لم يصمد إعلان التهدئة وإعادة العلاقات بين الجزائر وفرنسا الذي تبناه رئيسا البلدين قبل أيام سوى أسبوع واحد، بعد أن أخذ التوتر القائم بين الجانبين منحى جديدًا من التصعيد وصل حتى تبادل طرد موظفين دبلوماسيين، وإلغاء لقاءات اقتصادية، في سابقة لم تعرفها العلاقات الثنائية من قبل منذ استقلال الجزائر عن باريس في يوليو/تموز 1962، ما يشير إلى أن قطيعة دبلوماسية محتملة لا يمكن لأحد أن يتوقع نتائجها وتبعاتها.
وعادت الأزمة بين الجزائر وفرنسا لتشتد هذا الأسبوع بسبب توقيف الشرطة الفرنسية لموظف قنصلي جزائري، لتسقط كل محاولات التهدئة التي قام بها رئيسا البلدين في الماء، وتتجدد الأزمة التي تقول الجزائر إن السبب الرئيسي لها اللوبي الموجود في النظام الفرنسي المعادي للجزائر ممثلًا في اليمين المتطرف الذي ما يزال يحن لحلم “الجزائر الفرنسية”.
طرد متبادل
أعلنت الجزائر مساء الاثنين أنها طالبت 12 موظفًا عاملين بالسفارة الفرنسية وممثلياتها القنصلية في الجزائر بمغادرة البلاد في ظرف 48 ساعة باعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم.
وكانت الجزائر قد أبلغت الفرنسيين الـ12 مساء السبت بقرار خارجيتها، حتى وإن كان الإعلان عنه رسميًا تأجل إلى يوم الاثنين.
وجاء القرار الجزائري عقب اعتقال مصالح الأمن الفرنسي يوم الجمعة الماضي لأحد أعوانها القنصليين، ووضعه من قبل القضاء في باريس رهن الحبس المؤقت، بعد توجيه اتهام له في إطار فتح تحقيق قضائي على خلفية قضية “الاختطاف” التي طالت “المؤثر” أمير بوخرص المعروف باسم “أمير دي زاد” خلال عام 2024.
وتصنف الجزائر أمير بوخرص ضمن قائمة الإرهابيين المطلوبين، وأصدرت في حقه عدة إنابات دولية، فيما يصنف نفسه ضمن المعارضين للسلطة الجزائرية، لذلك يقيم في فرنسا بطلب اللجوء السياسي.
وقالت الخارجية الجزائرية إنها “ترفض رفضًا قاطعًا، شكلًا ومضمونًا، الأسباب التي قدمتها النيابة العامة الفرنسية لمكافحة الإرهاب قصد تبرير قرارها بوضع الموظف القنصلي رهن الحبس الاحتياطي”.
وأضافت أنه “من حيث الشكل، تذكّر الجزائر أن الموظف القنصلي تم توقيفه في الطريق العام ووضعه تحت الحجز للنظر دون إشعار عبر القنوات الدبلوماسية، وذلك في انتهاك صارخ للحصانات والامتيازات المرتبطة بوظائفه في القنصلية الجزائرية بكريتاي، وكذلك للممارسات المتعارف عليها في هذا الإطار بين الجزائر وفرنسا”.
وتقصد الخارجية الجزائرية أن فرنسا خرقت الاتفاقيات الممنوحة للدبلوماسيين والتي تشمل الحصانة الجنائية للمبعوث الدبلوماسي، والتي تتمثل في الحماية من أي نوع من المحاكمات الجنائية في الدولة المضيفة، حتى في حال ارتكابه جريمة جنائية، فإن القانون الدولي يحميه من المقاضاة، وهذا في حال ما افترضنا أن الاتهام الموجه للدبلوماسي الجزائري يحمل دلائل مقنعة.
لكن الجزائر تقول إنه “من حيث المضمون، نؤكد هشاشة وضعف الحجج التي قدمتها الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية خلال التحقيقات، حيث تستند هذه الحملة القضائية المرفوضة على مجرد كون هاتف الموظف القنصلي المتهم قد يكون تم رصده بالقرب من عنوان منزل المدعو “أمير بوخرص””.
