي، هناك، بدأ يفتح آفاقه على الفكر الإسلامي بمختلف توجهاته، ومال نحو الخطاب الإسلامي الوسطي الذي يوازن بين الدعوة والعمل، ويراعي التوازن بين الفكر والممارسة.
ويحكي عبود عن تلك الحقبة أن غرف المدينة الجامعية كانت عبارة عن نواد مصغرة لتداول الشأن السياسي والتباحث بين مشارب فكرية متنوعة، وكان قطاع الإسلاميين يتسع ويزداد كل يوم.
وبفضل خلفيته الثقافية والدينية، تأثر بالكتب الإسلامية التي تناولت مفاهيم مثل العدل، الجهاد، وحال الأمة، ومن هنا، بدأت تتشكل لديه قناعات راسخة بأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إحياء الوعي الإسلامي وبناء جيل جديد قادر على المواجهة والتأثير.
وأثناء دراسته في الجامعة، توفي والد عبود، مما أثر عليه بشكل كبير، إثر ذلك، ترك الدراسة لمدة عامين ليكرس وقته للعمل ومساعدة عائلته في مواجهة تكاليف الحياة، وسافر إلى تونس للعمل.
من الناحية الاقتصادية، شهدت هذه الفترة التي عاشها عبود ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات البطالة، وظهور طبقة محدودة استفادت من قربها من دوائر السلطة، وأصبح الفساد والمحسوبية سمة بارزة لتلك المرحلة، هذه الأوضاع وولدت لديه شعورًا بالمسؤولية تجاه ما يراه من غياب للعدالة.
عاد عبود لمتابعة دراسته بعد تجاوزه لتلك المرحلة العصيبة، وقد أسهمت سنوات الدراسة، إلى جانب نشأته في حماة في صقل شخصيته، ومع ذلك، كان يحمل في داخله طاقة كبيرة لم تتح له الفرصة للتعبير عنها، لقد ظل متابعًا للقضايا العامة، ودرس كل الحركات الإسلامية في العالم حتى تكتمل عنده الصورة.
وبحسب شقيق عبود، فقد كان يعتقد أن النظام يعمل على طمس الوجود السني في المنطقة، وقد تعزز هذا الاعتقاد لديه نتيجة قرب قريته من القرى ذات الأغلبية العلوية، مما جعله يلاحظ عن قرب السياسات الطائفية التي كانت تُمارس.
ومع تصاعد وتيرة التشيع في سوريا، لاسيما منذ عام 2006، رأى عبود في ذلك غزوًا فكريًا وثقافيًا ممنهجًا، فبدأ يحذر الناس من خطورة التمدد الشيعي، وانخرط في نقاشات طويلة حول هذه الظاهرة، حتى أنه كان يقضي ليالي بأكملها في الحوار والتباحث بشأنها، في محاولة لتوعية من حوله وإيضاح أبعاد ما يجري.
أما على المستوى الإقليمي، فقد كانت المنطقة تمر بأحداث مزلزلة، أبرزها انتفاضة الأقصى والغزو الأمريكي للعراق، وهي تطورات تركت أثرًا بالغًا في نفس عبود، وقد دفعه هذا الواقع المتوتر إلى تنظيم مجموعة من رفاقه بهدف دعم المجاهدين في العراق، وذلك من خلال تأمين معدات إلكترونية يصعب الحصول عليها هناك، لكنها كانت متوفرة في سوريا.
بجانب جهوده في تأمين العلاجات الطبية للجرحى في معارك العراق، ويروي بعض رفاق عبود أنه سافر بنفسه إلى العراق، وبعد عودته، تمكنت أجهزة النظام من تتبع نشاطه المتنامي بالشأن العراقي، ليُعتقل من منزله في بلدة الحويز عام 2007، أي بعد ثلاث سنوات من تخرجه من الجامعة.
تجربة السجن وأثرها في بلورة الفكر
تنقل عبود بين عدة سجون وأفرع أمنية، من بينها فرع التحقيق العسكري 48 في دمشق، قبل أن يُنقل إلى سجن صيدنايا، وخلال فترة اعتقاله ورغم تعرضه للتعذيب، بدأت ملامح شخصيته القيادية تتجلى بوضوح، إذ تولى إدارة شؤون رفاقه داخل السجن، وتواصل مع إدارة السجن في القضايا المتعلقة بالسجناء مثل الطعام وغيره.
