“إسرائيل هيوم”: صحافة تنفخ في نار العنصرية

وُلد شيلدون غاري أديلسون عام 1933 في مدينة بوسطن، لعائلة يهودية تعود أصولها إلى كلٍّ من أوكرانيا وليتوانيا. بدأ طريقه في عالم الأعمال مبكرًا، حين اشترى، وهو في العاشرة من عمره، ترخيصًا لبيع الصحف في بوسطن، بمبلغٍ اقترضه، قبل أن تتوسع مداركه وينطلق في سلسلة أعمالٍ متتالية.
لم يُكمل أديلسون تعليمه الجامعي، لكنه حصل على مليونه الأول في بداية الثلاثينيات من عمره، ومع بداية التسعينيات، كان قد أصبح رائدًا في صناعة الترفيه، بفضل امتلاكه سلاسل من الكازينوهات والفنادق، داخل الولايات المتحدة وخارجها، إضافةً إلى سلسلة مشاريع أخرى أوصلته إلى نادي المليار بسرعة.
على عتبة المليار، جدّد أديلسون عتبة منزله، فارتبط بالمليارديرة الإسرائيلية ميريام فاربشتاين، المولودة في فلسطين الانتدابية، ومعها انغمس في دعمٍ محموم للصهيونية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وخلال سنواتٍ قليلة، ما بين 1991 و1999، كان أديلسون وزوجته قد أصبحا من أبرز الأثرياء دعمًا للصهيونية، والوكالة اليهودية، ومصالح “إسرائيل”.
وفي عام 1996، كانت بداية انغماسه في الفكر السياسي والشعبي الإسرائيلي، قبل أن يكتشف أهمية الإعلام في صياغة هذا الفكر، فيُنشئ لاحقًا صحيفةً مجانية هي “إسرائيل هيوم”، التي استطاعت خلال مدة وجيزة بعثرة عقودٍ من النمطية الإعلامية الراكدة، ما بين “هآرتس” و”معاريف” و”يديعوت أحرونوت” لصالحها.
من قلب تلك البعثرة التي لم تهدأ، تأتي هذه المادة، في إطار ملف “هآرتس وأخواتها”، لتسلّط الضوء على صحيفة “إسرائيل هيوم“، الباراشوت الأمريكي الذي هبط في قلب الإعلام الإسرائيلي، فقلبه، وأنتج معادلةً جديدة جعلت المال بوصلةً بدلًا من التغطية والكلمة، وأسند اليمين “الإسرائيلي” المتطرف بخطابٍ متجددٍ مساند، قادرٍ على تبرير كل شيء في سبيل الصهيونية أولًا، وبقاء بيبي ثانيًا.
ثُلاثية الصهيونية: ميريام، شيلدون، بيبي
قبل عامٍ واحد من النكبة، وُلدت ميريام فاربشتاين لأبوين يهوديين مهاجرين من بولندا. ومن تل أبيب إلى حيفا انتقلت العائلة في مرحلة الطفولة، بينما تنقّلت ميريام في تعليمها بين جامعاتٍ إسرائيلية مختلفة، فحصلت على درجة البكالوريوس في تخصص الأحياء الدقيقة وعلم الوراثة من الجامعة العبرية، ثم أكملت تعليمها حتى نالت درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف من جامعة تل أبيب.
خلال تلك الفترة، أدّت ميريام خدمتها العسكرية الإلزامية، قبل أن تعمل في مستشفى هداسا الحكومي، ثم تخصصت في العلاج من إدمان المخدرات، وانطلقت في رحلتها الأكاديمية بالولايات المتحدة من جامعة روكفلر، منتجةً بحوثًا في المجال نفسه، قبل أن تتزوج للمرة الثانية من شيلدون عام 1991.
بمجرد أن ارتبطا، انطلق جهد ميريام وشيلدون في خدمة الصهيونية من منظورها كإسرائيلية أمريكية، فبعد سلسلة زيارات لهما لـ”إسرائيل”، افتتحا أول فرع لعيادة أديلسون، وهي عيادة متخصصة في علاج تعاطي المخدرات، في بداية عام 1993.
وبالتزامن مع دخول شيلدون عالم المليارديرات بعد بنائه سلسلة كازينوهات (Las Vegas Sands)، وضع سلسلة فنادقه وخدماتها وقاعات مؤتمراتها تحت تصرّف الحركة الصهيونية، والوكالة اليهودية، والحكومة الإسرائيلية.
