تزامنًا مع مرور عامين على اندلاع الحرب في السودان، ترزح مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، تحت حصار خانق تفرضه ميليشيا “الدعم السريع”، في ظل أوضاع إنسانية وصفتها الأمم المتحدة بأنها “كارثية وغير مسبوقة”.
المدينة التي كانت تمثل آخر الملاذات الآمنة في دارفور، تحوّلت إلى ساحة مفتوحة للموت البطيء، بعدما تعرضت لأكثر من 180 هجومًا دمويًا من الميليشيا، إلى جانب القصف المتواصل بالطائرات المسيّرة والمدفعية.
ويُفاقم الحصار المفروض الأزمة يومًا بعد يوم، إذ تمنع الميليشيا دخول المساعدات الغذائية والطبية، ما أدى إلى تفشي الجوع وغياب أبسط مقومات الحياة، وسط صمت دولي متواطئ مع معاناة السكان.
والتاريخ يعيد نفسه على نحو مأساوي؛ فقبل أكثر من قرن، واجهت الفاشر حصارًا مشابهًا من قبل الجيشين الإنجليزي والمصري، حين أعلن السلطان علي دينار، حاكم المدينة وإقليم دارفور، ولاءه للدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
ويُذكر أن السلطان علي دينار، الذي اشتهر بإرساله كسوة الكعبة المشرفة سنويًا، قد حكم سلطنة الفور منذ عام 1898، ووقف مدافعًا عن عاصمته حتى النهاية، قبل أن يسقط في معركة برنجيه في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1916، على يد الآلة العسكرية الاستعمارية.
450 قتيلًا بثلاثة أيام، ومليون ونصف سوداني على حافة كارثة إنسانية.. ماذا يجري في #الفاشر؟ pic.twitter.com/aWx9Xh0RXM
— نون بوست (@NoonPost) April 14, 2025
أهمية الفاشر
تتصدر مدينة الفاشر واجهة الاهتمام المحلي والدولي اليوم، عقب الهجمات المتكررة والعنيفة التي شنتها ميليشيا “الدعم السريع” على المدينة ومحيطها، بما في ذلك مخيمات النازحين في زمزم وأبو شوك، في محاولة لتعويض فقدانها للعاصمة الخرطوم عبر السيطرة على هذه المدينة الرمزية والاستراتيجية.
فمع استعادة الجيش السوداني لزمام المبادرة في الخرطوم، أصبحت الفاشر الوجهة التالية في خريطة الصراع، بسبب وضع سكانها تحت حصار خانق منذ أشهر من قبل الميليشيا حيث دخول الإمدادات الغذائية والطبية، وتمنع كذلك حركة الأفراد دخولًا وخروجًا وسط مناشدات متكررة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية بفك الحصار وتقديم الإغاثة.
مناشدة للمنظمات لإسراع في إسقاط المواد العذائية والدوائية والإيوائية للانقاذ المدنيين في مدينة الفاشر في اقرب وقت وفي خلال ساعات .
هذه مسئولية دولية اكثر مما تكون مسئولية الحكومة ،.— Mini Minawi | مني اركو مناوي (@ArkoMinawi) April 14, 2025
لا تُعد الفاشر مجرد مدينة أو عاصمة إدارية لشمال دارفور، بل هي الركيزة العسكرية والسياسية الأخيرة التي تستند عليها القوات النظامية في الإقليم، فالمدينة، التي تبلغ مساحتها نحو 802 كيلومتر مربع، تمثل المفتاح الاستراتيجي للسيطرة على دارفور بأكمله، الإقليم الشاسع الذي يعادل حجمه مساحة فرنسا، ما يجعل معركة الفاشر حاسمة في مسار الحرب الدائرة في السودان.
يتكون إقليم دارفور من خمس ولايات، أربع منها سقطت بيد الدعم السريع هي ولايات شرق وجنوب وغرب ووسط دارفور، أما ولاية شمال دارفور فتسيطر على معظمها الميليشيا ما عدا عاصمتها الفاشر.
من حيث الموقع، تتمتع الفاشر بموقع حيوي يربط السودان بثلاث دول مجاورة هي: تشاد عبر معبر الطينة، وليبيا من خلال جبل عوينات، بالإضافة إلى مصر عبر الطريق التاريخية درب الأربعين، كما تُعد نقطة اتصال بين غرب السودان من جهة وشماله وشرقه ووسطه من جهة أخرى.
هذا الموقع جعلها مركزًا لوجستيًا هامًا وخط إمداد رئيسي، مما يزيد من أهميتها العسكرية، فالدعم السريع لن يتمكن الانفصال بإقليم دارفور دون يسيطر على الفاشر التي تعتبر أهم مدينة في الإقليم وعاصمته التاريخية.