في السجن، بدأت مرحلة جديدة في حياة عبود، تميزت بنقاشات فكرية عميقة مع رفاقه، حيث أظهر حرصًا كبيرًا على عدم الانجرار وراء مواقف فكرية متسرعة دون دراسة وتمحيص. ويروي بعض رفاقه أنه جمعهم يومًا وأكد لهم ضرورة التريث وعدم تبني أي موقف فكري حاسم داخل هذا السجن المغلق، مبينًا أن الوقت المناسب سيأتي بعد خروجهم، وعندها سيتمكنون من الرجوع إلى كتب العلماء ومقارنة الآراء لتمييز الصواب من الخطأ.
كان عبود يرفض بشدة أن يعتمد السجين أي فكر داخل السجن، إذ كان يرى أن تبني أفكار خاطئة في مثل هذا السياق المحدود قد يؤدي إلى نتائج كارثية عند الخروج إلى الواقع، فالسجين برأيه، يمر بحالة نفسية وفكرية مختلفة تمامًا عن الإنسان الطليق الذي يتمتع بأفاق أوسع وتفاعل مباشر مع المجتمع.
لم يحضر عبود أي حلقة نقاشية في السجن تتناول مسائل الكفر والإيمان، وكان يرفض حضورها بشدة، معتقدًا أن إثارة هذه القضايا مع غير المتخصصين قد تؤدي إلى الغلو، لكنه حضر بعض الحلقات العلمية التي كانت بعيدة عن هذه المواضيع، مثل حضوره حلقة قدمت فيها شرحًا لمصطلح الحديث، التي كانت نصفها في صيدنايا والنصف الآخر في عدرا.
كما حضر بعض حلقات أصول الفقه، بالإضافة إلى حلقة في الفقه الحركي لبهاء الجغل، وكان عبود لا ينسب نفسه إلى السلفية بالمعنى المتعارف عليه في الآونة الأخيرة، بل كان يقول: “أنا مسلم ومذهبي شافعي”.
مع ذلك، يوضح عبود أنه شارك في نقاشات فكرية داخل السجن أسفرت عن بلورة أفكار وحجج جديدة تجاوزت الإطار التقليدي للسلفية الجهادية، فقبل الإفراج عنهم، كان عدد من القادة الذين سيشكلون لاحقًا حركة أحرار الشام، قد بدأوا بالفعل مراجعات فكرية مهدت لمرحلة من التحولات والإصلاحات الأيديولوجية التي ظهرت لاحقًا في توجهات الحركة.
وقد تحدث مهند المصري القائد الثاني لحركة أحرار الشام عن تلك التجربة، موضحًا كيف لاحظ في السجن سلوك أصحاب الفكر المتشدد، وسلوك من ينتمون إلى أقصى اليمين، وكذلك أولئك الذين يتبنون موقفًا وسطيًا، وهذه التجربة كانت عاملًا مهمًا في بلورة مشروع فكري يتسم بالاعتدال والوسطية.
ويقول عبود عن تلك الحقبة: “مرحلة سجن صيدنايا في الحقيقة جرى فيها تقويم بعض المفاهيم والتصورات، وعايشنا لأول مرة الفرق بين النظرية والتطبيق عند من ينتهج النهج الجهادي وبالتحديد السلفية الجهادية”.
تأسيس كتائب أحرار الشام
في مطلع عام 2011، أفرج النظام عن حسان عبود ضمن مجموعة صغيرة من المعتقلين، وكان حينها قد قضى ربع مدة محكوميته، غادر عبود السجن في 25 مارس/آذار من العام نفسه، تزامنًا مع الأيام الأولى لانطلاق الثورة السورية، التي لم تكن قد تجاوزت يومها العاشر.