فأصبحت المؤتمرات السنوية لوزارة الشتات والمهاجرين، ووزارة الخارجية، والمنظمات الصهيونية تُقام في فنادقه، ثم أطلق، بشكلٍ متتابع، سلسلة من المؤسسات والمنظمات التي تحمل جميعها الطابع الخيري، والقدرة على التأثير في السياسيين والجماهير لخدمة “إسرائيل”.
بدايةً من مؤسسة شيلدون أديلسون (1993)، الهادفة إلى تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” وجمع التبرعات للحركة الصهيونية، مرورًا بمؤسسة “تيد أريئيل” الناشطة في مجالات الثقافة والأمن والتعليم، والتي تروّج لـ”إسرائيل” على مستوى عالمي، وصولًا إلى برنامج “Birthright Israel”، الذي استقطب المؤثرين والناشطين الشباب، وصنّاع المحتوى، وكتّاب الأفلام والمسلسلات، والممثلين والمخرجين، لزيارة “إسرائيل” والترويج لها.
كما طالت أنشطة عائلة أديلسون اللوبي الصهيوني، وعلى رأسه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، التي دخلت عصرًا ذهبيًا بفضل التبرعات السخية من العائلة، وبفضل الاستخدام السياسي لأموالها في الضغط على الهرم التشريعي الأمريكي لصالح إقرار تشريعات تدعم “إسرائيل” وتهاجم حركة المقاطعة (BDS).
حتى منتصف التسعينيات، وتحديدًا في عام 1996، وجدت العائلة ضالتها في بنيامين نتنياهو، النجم اليميني الصاعد، الذي قلب دفة “عملية السلام” لصالح سيطرة إسرائيلية مطلقة وإخضاعٍ كامل للفلسطينيين، وهو ما دفع عائلة أديلسون إلى دعمه ماديًا في الانتخابات التي تُوّج فيها رئيسًا للوزراء لأول مرة.
بالنسبة للكثير من الإسرائيليين، كان صعود نتنياهو إلى رأس السلطة حدثًا متقدّمًا في الوعي السياسي الإسرائيلي، فهو أصغر رئيس حكومة في تاريخ الكيان، وأول رئيس وزراء مولود داخل فلسطين، وأول معول في هدم حزب العمل (ماباي سابقًا)، وأول من انتُخب للمنصب عبر الاقتراع الشعبي، كما أنه يمتلك علاقات متجذّرة مع الولايات المتحدة، ويمتاز بلكنة أمريكية ممتازة، أهلته سابقًا لأن يكون سفيرًا شديد التعصّب لـ”دولته” في الأمم المتحدة.
خلال فترة نتنياهو الأولى، توثقت علاقته بعائلة أديلسون من خلال لقاءات عائلية حميمة، وحظي – تبعًا لذلك – بدعمٍ كبير من الإدارة الأمريكية، حتى في ما يتعلق بعقباته المفتعلة في وجه عملية السلام، وفي وجه الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة في المنطقة. وتزامن ذلك مع احتفاءٍ متزايد به من قبل اللوبي الصهيوني، وتصديره كمتحدث وزائر دائم في مؤتمراته.
في الفترة الانتخابية الثانية عام 1999، أُضيف إلى الدعم المادي والسياسي من عائلة أديلسون دعمٌ معنوي كامل، لا سيما مع سلسلة الفضائح، وقضايا الخيانة الزوجية، وتحقيقات الفساد التي شابت رئاسة نتنياهو، وأدّت إلى هزيمته على يد إيهود باراك في انتخابات ذلك العام، وابتعاده عن المسرح السياسي لفترة وجيزة.
بالنسبة لشيلدون وزوجته، ما جرى حينها كان مؤامرة جمعت بين الإعلام والسياسة، قادتها صحيفة “يديعوت أحرونوت”، وأقصت صهيونيًا مخلصًا خارج الحلبة. وبينما رفعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية من حدة الخطاب اليميني المحافظ، أمسك أرئيل شارون بسدّة الحكم، وقلّد نتنياهو منصب وزير المالية، الذي استقال لاحقًا رفضًا لخطة “فك الارتباط” والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
النهج الأكثر تشددًا لنتنياهو أعاده إلى أضواء السياسة الفعلية مجددًا، وجعله أكثر تواؤمًا مع دعم شيلدون للحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان. ورغم فشله في انتخابات 2006، استطاع خلال فترة وجيزة توحيد وتجديد الليكود، الذي كان قد تشرذم بفعل انقسام أرئيل شارون عنه.