تسعى ميليشيا الدعم السريع من خلال محاولتها السيطرة على مدينة الفاشر إلى تحقيق أهداف استراتيجية أوسع تتجاوز مجرد السيطرة الميدانية، أبرزها تأمين خطوط إمداد السلاح عبر الحدود الغربية مع ليبيا وتشاد، إلى جانب إنشاء مركز قيادة متقدم يُمكّنها من توسيع نطاق تهديدها ليشمل ولايات الشمال والشرق، وصولًا إلى حدود مصر وإثيوبيا.
وتعني السيطرة على الفاشر إحكام القبضة على إقليم دارفور بالكامل، وفتح الطريق نحو وسط السودان وشماله وشرقه، وهو ما من شأنه أن يُعيد رسم خريطة النزاع في البلاد.
وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن إعلان حكومة موازية في إقليم دارفور ومناطق سيطرة الدعم السريع في ولاية الجزيرة والخرطوم يبدو خيارًا مطروحًا بقوة، ما يُثير قلقًا متزايدًا داخل الجيش السوداني.
ومن شأن هذا التطور، إن حدث، أن يُكرّس انقسام السودان فعليًا بين حكومتين: واحدة تقودها الدعم السريع من دارفور، وأخرى معترف بها دوليًا يقودها الجيش السوداني من مدينة بورتسودان في الشرق، ما يُنذر بتعقيد الأزمة السياسية والعسكرية، ويدفع البلاد نحو سيناريو تفكك محتمل على غرار تجارب سابقة في الإقليم.
بينما لفت حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، إلى أن دوافع الدعم السريع لاحتلال الفاشر هي دوافع “إثنية” في المقام الأول، مشيرًا إلى أن تمكن المليشيا من دخول الفاشر يمكن أن يؤدي إلى استهداف إثنية الزغاوة التي ينتمي إليها مناوي وجبريل إبراهيم وزير المالية -رئيس حركة العدل والمساواة، كما حدث عند اجتياح مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور حيث أقدمت الميليشيا على ارتكاب مجازر دموية بحق إثنية المساليت، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى تصنيف تلك المجازر كـ”إبادة جماعية”.
حصار خانق
يصف الصحفي معمر إبراهيم الوضع في الفاشر بأنه “صعب للغاية”، موضحًا أن المدينة باتت ساحة مفتوحة للحرب وأن القذائف وأصوات الرصاص لا تكاد تتوقف.
وقال إبراهيم لـ”نون بوست” إن “الوضع أصبح يزداد سوءًا كل يوم عما سبقه، لافتًا إلى ندرة المواد الغذائية وانعدام النقود (الكاش) الأمر الذي يدفع الكثيرين إلى ثقافة الكسر للبيع بالخسارة من أجل الحصول على النقد في ظل القصف المتواصل الذي أدى إلى توقف الحياة بالكامل”.
وكشف عن شح مخزون الأدوية والمستلزمات الطبية التي وصلت في الفترة الأخيرة عبر طائرات الشحن التابعة للقوات المسلحة، فيما عدا ذلك توقفت كل الإمدادات التي كان يوفرها التجار بسبب تشديد الدعم السريع الحصار على المدينة.
وأشار إلى أن الدعم السريع يستهدف المستشفيات وآخرها كان المستشفى السعودي التي تعرضت لهجمات عبر الطائرات المسيّرة، ما أدى إلى خروج معظم أقسامه عن الخدمة، ما دفع الأهالي إلى الاعتماد على عيادات متنقلة تقدم خدمات محدودة لتفادي الاستهداف.
ولفت إلى أن العديد من النساء الحوامل في المناطق الريفية حول مدينة الفاشر توفين بسبب عدم مقدرتهن على الوصول إلى الخدمات الصحية.
وأكدإبراهيم، المقيم في مدينة الفاشر، إلى أن الوضع ازداد صعوبة بعد استباحة ميليشيا الدعم السريع مخيم زمزم للنازحين داخليًا، حيث أدت الهجمات منذ الجمعة الماضي إلى مقتل وإصابة مئات ونزوح آلاف من مخيمي زمزم وأبو شوك إلى داخل المدينة المحاصرة.
واختتم الصحفي معمر حديثه بالقول: “صحيح أن الفاشر صمدت صمودًا مذهلًا حيث كان أنصار الدعم السريع يتوقعون سقوطها منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لكن تأخير العمليات المتعلقة بفك الحصار أدت إلى تدهور الأوضاع الذي نشهده”.