وما إن خرج حتى انخرط في العمل الثوري، حيث بدأ بتنظيم صفوف الشباب في منطقته، وبنظرة متفائلة، رأى عبود أن الثورة ماضية في طريقها، ودعا رفاقه إلى التريث وعدم إضفاء أي صبغة عسكرية على الثورة تجنبًا لتشويه صورتها أو تصنيفها بشكل يضر مسارها، قائلًا: “لن نقوم بأي تحرك الآن حتى لا نعرض شعبنا للخطر، فمن أراد المشاركة في المظاهرات فليفعل، ومن اختار البقاء في منزله بسبب المراقبة الأمنية فليفعل”.
ويحكي عبود أنه شارك بنفسه في المظاهرات السلمية، لكن رغم دعوته للحذر في البداية، بدأ بالتواصل مع عدد من الشباب تحسبًا لاحتمال الانتقال إلى العمل المسلح إذا دعت الحاجة. ومع تصاعد العنف، وبدء النظام بإطلاق النار على المتظاهرين، قال عبود: “لا خيار أمامنا سوى أن نحمي أنفسنا”.
وبالفعل، بدأ عبود في تأمين شراء السلاح، فاستطاع الحصول على عدد من بنادق الصيد من نوع بمبكشن، وفي يونيو/ حزيران 2011، كان عبود وصديقه المقرب عبد الناصر الياسين الذي أصبح فيما بعد القائد العسكري لأحرار الشام، قد أسسا كتيبة صغيرة في ريف حماة.
كما شكل عبود كتيبة أخرى في سراقب، مستفيدًا من شبكة معارفه هناك، وقد حملت إحدى الكتيبتين اسم “سرية أسامة بن زيد” والأخرى “كتيبة عمر بن الخطاب”، وقد شكلت هاتان الكتيبتين فيما بعد النواة الأولى لانطلاقة كتائب أحرار الشام.
وعشية الإفراج عنه من السجن، التقى خالد أبو أنس من سراقب بعبود، حيث دار بينهما نقاش حول ضرورة تشكيل اتحاد عسكري لمواجهة النظام انطلاقًا من مناطقهما، وتولى أبو أنس قيادة الوحدات العسكرية في محيط سراقب، بينما أسندت مسؤولية شمال حماة ومنطقة الغاب إلى عبود، وقد عرض أبو أنس على عبود تولي قيادة الجماعة، وهو ما قبله الأخير بعد تردد.
مع ذلك، ورغم مواصلته تشكيل خلايا سرية استعدادًا للمرحلة القادمة، فقد امتنع عبود عن تنفيذ أي تحرك عسكري خلال تلك الفترة، مفضلًا التريث، واستمر في هذا النهج قرابة ستة أشهر، إلى أن أعلن حسين هرموش انشقاقه وتأسيس الجيش الحر، عندها خرج عبود في تسجيل مصور ليعلن رسميًا عن تشكيل “كتائب أحرار الشام”، متوليًا قيادتها منذ اللحظة الأولى.
ويؤكد عبود أن كتائب أحرار الشام حافظت على استقلاليتها حتى بعد الإعلان عن تشكيل الجيش السوري الحر، مشيرًا إلى أنهم كانوا حريصين منذ البداية على تأكيد هذا الاستقلال، وأوضح قائلًا: “كنا أسبق وجودًا من الجيش الحر، ولما قام الجيش الحر لم نعلن الانضمام له، وكان لنا أسبابنا في هذا”.
ثم قدم عبود ملامح هوية كتائب أحرار الشام عبر مجموعة من التغريدات نشرها على حسابه في تويتر قال فيها: “هل أتاك حديث كتائبنا؟ إنها كتائب إسلامية شعبية مستقلة، تجاهد في سبيل الله، أطر الشرع عملها”.
وبعد أن أعلن عبود انطلاقة كتائب حركة أحرار الشام في أواخر عام 2011، عملت المجموعة في البداية في محافظة إدلب، ولكنها توسعت بسرعة خاصة في شمال سوريا، ونفذت سلسلة من العمليات ضد قوات النظام باستخدام الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة، وسرعان ما وسعت نطاق عملياتها لتشارك في معارك استراتيجية بارزة، كان من أهمها السيطرة على مدينة حلب ومطار تفتناز العسكري في ريف إدلب عام 2012.