ومن وجهة نظر شيلدون في ذلك الحين، كانت العقبة الوحيدة أمام نتنياهو هي الإعلام “المغرق في يساريّته”، ما دفعه في عام 2007، إلى إطلاق نهجٍ جديد في دعمه، يتجاوز الدعم المالي والمعنوي والسياسي، إلى دعمٍ إعلامي طاغٍ، كفيل بصناعة قاعدة جماهيرية مؤيدة لخطابه. هكذا وُلدت صحيفة “إسرائيل هيوم”، بمعايير كانت جديدة وغريبة على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه.
أول هذه المعايير كان المجانية الكاملة للصحيفة، ما أمّن لها انتشارًا واسعًا غير مسبوق خلال الأسابيع الأولى، وجعلها قبلة للمعلنين والمروجين، فتراجعت مداخيل الصحف المنافسة، وتقلصت مساحات انتشارها وتأثيرها.
أما ثاني المعايير، فكان مظهرها الإعلامي واتجاهها التحريري؛ ففي الأولى، اقتفت “إسرائيل هيوم” أثر صحافة التابلويد الغربية، فتتبعت الشائعات والأخبار الصفراء، والمقالات الخفيفة. أما في اتجاهها التحريري، فقد تبنّت نهجًا يمينيًا متطرفًا، لا يقلّ في تطرفه عن اتجاه “المؤسسين الأوائل”، وهو ما يتناسب تمامًا مع نمط نتنياهو، الذي يرى في نفسه “بن غوريون آخر”.
وفيما يتعلق بالمعيار الثالث، فقد أسهم في تحويل الصحيفة إلى رافدٍ رئيس للإعلام الدولي عمّا يُنشر في الإعلام الإسرائيلي، لا سيما مع استقطابها المبكر لأقلام سياسية وعسكرية وأمنية ودبلوماسية مؤثرة، بدءًا من العام الأول، حين انتقل يوعاز بيسموث من “يديعوت أحرونوت” إليها، وإيتان كابر من صحيفة “جلوبس”، ودان مارغاليت محرر “معاريف”، كما كتب فيها المحاضر في القانون، حاييم شاين، مقالات رأي جعلت منه بوصلةً للمجتمع الأكاديمي “الإسرائيلي”.
صناعة مُلوك التطرف
لم يكن تأثير الصحيفة الحقيقي محصورًا في تصدير الخطاب اليميني وتجديده في الشارع “الإسرائيلي”، بل تعدّى ذلك إلى تتويج نتنياهو مرّاتٍ عدّة على سدّة الحكم، وتأسيس بطانةٍ إعلامية مناسبة لسلطته، حتى باتت تُعرف إعلاميًا باسم “Bibiton” (أي “صحيفة بيبي” – نسبةً إلى لقب نتنياهو)، وذلك بسبب تغطيتها الإيجابية المستمرة له.
خلال الانتخابات المتتالية (2009، 2013، 2015، 2019، 2020، 2021)، بدت الصحيفة أشبه بمنشورات دعائية له ولحزبه؛ إذ كانت صوره تتصدّر صفحتها الأولى يوميًا، ويُسند إليه عبر عناوينها صفات القوة والفطنة والحسم، من قبيل: “نتنياهو يحذّر من الخطر الإيراني”، “نتنياهو يتفوّق في استطلاعات الرأي”، “بيبي ملك الأمن”، وغيرها.
كما أسست الصحيفة لنفسها نمطًا من استطلاعات الرأي، فرضت فيه تفوّقًا دائمًا لنتنياهو على خصومه، بغضّ النظر عن طبيعة الاستطلاع أو جهته، فتجاهلت الاستطلاعات التي لا تُظهر تقدّمه، وانتقت من أخرى عينات وزوايا مختلفة، وأبرزت أصواتًا داعمة له، ومشككة في جدوى معارضته.
حتى على مستوى خصومه السياسيين، سخّرت الصحيفة أقسام التصوير والدعاية والإخراج والتصميم لصالح الإضاءة على نتنياهو، والتشويه من صورة خصومه، فقد وصفت يائير لابيد بأنه نخبوي وفارغ، لا يملك أجندة، ولا يمكنه تمثيل مختلف التيارات.
وركّزت على بيني غانتس باعتباره ضعيفًا وغير كفوء، وعلى تسيبي ليفني بأنها تفتقر إلى الدعم السياسي، وعلى نفتالي بينيت باعتباره غير محنّك ولا مفوّه، بل إنها استهدفت أعضاءً من حزب نتنياهو ووزراء يمينيين آخرين، إذا اقتضى الأمر تعزيز صورته وحده.