وطالبت الجزائر خلال استقبال الأمين العام لوزارة الخارجية لوناس مقرمان، يوم السبت الماضي السفير الفرنسي بالجزائر ستيفان روماتيه، بالإفراج الفوري عن الموظف القنصلي المحتجز احتياطيًا، لكن عدم الاستجابة الفرنسية جعلها تقرر طرد 12 دبلوماسيًا فرنسيًا من باب المعاملة بالمثل.
ورفضت فرنسا الموقف الجزائري، معتبرة احتجاز الموظف القنصلي شأنًا قضائيًا، رغم مخالفة الإجراء للاتفاقيات الدولية والثنائية المتعلقة بحماية الدبلوماسيين وحصانتهم، ولجأت هي الأخرى لما وصفته “مبدأ المعاملة بالمثل”.
وجاء في بيان للإليزيه: “ستطرد فرنسا بشكل متماثل 12 موظفًا يعملون في الشبكة القنصلية والدبلوماسية الجزائرية في فرنسا، مع استدعاء سفير فرنسا في العاصمة الجزائرية ستيفان روماتيه للتشاور”.
وكانت الجزائر قد سحبت سفيرها في باريس نهاية يوليو/تموز الماضي بسبب ما وصفته بأنه “إقدام الحكومة الفرنسية على إعلان تأييدها القطعي والصريح للواقع الاستعماري المفروض فرضًا في إقليم الصحراء الغربية“.
ولا تمثل قضية طرد الدبلوماسيين حتى وإن كانت سابقة في علاقات البلدين إلا حلقة في توتر مستمر ازداد بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019 الذي دعا إلى علاقات ندية مع فرنسا التي كانت من الداعمين للنظام السابق في الجزائر، حيث قلصت بعده الجزائر الاستثمارات الفرنسية ببلادها وتخلت عن شراء القمح الروسي، وأجل الرئيس تبون زيارته التي كانت مقررة إلى فرنسا في مايو/أيار 2023، والتي كادت أن تتم أيضًا في أكتوبر/تشرين الأول 2024، لكن تأجلت جرّاء هذا التوتر الذي يخص عدة قضايا منها ملف الذاكرة والتأشيرات والمضايقات المتكررة التي تطال الجالية الجزائرية في فرنسا التي يزيد عددها عن 7 ملايين.
انهيار
قضى هذا التصعيد الجديد على إعلان الثقة الذي أثمره الاتصال الهاتفي بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بمناسبة عيد الفطر، حيث جددا “رغبتهما في استئناف الحوار المثمر الذي أرسياه من خلال إعلان الجزائر الصادر في أغسطس/آب 2022″.
واتفق الرئيسان على أن “متانة الروابط – ولاسيما الإنسانية – التي تجمع الجزائر وفرنسا، والمصالح الاستراتيجية والأمنية للبلدين، وكذا التحديات والأزمات التي تواجه كل من أوروبا والحوض المتوسطي – إفريقي، كلها عوامل تتطلب العودة إلى حوار متكافئ بين البلدين باعتبارهما شريكين وفاعلين رئيسيين في أوروبا وإفريقيا”.
كما اتفق الرئيسان على استئناف التعاون الأمني بين البلدين بشكل فوري وضرورة الاستئناف الفوري للتعاون في مجال الهجرة والذاكرة، وهو الاتفاق الذي جعل وزير الخارجية الفرنسي جان نوال بارو يحل بالجزائر في 6 أبريل/نيسان الجاري.
وقال بارو عقب استقباله من طرف تبون: “طرحنا بكل صراحة جميع القضايا التي شغلتنا خلال الأشهر الأخيرة، بهدف تطبيق المبادئ التي وضعها الرئيسان خلال محادثتهما في 31 مارس/آذار، واستعادة الزخم والطموح الذي حدده قائدا البلدين في إعلان الجزائر عام 2022”.