وفي مطلع عام 2013، اندمجت كتائب أحرار الشام مع خمس فصائل أخرى ذات توجه إسلامي، مشكلة كيانًا عسكريًا جديدًا تحت اسم حركة أحرار الشام الإسلامية، ووسعت الحركة نطاق عملياتها العسكرية، وسجلت حضورًا لافتًا في معارك بارزة، كالسيطرة على مدينة الرقة وتولي إدارتها، إضافة إلى السيطرة على مطار الجراح العسكري في ريف حلب.
وكتب عبود حينها: “قامت بحمد الله حركة أحرار الشام الإسلامية من اندماج حركة الفجر الإسلامية وجماعة الطليعة الإسلامية وكتائب الإيمان المقاتلة وكتائب أحرار الشام.. أنا في حركة أحرار الشام تنظيمًا لا ولاءً، كفرت بصنمية الجماعات وقدسية التنظيمات، ولم أرها إلا إطار عمل لخدمة الدين، لا تنعقد عليها المفاصلة”.
كان عبود حريصًا على بناء مشروع جديد يختلف عن كل من جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، واعتبر أن أحرار الشام، تتميز بالمرونة والانفتاح في التعامل مع الواقع دون أن تُفرّط في الثوابت والأصول، كما جادل في مقطع مرئي حين طرح سؤالًا لماذا لم ينضم إلى تنظيم القاعدة أو الإخوان المسلمين أو حزب تحرير أو أيا من الجماعات الإسلامية الأخرى.
فقد كانت لديه ملاحظات جوهرية على مسيرة هذه الجماعات وآليات تفكير رموزها، وقال عبود إن قرار تشكيل أحرار الشام جاء بعد دراسة لمختلف التجارب الإسلامية ومعايشة بعضها عن قرب، وذكر أنه بعد أن استقراء الواقع السوري، رأى أنه من غير المجدي أن يأتي بتجربة من أي بقعة ويسقطها على الواقع السوري، فالفروق بين السياقات والمعطيات في تلك الجبهات وبين الواقع السوري كبيرة حسب وجهة نظر عبود.
وبالتالي، بنى عبود رؤيته استنادًا إلى تجارب تاريخية سابقة، ومع مرور الوقت، سعى لإطلاق مشروع يملأ الفراغين السياسي والأمني في المناطق المحررة، ومن هذا المنطلق، تميزت حركة أحرار الشام بحضور مدني وخدمي بارز، حيث عملت على تلبية احتياجات السكان وتوفير متطلبات الحياة الأساسية مثل الخبز والماء والأدوية في المناطق التي كانت تحت سيطرتها.
ومع أواخر عام 2013، شكلت حركة أحرار الشام بالتعاون مع ثماني فصائل عسكرية أخرى تحالفًا جديدًا حمل اسم “الجبهة الإسلامية”، والذي اعتبره بعض المراقبين خطوة استراتيجية تهدف إلى مواجهة تهديدات تنظيم الدولة، وتولى عبود قيادة المكتب السياسي لهذا الكيان الذي أصبح أكبر تجمع للفصائل المسلحة المنخرطة في الثورة السورية.
ورغم قيام داعش بقتل الطبيب أبو ريان أحد قيادات حركة أحرار الشام تحت التعذيب، إلا أن معظم عناصر الحركة أصروا على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع داعش، وفيما بعد، أقر عدد من قادة الحركة بأن هذا الموقف كان خاطئًا، محملين أنفسهم مسؤولية خسارة العديد من المناطق لصالح داعش، مثل الرقة، ودير الزور، والحسكة، وأجزاء من ريف حلب.
وقد اعتبروا أن سياسة الرفق كانت غير صائبة، وأنه كان من الواجب وضع حد لتجاوزات داعش منذ البداية، ووفقًا لـ “أبو جابر الشيخ”، كانت تلك الفترة صادمة، حيث أشار إلى أن “جل الإخوة ألقوا أسلحتهم تورعًا عن الخوض في دماء المسلمين”.