شمل ذلك تجاهلها لقضايا الفساد المرتبطة به (الملفّات 1000، 2000، 4000)، أو تقديمها تغطية دفاعية تُبرز الرواية الحكومية أو رواية فريقه القانوني، مع الحرص على تظهيره مرارًا باعتباره “رجل الدولة العالمي” أو “رجل المهمات المستحيلة”، لا سيما في ما يتعلق بقدرته على “فرض” التطبيع على دول عربية وإسلامية مختلفة.
صناعة الملوك لم تقتصر على نتنياهو وحده؛ فقد كانت الصحيفة محطة أخرى لتصدير صحفيين إلى ميادين سياسية ودبلوماسية وأكاديمية متعددة، من بينهم بوعز بيسموت، الذي انتقل من رئاسة تحرير الصحيفة إلى منصب السفير “الإسرائيلي” في البحرين، ودرور إيدار، السفير “الإسرائيلي” السابق في إيطاليا، وكارولين غليك، التي أصبحت زميلة بارزة في مركز السياسات الأمنية بواشنطن، ومديرة مشروع الأمن “الإسرائيلي” في مركز ديفيد هورويتز للحرية.
يُضاف إلى القائمة كل من يوسف أحيمئير، الذي ترأس معهد جابوتنسكي، وانضم إلى عضوية مجلس إدارة مركز أبحاث ياد فاشيم ومجلس أمناء جامعة أريئيل، وراشيل أفراهام، الرئيسة التنفيذية لمركز دونا غراسيا، والمحررة في مركز السلام الاقتصادي.
هذا التصدير المتواصل، لشخصيات جميعها من الليكود ومعظمها من اليمين، جعل من “إسرائيل هيوم” حالة إعلامية خاصة في الوسط الصحفي الإسرائيلي، أجبرت الصحف التقليدية على تغيير أنماطها الإعلامية، وإعادة تقييم جدواها الاقتصادية، وتسبّب في دفعها جميعًا إلى الوراء، لتتصدر “إسرائيل هيوم” المشهد خلال عامين فقط من نشأتها، وتحصد 31% من قرّاء الكيان، فتغدو ذات أثر فعّال في تشكيل الرأي العام، وتعزيز توجهات اليمين بشكلٍ مضاعف.
من ذلك أيضًا، أن الصحيفة أنهت عقودًا من التعددية الإعلامية، ومن ثم السياسية داخل الكيان، حيث أصبح نمطها التحريري الأساسي هو الخط الأحمر الذي يصعب على الأحزاب والشخصيات الإسرائيلية تجاهله، والذي تؤدي مخالفته إلى حملة تشهيرٍ مُمنهجة تقودها الصحيفة المجانية، بقوة كافية للإطاحة والإفناء.
يبرز ذلك خلال الفترة ما بين 2009 و2014، حين اشترت عائلة أديلسون وسيلتين إعلاميتين إسرائيليتين، هما “ماكور ريشون” و”إن آر جي إم”، كما حاولت الاستحواذ على “معاريف”، بعد حصولها على موافقة قضائية لشراء موقع “NRG”، البوابة الإخبارية التابعة لمجموعة “معاريف”، وأطلقت عليه اسم “معاريف”، قبل أن يصدر القضاء قرارًا بحصرية الاسم بالصحيفة، وليس بالموقع.
وقد دفع ذلك بمالكي وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى إلى اعتبارها كاسرةً للتوازن الإعلامي، ومنحازة بالكامل للتيار اليميني (أو لخطاب نتنياهو تحديدًا)، ومضلّلة للرأي العام، خصوصًا من خلال نموذج التوزيع المجاني، الذي استثمرت فيه عائلة أديلسون ما لا يقل عن 50 مليون دولار خلال الأعوام السبعة الأولى، حصدت ثمنه على شكل سيطرة مطلقة على الصحافة الإسرائيلية.
ردود الفعل الإعلامية الإسرائيلية لم تقتصر على الرفض، بل تجاوزته إلى استخدام أساليب مختلفة لتقويض سلطة “إسرائيل هيوم”، بدءًا من دفع نوّاب الكنيست (من المعارضة اليمينية والوسط) عام 2014 لطرح قانون حمل عنوان “قانون إسرائيل هيوم”، استهدف منع توزيع الصحف اليومية مجانًا لفترة تتجاوز ستة أشهر، وهو القانون الذي لم يلبث أن أدى إلى حلّ الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة، جدّدت العودة السياسية لنتنياهو.