وأعلن وزير الخارجية الفرنسي وقتها إعادة تفعيل جميع آليات التعاون في كافة القطاعات، واستئناف الاتصالات بين أجهزة الاستخبارات، والاتفاق على عقد اجتماع بين كبار مسؤولي الأمن في البلدين، والاتفاق على زيارة وشيكة لوزير العدل الفرنسي إلى الجزائر، واستئناف الحوار القضائي بين البلدين والتعاون في قضايا الهجرة دون تأخير ، وزيارة لرجال الأعمال الجزائريين إلى فرنسا.
واتفق البلدان أيضا على تطوير التبادلات التجارية، خاصة في قطاعات الصناعات الغذائية، السيارات، والنقل البحري.
غير أن كل ما جرى الاتفاق عليه أصبح من جديد في خبر كان جراء قضية توقيف الموظف القنصلي الجزائري من قبل الداخلية الفرنسية، فقد أعلن مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري، وهو أكبر تجمع لرجال الأعمال إلغاء الزيارة المزمع إجراؤها إلى فرنسا ضمن لقاء امبرمج مع منظمة أرباب العمل في فرنسا، والذي اتفق عليه عقب زيارة بارو.
وأوضح المجلس أن هذا القرار اتخذ نتيجة الإجراء الذي اتخذته السلطات الفرنسية بتوجيه قوي لمسير مؤسسة فرنسية للنقل البحري للعدول عن الذهاب إلى الجزائر من أجل تجسيد مشروع استثماري، مع العلم أن تعزيز الشراكة في النقل البحري كان ضمن الملفات المتفق عليها أيضًا.
ويتعلق الأمر حسب تقارير صحفية بالزيارة التي كان سيقوم بها رجل الأعمال الفرنسي رودولف سعادة، ذي الأصول اللبنانية، والذي يشغل منصب الرئيس المدير العام لعملاق النقل البحري “سي.أم.أ.سي.جي.أم”، وأحد المقربين من ماكرون.
مستفيد وحيد
لم تتردد صحيفة “لوكانار أونشينيه” الفرنسية في التأكيد عبر رسم كاريكاتوري أن المستفيد الأكبر من الأزمة الفرنسية الحالية هو وزير الداخلية برونو روتايو الذي استطاع أن يمرر أجندة اليمين المتطرف في حكومة فرانسوا بايرو المتهلهلة.
وترى عدة تقارير فرنسية أن روتايو يحاول الاستثمار في الأزمة الجزائرية إلى أبعد الحدود للتمكن من الفوز بانتخابات حزب “الجمهوريون” اليميني المنتظرة شهر مايو/أيار الداخل، والتي ستسمح له بأن يكون مرشحًا رئاسيًا لانتخابات 2027، وبالخصوص بعد القرار الصادر نهاية شهر مايو/أيار بمنع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان من ممارسة العمل السياسي لخمس سنوات بعد إدانتها في قضية الفساد المتعلقة بالمساعدين الأوروبيين.
وتعد الأزمة مع الجزائر ملفًا محببًا لليمين المتطرف في معاركه الداخلية حتى وإن كانت القضية خارجية، كونها تعيد الحديث عن قضايا الهجرة والحنين إلى فرنسا الاستعمارية وضرورة إيقاف “إذلال” الجزائر لباريس مثلما يتحدث روتايو ومن يتخندق في معسكره، بالنظر إلى أنهم يترقبون خوض البلاد انتخابات برلمانية جديدة قبل نهاية العام جرّاء وجود عدة ملفات من شأنها إنهاء الائتلاف الحكومي الحالي، وأبرزها موازنة البلاد.
ولم تتردد الجزائر أيضًا في اتهام وزير الداخلية الفرنسي بالوقوف وراء هذا التوتر الجديد، حيث جاء في بيان لوزارة الخارجية أن توقيف موظفها القنصلي “إجراء مشين يصبو من خلاله وزير الداخلية الفرنسي إلى إهانة الجزائر”.