ومع مطلع عام 2014، تطورت التوترات إلى مواجهة مفتوحة بين الطرفين، انتهت بطرد داعش من مناطق عدة في إدلب وحلب، في حين خسرت أحرار الشام سيطرتها على مدينة الرقة.
ثم في منتصف عام 2014، أصدرت الحركة بالتعاون مع باقي فصائل الجبهة الإسلامية ميثاق الشرف الثوري، الذي تضمن العديد من المصطلحات مثل احترام حقوق الأقليات، ودولة العدل والقانون والحريات، وإدانة الغلو.
ودافع عبود عن ميثاق الشرف الثوري موضحًا أن الهدف من توقيعه هو توحيد الصفوف على قاعدة مشتركة تتمثل في إسقاط النظام، بعيدًا عن الخلافات الحزبية أو التصارع حول رؤى فكرية، معتبرًا أن الأولوية هى للاتفاق على الحد الأدنى الذي يجمع الجميع في هذه المرحلة.
الرؤية السياسية والفكرية لعبود
يذكر أحد رفاق عبود أنه في بداياته كان يميل إلى تبني أفكار قريبة من حزب التحرير، ثم اقترب لاحقًا من القاعدة، غير أن خروجه من السجن ولقاءه بعدد من الشخصيات العلمية والقيادية في العالم الإسلامي، أتاح له فرصة أوسع للاطلاع والتأمل، ما ساهم في توسعة أفقه وتطور رؤيته الفكرية.
ومع توسع نشاطه وتراكم خبراته، أصبح عبود أكثر مرونة وأوسع رؤية في إدارة العمل الثوري والسياسي، ويلاحظ أنه في أواخر أيامه كان يؤطر لفكر قريب من فكر الإخوان المسلمين السياسي.
لقد كان كثير التنقل بين عدة دول لشرح قضية الشعب السوري وإظهار عدالتها، مؤكدًا أن حمل السلاح في سوريا كان خيارًا اضطراريًا وليس اختياريًا، وقد شارك في مؤتمرات إسلامية دولية، واشتهر بانفتاحه على وسائل الإعلام، حيث أجرى عدة مقابلات مع وسائل إعلام عربية وأجنبية لعرض قضيته.
وفي ربيع عام 2013، أدى تدخل حزب الله العلني في سوريا إلى تصاعد موجة من التضامن الشعبي والسياسي داخل الأوساط السنية مع الثورة السورية، وقد أبدى الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي تعاطفًا علنيًا مع الثورة، وشارك في مؤتمر جماهيري هتف فيه بشعار “لبيك يا سوريا”.
في هذا السياق، زار حسان عبود القاهرة في يونيو/حزيران 2013، حيث التقى بالشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل والشيخ حافظ سلامة وعدد من الشخصيات البارزة، وشارك في مؤتمر لكبار علماء المسلمين نُظم بهدف دعم المجاهدين في سوريا.
وأثناء كلمته في المؤتمر، شدد عبود على أهمية “تجاوز الحدود الضيقة للدولة الوطنية”، واللافت أن عبود كان القائد السوري الوحيد الذي حضر ذلك المؤتمر، ما عكس مكانته ودوره البارز في المشهد الثوري آنذاك.
ورغم أن الخطاب العام لعبود اتسم غالبًا بنقده الشديد للغرب، إلا أنه لم يكن منغلقًا بالكامل، بل أبدى في بعض الأحيان استعدادًا للتواصل مع الجهات الغربية، ومع ذلك، ظل يعتبر الغرب منافقًا، وكان عبود من أبرز المنتقدين لما أسماه بـ “المعايير المزدوجة” في السياسات الغربية.
ورغم انخراطه في العمل العسكري، لم يكن يرى أن السلاح هو الغاية، بل أداة مرحلية لتحقيق مشروع أوسع، كان يؤمن بأن الثورة ينبغي أن تتطور إلى بناء مشروع سياسي متكامل يستند إلى المرجعية الإسلامية، ويقوم على الشورى والعدل.
في أكثر من مقابلة له، شدد عبود على أن هدف الثورة هو تحرير الشعب السوري من الاستبداد بكافة أشكاله، وليس فقط إسقاط النظام، وكان خطابه يحمل قدرًا كبيرًا من المرونة السياسية.