تلت ذلك محاولة أخرى في العام نفسه، ولكن بأسلوب ناعم، قادها أرنون موزيس، مالك صحيفة “يديعوت أحرونوت”، عبر محادثة سرية أجراها مع نتنياهو، عرض فيها تقويض انتشار “إسرائيل هيوم” مقابل تغطية أقل انتقادًا وأكثر دعمًا من “يديعوت”، ورغم أن هذه المحادثات لم تُثمر عن اتفاق، إلا أنها سُرّبت لاحقًا للقضاء، واعتُبرت دليلًا على فساد نتنياهو واستخدامه “إسرائيل هيوم” كورقة ضغط ومساومة لصالحه.
أما آخر المحاولات، فتمثلت في إثارة الجدل حول تمويل الصحيفة من قِبل شيلدون أديلسون، الأمريكي الجنسية، والذي لا يعيش في “إسرائيل”، ويموّل الصحيفة الداعمة لنتنياهو بشكلٍ كامل، ما يجعلها مترفعة عن الحاجة للإعلانات، وينسف مبادئ الإعلام الحر والتنافسية في السوق “الإسرائيلي”، غير أن هذه المحاولة لم تُفلح أيضًا، في ظل وجود زوجته – التي أصبحت أرملته لاحقًا – وتحمل الجنسية الإسرائيلية.
التطبيع الإعلامي لا يمنع الغطرسة الإسرائيلية
بخطابٍ يمينيٍّ متطرف، لم تُخففه “إسرائيل هيوم” ولو مرة واحدة، بدا دومًا أن الجمهور الإسرائيلي متعطّش للحروب، ويملك قابلية عالية لتبرير الهجمات على الفلسطينيين ودعمها، فبعد عامٍ واحد فقط من صدور الصحيفة، انطلقت سلسلة الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة: من حرب 2008، مرورًا بـ2014، ثم 2021، وصولًا إلى حرب الإبادة الأخيرة. وفي جميع هذه الحروب، بدت السياسة التحريرية للصحيفة متسقة تمامًا مع نهج نتنياهو في غزة، وسموتريتش في الضفة، والصهيونية الجديدة في الشرق الأوسط بأكمله.
هذه السياسة لم تكن نابعة بالضرورة من خبرة صحفية أو تحريرية سابقة، بل من انسجام تام مع نهج عائلة أديلسون، ومنطق نتنياهو التوسعي، فرئيس تحريرها الأول، آموس ريغيف، لم يكن يملك خبرة تحريرية تُذكر سوى قربه من شيلدون أديلسون، وقد انتهج خطًا يمينيًا واضحًا يرفض التنازلات السياسية، ويُعلي من شأن نتنياهو باعتباره النموذج المثالي للقائد الذي يحقّق الأمن لـ”الإسرائيليين”.
خلال ولايته التي امتدّت من 2007 حتى 2017، تنوّع خطابه بين مهاجمة العرب، والتودد للمطبعين، لكنه حافظ على وتيرة ثابتة في دعمه لتوسيع الاستيطان، وتشديد الحصار على قطاع غزة، وربط أي تفاهمات مع السلطة الفلسطينية بالضعف والتردد وقلّة الحيلة، وهي الوتيرة ذاتها التي رافقت مسيرته العسكرية في كلٍّ من حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر، وحرب لبنان الأولى.
ورغم إسهاماته الصحفية السابقة في كلٍّ من “معاريف” و”يديعوت أحرونوت”، إلا أن ريغيف انتعش فعليًا في ظل “إسرائيل هيوم”، حيث لا ضوابط على خطابه العنصري تجاه الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، ولا على مهاجمته لخصوم نتنياهو من اليسار والوسط، ويُنسب إليه تشكيل نمطها التحريري، واعتماد النموذج المجاني، واللجوء إلى أسلوب الصحافة الصفراء لتحقيق انتشار أكبر لها.
بالنسبة للكثيرين، كان ريغيف المثال الأبرز على اختلاف “إسرائيل هيوم” عن محيطها الإعلامي؛ فعلى العكس من الصحف التقليدية الإسرائيلية الأخرى، التي كان رصيدها بين جمهورها مرتبطًا برصانة رؤساء تحريرها، وخبرتهم العميقة والدولية في مجال الصحافة، ومقالاتهم اليومية التي تستقرئ الميدان، وارتباطهم بفترة “تأسيس الدولة” وإسهامهم الفعلي فيها من خلال جهدهم العسكري، اعتمد ريغيف على خزنة بلا مفتاح، وعلى خطوط من الود جمعته بشيلدون ونتنياهو، وترسانة من الحقد على الإعلام الإسرائيلي التقليدي.