واعتبرت الجزائر أن “هذا التصرف المتطاول على سيادتها لا يمثل إلا نتيجة للموقف السلبي والمخزي المستمر لوزير الداخلية الفرنسي تجاه الجزائر”، مضيفة أن “هذا الوزير يجيد الممارسات القذرة لأغراض شخصية بحتة”.
وقال كاتب الدولة الجزائري لدى وزير الشؤون الخارجية المكلف بالجالية الوطنية بالخارج سفيان شايب للتلفزيون الجزائري إن “وزير الداخلية الفرنسي يتحمل المسؤولية الكاملة في هذا الوضع الجديد بين الجزائر وفرنسا”، خاصة بعد دخول العلاقات الثنائية مرحلة من التهدئة إثر الاتصال الهاتفي بين قائدي البلدين الذي أعقبته زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر.
لكن النظام الفرنسي المنقسم إلى جناحين، أحدهما يؤيد الحوار مع الجزائر والمتمثل في مؤسسة الرئاسة والخارجية وثانٍ يقوده وزيرا الداخلية والعدل نفى أن يكون روتايو رأس الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا.
وفي الحقيقية، ليست المرة الأولى التي تعلن فيها الجزائر صراحة أن جناحًا في السلطة الفرنسية يرفض تعزيز العلاقات مع الجزائر، فقد قال الرئيس تبون في مقابلة تلفزيونية في مارس/آذار 2021 إن “علاقته طيبة مع الرئيس الفرنسي، وهو ما سمح بالقضاء على نوع من التشنج في المواقف”، غير أن “هناك لوبيات قوية بفرنسا، أحدها قوي جدًا، يضم جيرانا لنا يشوش على العلاقات بين البلدين، والآخر يضم الأشخاص الذين فقدوا جنتهم (الجزائر)، وهو الأمر الذي بقي كغصة في قلوبهم”.
وأضاف تبون وقتها أن “الرئيس الفرنسي على دراية بوجود لوبي قوي يسعى إلى تقويض العلاقات بين البلدين”.
واستطاع ماكرون في عهدته الرئاسية الأولى التصدي لهذا اللوبي وجعل هجماته على الجزائر متحكمًا فيها، غير أن صعود اليمين المتطرف في ولايته الرئاسية الثانية جعل موقفه ضعيفًا ولم يعد قادرًا على لجم طموحات اليمين التي ترى في ملف الجزائر ورقة انتخابية رابحة تجذب من ما زالوا يحنون للجنة الضائعة.
ويظهر هذا التناقض في التصريحات الصادرة، الأربعاء، عن وزيرين في الحكومة الفرنسية، فوزير الخارجية قال إن “الحوار هو السبيل الوحيد لحل التوتر بشكل مستدام” مع الجزائر، معتبرًا أن من يدعو إلى غير الحوار “غير مسؤول، لذلك يجب إعطاء فرصة للحوار”، فيما لجأ وزير العدل إلى تصريحات تصعد التوتر بالدعوة إلى إلغاء اتفاقية الهجرة لسنة 1968.
ويرى وزير الاتصال والدبلوماسي الجزائري السابق عبد العزيز رحابي أنه “لا يوجد هناك اختلاف جوهري في بين ماكرون ووزير داخليته، بل هناك توزيع أدوار محكم. يتجلى هذا الأمر بشكل أوضح في سياق فرنسي يتسم بالحماسة التي تسبق الانتخابات التي جعلت من الجزائر وجاليتها والإسلام جوهر نقاشاتها”.
وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة بشأن العلاقات الجزائرية بالتوجه إلى مزيد من التصعيد الذي قد يؤدي إلى قطع العلاقات أو التهدئة بغرض استئناف العمل المتوقف، فإن الكاتب الصحفي عثمان لحياني يرى أن هذه الأزمة أزمة وُجدت لتستمر، على الأقل حتى انتخابات الرئاسة في فرنسا 2027.