وكان يرى أن معركة الوعي والتثقيف لا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية، بل تُعد ركيزة أساسية في الدفع بالثورة نحو أهدافها، وأولى اهتمامًا خاصًا للأطفال وتعليمهم، فقد سعى إلى إنشاء فصول دراسية لهم في المناطق المحررة ومخيمات النازحين.
كذلك كان عبود يؤمن بأن الجهاد لا ينبغي أن يرتبط بمن يطلق عليهم منظري التيار الجهادي، وإنما يكون خطًا عريضًا يجمع المسلمين من أهل السنة كافة، ومن الأفكار الجوهرية التي تبناها في هذا السياق، مفهوم “الحاضنة الشعبية”، حيث سعى إلى بناء جهاد متصل بالجماهير، يتحرك في إطار جماهيري واسع لا ينعزل عن الناس.
لذلك، سعى عبود إلى تحقيق توازن بين قيادة النخبة الأيديولوجية والقاعدة الشعبية، بحيث تصبح الحركة الجهادية انعكاسًا حقيقيًا لإرادة الأمة، لا مجرد تعبير عن توجه فئة ضيقة. وكان يؤكد أن غياب المصارحة والشفافية في مواجهة أخطاء التيار الجهادي، أدى إلى إعادة إنتاج تلك الأخطاء مع كل ساحة قتال جديدة. كما كان يرى أن أخطر ما تعرضت له الجماعات الجهادية هو تغلغل فكر التكفير والتساهل في إصدار الأحكام الشرعية، ما تسبب في انحرافات فكرية وسلوكية.
وفي حين أكد عبود على الأهداف السياسية للثورة، وأن هدفه إقامة دولة عادلة تحترم حقوق جميع مواطنيها، بمن فيهم الأقليات الدينية، لكنه عبر أيضًا عن رفضه للعلمانية والديمقراطية والدولة المدنية.
اعتبر عبود أن العلمانية تتناقض من حيث الجوهر مع المبادئ الإسلامية، غير أنه في الوقت ذاته رفض الاستبداد السياسي، موضحًا أن رفضه للديمقراطية لا يعني تأييدًا لأي نظام يقمع الحريات أو يُقصي إرادة الشعب، بل كان يؤمن بضرورة إقامة نظام يستند إلى مبدأ الشورى، يضمن للأمة حق المشاركة في اتخاذ القرار ومحاسبة الحاكم، وكان انتقاده للديمقراطية ينبع من كونها تجعل السيادة للشعب، بينما يرى أن السيادة في الإسلام لله وحده.
وكانت رؤيته تقوم على تقديم نموذج إسلامي شمولي لا يجزئ الدين، يرى عبود أنه يجب تقديم الإسلام بشموليته دون تقزيمه أو الاقتصار على جوانب معينة كمفهوم الولاء والبراء فقط، وينظر عبود إلى الشريعة على أنها كاملة ولا تحتاج سوى التأمل في النصوص واستنباط الأحكام.
أما في ما يتعلق بالغايات والمصالح، يشدد عبود على ضرورة التحرر من الفئوية الضيقة والتركيز على المصلحة العامة، وقد أكد مرار ضرورة تغليب مصلحة الأمة على منفعة الجماعة، وأن تكون تلك الفصائل المسلحة خادمة للأمة، وليس العكس.
لذا دعا عبود إلى تأسيس كيان سوري مستقل يُعبر عن هوية الشعب، ويحتضن جميع القوى الوطنية الصادقة، وقد تناول في رؤيته مفهوم حق المواطنة، ورغم رفضه لفكرة سوريا العلمانية، شدد على أن الحوار هو السبيل للتعامل مع أصحاب هذا التوجه، لا الإقصاء. كما دعا إلى بناء دولة مؤسسات حديثة تعتمد على مبادئ علم الإدارة الحديث، بما يضمن الكفاءة والشفافية في إدارة شؤون البلاد.