بعد ريغيف، حلّ بوعز بيسموت في موقع رئاسة التحرير، قادمًا من خلفية دبلوماسية، حيث شغل منصب السفير الإسرائيلي في كلٍّ من موريشيوس وموريتانيا، وكان مدعومًا بخبرة في الإعلام الدولي حين عمل مراسلًا لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في فرنسا، كما كان على دراية بالمزاج العربي، بعدما تسلّل مرّات عدة إلى دولٍ عربية لتغطية أحداث “الربيع العربي”، مستعينًا بجواز سفره الفرنسي.
بهذا الخليط من الخلفيات، الذي تزامن مع تصاعد صخب التطبيع العربي واتساع رقعة “السلام الإبراهيمي” منذ 2019، استطاع بيسموت توسيع تأثير الصحيفة على العالم العربي بطريقتين: الأولى، استقطاب الأقلام العربية المُطبّعة، مستفيدًا من أصوله اليهودية التونسية. والثانية، استقطاب أقلام من فلسطينيي الداخل، بهدف ترسيخ حالة من الرضوخ للهيمنة الإسرائيلية.
في الطريقة الأولى، برز اسم أمجد طه، المحلل السياسي الحامل لجنسيات بريطانية وبحرينية وإماراتية، والذي استقطبته الصحيفة بعد التطبيع مع الإمارات، وقاد أول وفد شبابي في زيارة لـ”إسرائيل”، ومنذ ذلك الحين، يكتب مقالات رأي في الصحيفة حول القضايا الإقليمية والدولية، إلى جانب ترؤسه “المركز البريطاني لدراسات وأبحاث الشرق الأوسط”.
هناك أيضًا قلم الباحثة السعودية-الأمريكية نجاة السعيد، التي انضمت إلى الصحيفة في يناير/كانون الثاني 2021، وتشغل حاليًا منصب محاضرة في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا بجامعة إيموري في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى عملها كأستاذة مساعدة في الجامعة الأمريكية في الإمارات، وتنشر مقالاتها، إلى جانب “إسرائيل هيوم”، في كلٍّ من صحيفة الاتحاد الإماراتية ومنصة الحرة الأمريكية.
وقد تُوّج هذا المسار بالشراكة الإعلامية المباشرة بين “إسرائيل هيوم” وصحيفة الاتحاد نفسها، في سبتمبر/أيلول 2022، من خلال إنشاء منصة تفاعلية ثنائية اللغة (بالعربية والعبرية)، تُروّج عبرها للشراكة في القضايا السياسية والاقتصادية والبيئية والتكنولوجية، وتُستخدم لدعم الأصوات المحفّزة للعلاقات الثقافية بين الجانبين.
هذا الاحتضان للقلم العربي المُطبّع جعل الصحيفة صريحة في الترويج لمختلف أشكال التطبيع، وللقيادات العربية التي تقف خلفه، فلا تُمانع أقلامها الإسرائيلية من الإشارة إلى محمد بن زايد بوصفه “رجل السلام والشجاعة”، وإلى قيادة الإمارات والبحرين باعتبارها متحضّرة ومنفتحة، متجاهلةً تمامًا أي تلميح للسجل الحقوقي أو ممارسات القمع الداخلي في تلك الدول، وينسحب هذا التوجّه على السعودية، التي تُركّز الصحيفة عليها بنمطٍ إيجابي، وإنْ متحفّظ، في ظل غياب التطبيع الرسمي حتى الآن.
في الواقع، لا يقتصر الفعل الإعلامي “الإقليمي” للصحيفة على الدول المُطبّعة أو المتدحرجة نحو التطبيع، بل تلعب مقالاتها دورًا محوريًا في تشكيل فهم الجمهور الإسرائيلي تجاه العالم العربي عمومًا، فهناك دول تُقدَّم باعتبارها “معتدلة” وتتصدى لإيران، وأخرى تُصنّف ضمن خانة “النفاق العربي”، مثل قطر وعُمان، لدعمهما خطابًا معاديًا لـ”إسرائيل”، في حين يُنظر إلى دول مثل مصر والأردن كشركاء أمنيين فحسب، لذا تُوجَّه إليهما انتقادات بين الحين والآخر، على خلفية ما تراه الصحيفة “تراخيًا” في ضبط الحدود، أو ازدواجية في الخطاب بين المستويين الرسمي والشعبي.
أما في الطريقة الثانية، فهناك قلم الصحفي جلال بنا، العربي الفلسطيني الذي يُتيح للجمهور الإسرائيلي الاطلاع على المجتمع العربي داخل “إسرائيل”، ويمكن بسهولة فهم خط بنا التحريري من خلال الاطلاع على خبرته كناطق رسمي باسم وزارة الداخلية الإسرائيلية، ومستشار إعلامي لعدد من الوزارات والهيئات، ويشغل الآن منصب المدير التنفيذي لشركة ” أيوا” (AYWA)، وهي شركة استشارات إعلامية تقدم خدماتها لمؤسسات حكومية وشركات خاصة وشخصيات عامة في “إسرائيل” والعالم العربي.