وأعرب عن تفاؤله بتحرك سريع للجيش والقوات المساندة له بما في ذلك القوة المشترك، مؤكدًا تواجد عدد من القوة داخل المدينة لكن تنقصها الإمدادات اللوجيستية والذخائر.
ووصف بيان لتنسيقية لجان مقاومة الفاشر الوضع في المدينة بالقول “المواطنون يعيشون في حالة من الذعر المستمر، نازحو مخيم زمزم ينتشرون في شوارع المدينة وأشجارها، حيث لا يستطيعون التنبؤ بمتى وأين سيقع القصف القادم، الهروب إلى مناطق أكثر أمانًا ليس خيارًا متاحًا للجميع، فالموارد شحيحة والتنقل محفوف بالمخاطر، مع كل ضربة مدفعية، تتبدد أحلام أهل الفاشر في العيش بسلام، ويتجدد السؤال الحارق: إلى متى؟”.
فيما أفاد شهود عيان بأن آلاف النازحين فروا من مخيم زمزم إلى المدينة جراء استباحة المخيم من جانب الدعم السريع، وأوضحوا أن هؤلاء هم في الأصل نازحون إلى المخيم منذ فترة؛ بسبب الاشتباكات بين الجيش و”الدعم السريع” في مناطق عدة بولايات دارفور.
وكان ميليشيا الدعم السريع أعلنت، الجمعة الماضي، سيطرتها على مخيم زمزم للنازحين، على بُعد 12 كيلومترا جنوب غرب الفاشر.
هل بدأت عمليات الجيش؟
حسب مصدر عسكري لـ “نون بوست”، طلب عدم الكشف عن اسمه، فإن وضع القوات المدافعة عن الفاشر وهي “الفرقة 6 مشاه والقوة المشتركة لدارفور” ليس سيئًا من حيث أعداد المقاتلين والعتاد الحربي، مشيرًا إلى أنه “يمكن للمدينة الصمود وصد أي هجوم لكنها تعاني من نقص شديد في الغذاء والدواء وفضلًا عن الوقود اللازم لتشغيل آبار المياه وتشغيل الطواحين لطحن الحبوب”.
ويقول المصدر أن قيادة الجيش تدرك تمامًا أن الفاشر أكبر من مجرد عاصمة لإقليم دارفور، بل تمثل آخر قلاع السيادة الوطنية وسقوطها يعني فتح بوابة كبيرة للدعم السريع نحو شمال كردفان ومن ثمّ النيل الأبيض وولايات الشمال والشرق بأكملها.
وأضاف المصدر أن الفاشر نقطة تحول إستراتيجية وإسقاطها ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو إعلان لمشروع كيان انفصالي جديد برعاية الإمارات تحت غطاء شرعي زائف بحكومة شكلية تُنصّبها أبو ظبي وتدعي تمثيل السودان.
وأكد أن العمليات العسكرية لفك الحصار عن الفاشر بدأت بالفعل من عدة محاور، منها ما هو معلن ومنها ما لم يتم الكشف عنه، مشيرًا إلى التقدمات التي أحرزها متحرك الصياد ( تشكيل عسكري تابع للجيش السوداني) في كردفان مؤخرًا، حيث سيلعب دورًا في فك الحصار عن المدينة بالتنسيق مع القوات الموجودة في كردفان ودارفور.
كل القوة الفاشر جوة ✊#الفاشر_لن_تقاتل_وحدها pic.twitter.com/Ug9vel28S3
— مصــطفى (@Mustafa_sdm1) April 14, 2025
واعتبر المصدر أن البعض يعتب على القوات المسلحة بطء تحركاتها مقارنة بتحركات مليشيا الدعم السريع، مبينًا أن الأولى تتصرف وفق إستراتيجية مدروسة للغاية ما أدى إلى تحرير ولايات الوسط الجزيرة وسنار ومؤخرًا العاصمة الخرطوم، مشيرًا إلى أن تحرك القوات على الأرض محكوم بعدة عوامل منها التجهيزات اللوجيستية والمعلومات الاستخباراتية والتغطية الجوية.
وفي ظل استعدادات الجيش لإطلاق عملية عسكرية واسعة لفك الحصار عن الفاشر واستعادة المدن الغربية للسودان أسوةً بعملية العبور، فإنّ التحدي يبقى في كيفية قدرة المدينة على الصمود في وجه نقص الغذاء والدواء الذي لا يقل أهمية عن صد الهجمات لمليشيا الدعم السريع، إلى حين وصول متحركات فك الحصار.