في الواقع، من أبرز ما ميز شخصية عبود، حرصه على وحدة الصف وتجاوز الخلافات الأيديولوجية بين الفصائل، مع تجنب الانخراط في أي صراع جانبي لا يخدم مواجهة النظام. وخلال فترة قيادته لحركة أحرار الشام، سعى بشكل حثيث إلى بناء جسور التنسيق والتعاون مع مختلف الفصائل السورية، واشتهر بسعيه الدائم لرأب الصدع وتجاوز الانقسامات بين المكونات الثورية.
وقد امتلك قدرة لافتة على بناء علاقات جيدة مع طيف واسع من الفصائل، وكان ينظر إلى علاقته مع الجيش الحر بوصفها علاقة تكامل وتعاون، رغم وجود اختلافات في بعض الرؤى. كما شدد على أن من يسعى لتمثيل الشعب، لا بد وأن يعيش واقعه ويتقاسم معه الألم والمعاناة، ولهذا السبب كان كثيرًا ما يوجه انتقادات للمعارضة المقيمة في الخارج.
كما تبنى فكرة إنشاء فصيل كردي مستقل، بهدف منع احتكار حزب العمال الكردستاني (PKK) لتمثيل الأكراد في سوريا، ومنع تحوله لاحقًا إلى عائق أمام مسار الثورة، ولتحقيق ذلك، شجع عبود بعض رفاقه الأكراد على تشكيل فصيل مسلح خاص بهم، أسفر عن تأسيس “الجبهة الإسلامية الكردية” التي دعمها عبود ماليًا وعسكريًا.
والواقع أن عبود عبر عن تضامن واضح مع الأكراد، حيث اعتبر أنهم تعرضوا لظلم كبير في ظل حكم البعث، ومع ذلك، كان يرى أن هذا الظلم لا ينبغي أن يتحول إلى مبرر لانفصالهم عن باقي مكونات الشعب السوري، لأن مثل هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام مطالب انفصالية مشابهة مستقبلًا، مما يُهدد وحدة البلاد.
ومن الجوانب اللافتة في شخصية عبود كما يروي أحد رفاقه، حرصه الدائم على المشورة والعمل الجماعي، فقد كان نادرًا ما يتخذ قرارًا بمفرده دون الرجوع إلى من حوله، ومع ذلك، كان يفتقر أحيانًا إلى الحزم عند وقوع خلافات داخل مجلس الشورى، وهو ما دفع أبو خالد السوري إلى أن يقول له يومًا: “أشتهي أن تضرب الطاولة بيدك مرة واحدة فقط”، في إشارة إلى رغبته بأن يُظهر عبود قدرًا أكبر من الحزم حين تحتدم النقاشات.
كما يرى “أبو جابر الشيخ” أن عبود كان يجتهد في العديد من الأمور، لكن طيبته وحسن خلقه كان لهما تأثير في اتخاذ بعض القرارات، حيث أتاح لينه للكثير من الشخصيات أن تبرز شدتها، وهذا بدوره فتح المجال لتوغل أبناء الغاب في مفاصل الحركة، فقد كان المكتب الخارجي كله من الغاب، وكذلك مكتب الاستثمارات، وبحسب الشيخ، فقد انعكس هذا الأمر سلبًا على واقع الحركة في وقت لاحق.
في الواقع، استمرت الخلافات خصوصًا بعد صعود تنظيم داعش، وفي البداية، كان عبود رافضًا لقتال تنظيم الدولة وظل يبحث عن طرق أخرى لحل الخلافات معهم بعيدًا عن سفك الدماء، رغم علمه بغلو فكرهم وتسلطهم، لكنه كما أكد معظم رفاقه كان يكره بشدة القتال الداخلي ويحرص على تجنبه، ساعيًا لإيجاد حلول سلمية بعيدًا عن الاحتراب.
ويرى عبود أن خلافة البغدادي مؤامرة لتقسيم سوريا ولا تمت للإسلام بصلة، بل تمثل حكمًا جبريًا على نهج الخوارج. كما انتقد تنظيم الدولة لافتقاره إلى الفقه والسياسة الشرعية، معتبرًا أن الأمية السياسية وسوء فهم الواقع من أخطر التحديات، وأن تجربة الجهاد في العراق أوجدت فجوة بين المجاهدين والسياسة الشرعية.