وهو ما يُفسّر تأييده الصريح للتطبيع، وانتقاداته الحادة للقيادات الفلسطينية والعربية في الداخل الإسرائيلي على خلفية معارضتها لاتفاقات “السلام” وتوسّع التطبيع، إذ يعتبر بنا أن هذه المعارضة “تُغذّي الكراهية، وتُبعد فرص الدعم عن الفلسطينيين، وتتنافى مع اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي”.
يُشاطره هذا التوجّه يوسف حداد، الناشط العربي من الناصرة، الذي لا يُمانع في تلميع صورة “إسرائيل” في المحافل الدولية، ودرء اتهامات التمييز العنصري والإبادة بحقّها، بينما يُركّز جهوده على قضايا الجريمة والمخدرات داخل المجتمع العربي، ويتقاطع هذا مع خلفيته العسكرية، إذ تطوّع في “الجيش الإسرائيلي”، وخدم في لواء جولاني خلال حرب لبنان الثانية عام 2006.
اللافت هنا، أن قِصر دورة بوعز بيسموت في رئاسة التحرير ارتبط بتغييرات جذرية، جعلت من العالم العربي والداخل الفلسطيني موضوعًا حيويًا للكتابة والنشر في الصحيفة، دون أن يعني ذلك في أي وقت تراجعًا في إصرار الصحيفة على ترسيخ السطوة الإسرائيلية على العالم العربي، والترويج لحاجة “إسرائيل” إلى توسّعٍ حقيقي يوازي امتداداتها الجيوستراتيجية.
ففي خضم تولّيه منصب رئيس لجنة الأمن القومي في الكنيست، لم يتوانَ بيسموت عن نشر مقطع فيديو يُهين فيه الحلفاء والأعداء معًا، قائلًا:
“نوقظ ملك الأردن من سريره في الليل لتنفيذ أوامرنا. أما سوريا، فيجب أن تكون تابعة لنا تمامًا مثل الأردن، ومنزوعة القدرات العسكرية. لن نسمح بظهور قوة فيها، ودمشق يجب أن تكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. سنضمن دخولها تحت سيطرتنا، فسوريا هي جسرنا للوصول إلى الفرات، وسنصل إلى العراق وكردستان في المستقبل”.
بعد بيسموت، تم تعيين عومر لاخمانوفيتش، الذي كان يشغل منصب محرر الملحق السياسي الأسبوعي للصحيفة، رئيسًا مؤقتًا للتحرير، قبل تثبيته في المنصب رسميًا في فبراير/شباط 2022، وفي أبريل/نيسان 2024، تم تعيين ماتان هافيليو رئيسًا لتحرير النسخة الرقمية من “إسرائيل هيوم”، وكان قد شغل سابقًا منصب رئيس تحرير قسم الأعمال في “N12″، وعمل في مجالات العلاقات العامة والإنتاج ضمن وسائل إعلام إسرائيلية متعددة.
وعلى خلاف من سبقهم، يتمتّع كلٌّ من لاخمانوفيتش وهافيليو بخبرة إعلامية أوسع، لكن دون انحراف عن الخطّ الأساسي للصحيفة، الذي يُزاوج بين الترويج لنتنياهو، وبين صناعة هالة أمنية وتطبيعية تُحيط به.
بالمحصلة، فإن المعيار الأساسي لرؤساء التحرير، كما للأقلام الصادرة في الصحيفة، ظلّ دومًا الانغماس في اليمين المتطرف؛ حُبًّا بنتنياهو، أو ولاءً لليكود، أو قربًا من المؤسسة الأمنية والعسكرية. وخلال جميع المراحل، لم تعرف “إسرائيل هيوم” رئيس تحرير يساريًا أو وسطيًا، إذ حظي المنصب دائمًا بدعم مباشر من شيلدون أديلسون – ثم ورثته – ما جعل خطاب الصحيفة متسقًا مع منظومة كاملة: تبدأ من نتنياهو، وتمرّ عبر أديلسون، وتنتهي عند اللوبي الصهيوني.
الآخر بعيون الصهيونية الإعلامية
ربما من المفروغ منه محاولة رؤية “الآخر” بعيون “إسرائيل هيوم”، إذ إن الآخر، في خطابها، إما أن يكون مُطواعًا (تطبيعًا)، أو شرطيًا (شريكًا أمنيًا)، أو وهميًا – كما كان يصف شيلدون أديلسون الشعب الفلسطيني – وفي الحالة الأخيرة، لا مانع من إبادته. تُعبّر عن ذلك تغطيتها التي ترى في كل فلسطيني إرهابيًا، من حامل القضية، إلى حامل الكلمة، أو البندقية.
حتى على المستوى الداخلي، ورغم وجود أقلام عربية شائبة بين صفحاتها، يظهر العربي – في نظرة الصحيفة – كخطر وجودي على الدولة اليهودية، وهنا أيضًا تنسجم رؤيتها مع عقيدة عائلة أديلسون، التي لا ترى في الأفق الآني أو المنظور داخل حدود فلسطين أي وجود مشروع سوى لليهود.
ومع تزاوج رؤية أديلسون وخطاب “إسرائيل هيوم”، يصبح كل فعل سياسي داعم لليمين الصهيوني مبرّرًا: من تبرعاته السخية للحزب الجمهوري الأمريكي، إلى دعمه الصريح لدونالد ترامب، مرورًا بدوره البارز في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، ووقف الدعم عن الأونروا، وسحب العديد من أشكال المساعدات عن السلطة الفلسطينية.
في هذا السياق، لم يشذّ خطاب الحرب الحالية عن القاعدة؛ بل حافظ على النص ذاته، فهناك تبرير دائم للقصف، وانتقاص ممنهج من أعداد الشهداء، وإخفاء متعمّد لحقائق الإبادة، فيما يختفي لفظ “المجزرة” كليًا من النص والصورة. وعلى الشاشات وصفحات الصحيفة، يظهر دائمًا مَن يُستضاف عربيًا ودوليًا وإسرائيليًا، للمطالبة بـ”الحسم الكامل”، و”تفريغ الأرض” ممن يصفونهم بـ”الإرهابيين”. وحين تحضر أناقة الخطاب إلى ألسنتهم، لا يترددون في استخدام لفظ “التطهير” وكأن الإبادة حملة “تعزيل” منزلي.
بمثل هذا، تحوّلت “إسرائيل هيوم” خلال مدة قصيرة إلى أداة فعّالة في تشكيل الوعي السياسي والمجتمعي “الإسرائيلي” تجاه الاستيطان والضم والتطبيع. وفي الخارج، أدّت دورًا بارزًا في الترويج لـ”إسرائيل” كدولة سلام، منفتحة على الآخر العربي، وعلى العالم الغربي. أمّا في الحرب، فقد نزعت الإنسانية عن الفلسطينيين، وأسبغت على المجازر طابعًا أمنيًا تلقائيًا ومبررًا.
وهو ما أهّلها لأن تكون محور اهتمام الإعلام العربي، الذي تناقل، غير مرة، أخبارًا اعتُبرت “سبقًا أمنيًا” أو “سياسيًا” صادرًا عنها، دون مراعاة خلفيتها الأيديولوجية، أو تقديم أي تحليل نقدي لاتجاه تغطية الخبر. وهو ما وصفه محمد عثمان حسن، أستاذ الصحافة في معهد الإسكندرية العالي، بقوله: “الصحافة العربية تهتم بما يُقال في ‘إسرائيل هيوم’، ولكنها لا تهتم بـمَن يقول، ولماذا يقول ما يقوله”، مؤكّدًا أنها لا تُمارس تفكيك الخطاب، ولا فحص العلاقة مع البروباغندا اليمينية الإسرائيلية.
إسرائيليًا، فيجد اليسار والمعارضة في الصحيفة أداة لتجربة السياسات والاتجاهات والقرارات قبل تنفيذها، وصناعة رأي عام يتوافق معها. يشمل ذلك مواقف مختلفة، مثل تغطيتها لنوايا ترشح نتنياهو أو انسحابه في مرات متعددة، أو توقعاتها بشأن المصادقة على الموازنة أو قرارات الحرب، وحتى بالنسبة للجماهير التي لا تُفضّل اصفرار “إسرائيل هيوم”، فإن ما تقوم به الصحيفة هو تدجينٌ للجمهور، وقياسٌ منتظم لتردداته بغرض التحكّم بها.
أما عربيًا، فلا يزال الإعلام والساسة والمحللون يرون في كل “أصفر” ذهبًا، وفي كل خبر “سبقًا”، حتى لو خرج الخبر من ملهى “إسرائيل هيوم”، أو صاغه رائد أو نقيب في جيش الاحتلال بسلاحٍ صحفي، أو مطبّعٌ يرتدي عباءة “الاعتدال”.