وقد حاول مرارًا توجيه النصح لداعش، مبينًا أن أفعالهم لا تصب إلا في مصلحة النظام، وحذرهم من تشويه صورة الإسلام، وأكد أن قتل المخالف بوحشية والتلذذ بذلك ليس له أي بالدين، وقد كتب في هذا السياق:
“أخي المجاهد، يا من حولت وجهة بندقيتك، بالله عليك اخل مع نفسك سويعة قبل الفجر، وادع الله بصدق، ثم انظر بحالك، أهذا ما خرجت لأجله؟ أهذا ما سيرضي ربك؟”.
في الواقع، ندد عبود بتنظيم الدولة ووصفهم بأنهم أسوأ صورة للإسلام، قائلًا: “إنهم النسخة الملتحية من الشبيحة”، وعند إعلان تنظيم الدولة حل جبهة النصرة، وقف عبود إلى جانب الجولاني، وقدم له مبلغًا كبيرًا من المال، كما سمح بإخفاء أسلحة وذخائر جبهة النصرة في مقرات أحرار الشام ليحميها من أن يسطو عليها تنظيم الدولة.
كان عبود يرى ضرورة الحفاظ على جبهة النصرة خشية أن ينضم عناصرها بالكامل إلى صفوف تنظيم الدولة، وكان يردد: “لا نريد أن نخسر المهاجرين الذين جاؤوا لنصرة الشعب السوري، وإذا ذهبت النصرة ونحن لا نستطيع أن نستوعبهم، فإنهم سيذهبون إلى الغلاة”.
الاغتيال ونهاية المسيرة
بعد أن لاحظ عبود التراجع الحاد في الدعم الدولي للقضية السورية بعد ظهور داعش واستمرار معاناة السوريين، كانت رسالته الأخيرة أن أحرار الشام ستشارك في أي حلف فضول وتقبل أي خطة لتخفف من محنة السوريين، في الواقع، عبود كان يتمنى انتهاء الحرب بأسرع وقت ممكن، ولكن بشرط أن يصبح الشعب السوري حرًا في اختيار حكامه.
ويبدو أنه في أواخر أيامه راهن على عهد ثوري موحد، ففي خريف عام 2014، كان يجري مفاوضات مع قوى معارضة أخرى للانتقال من الحالة الكتائبية إلى تحالف أوسع تحت قيادة مشتركة.
وبينما كان مجلس قيادة حركة أحرار الشام بقيادة عبود يعقد اجتماعًا لمناقشة خطواته المقبلة في ظل الوضع المعقد للثورة، هزّ خبر اغتيال عبود الأوساط الثورية في 9 سبتمبر/أيلول 2014، حيث قتل مع أكثر من 45 من كوادر الحركة، بينهم مفكرون وعسكريون وسياسيون من الصف الأول جراء تفجير غامض استهدف اجتماعًا لهم في ريف إدلب.
شيخنا حسان عبود نبشرك بأن جنودكم ما زالوا على عهدهم.. وهاهم يعيدون فتح خطاب وسيفتحون #حماة بإذن الله ضمن معركة #ردع_العدوان #حماة#إدارة_العمليات_العسكرية #قادتنا_شهداء#مراسل_أحرار_الشام
تلغرام :https://t.co/0Wd4fRgivt pic.twitter.com/ODIfPyg68t
— مراسل أحرار الشام (@M_Ahr_8ar_) December 4, 2024
شكل ذلك الحادث صدمة كبيرة واعتبره كثيرون منعطفًا حاسمًا في مسار الثورة، غير أن عبود خلف وراءه مشروعًا سعى من خلاله إلى المزج بين الإصلاح والجهاد، والعمل المدني والميداني، وبين التمسك بالثوابت والانفتاح على الواقع، كانت تجربته محاولة جادة لبناء نموذج مغاير في مرحلة سادها الانقسام، ورغم رحيله المبكر، فإن الأفكار التي آمن بها، ظلت مصدر إلهام لكثير من أبناء الحركة والثورة.