أزمة رسوم التقاضي: محامو مصر يواجهون “تسليع العدالة”

شهدت أروقة المحاكم المصرية على مدار الأيام الماضية أزمة خانقة تهدد سير عملية التقاضي في أعقاب رفع الرسوم القضائية المفروضة على الخدمات المميكنة، وهي الرسوم التي رفضها المحامون الذين صعدوا -في مواجهة الإصرار على تطبيقها- بالرد عليها من خلال الامتناع عن توريدها إلى خزائن محاكم الاستئناف لليوم الثالث على التوالي لحين إيجاد حل أخر، معتبرين إياها جباية مرفوضة.

وتُعد مقاطعة توريد الرسوم لخزائن المحكمة، خللًا جوهريًا في سير عملية التقاضي، ما يعني عمليًا إصابتها بالشلل والجمود المؤقت، وتعريض مصالح المتقاضين للخطر، فيما لوّح عدد من أعضاء مجلس نقابة المحامين المصريين باتخاذ العديد من الإجراءات التصعيدية في حال عدم التراجع عن الزيادات التي شهدتها الرسوم القضائية الأخيرة.

وكان رئيس محكمة استئناف القاهرة، المستشار محمد نصر سيد، قد أصدر قرارًا في الثاني من مارس/آذار الماضي، بزيادة الرسوم على الخدمات التي تقدمها المحكمة والتي تشمل الرسوم عند الرفع، والخدمات المميكنة، ورسوم الحوافظ، ورسوم الميكروفيلم، ورسوم  الماسح الضوئي، وأمانات الخبراء، والدمغات، ورسم طابع الشهيد، ورسوم الإعلانات والمحضرين، ورسوم استلام صور الأحكام والصيغ ومحاضر الجلسات، ورسوم الشهادات، وهو ما اعتبره المحامون خرقًا للدستور غير مقبول.

ورغم الاجتماعات التي عقدها مجلس نقابة المحامين بكافة فروعه الإقليمية داخل المحافظات لمناقشة هذا الأمر والتأكيد على رفضه من جذوره، والتحذير من تداعياته على سير العدالة في مصر، إلا أن المحاكم أصرت على إدخال تلك القرارات حيز التنفيذ في التاسع من أبريل/نيسان الجاري، الأمر الذي أشعل غضب المحامين ودفعهم للتصعيد إلى أعلى درجة ممكنة، وسط مخاوف من تداعيات تلك الأزمة على منظومة التقاضي.

تصعيد من المحامين

على مدار الشهر الحالي لم تنفض اجتماعات مجلس نقابة المحامين ونقباء الفرعيات، حيث طُرحت الرسوم القضائية المفروضة مؤخرًا على طاولة النقاش والتباحث بين شيوخ المهنة، وجرى التوصل لقرار بالإجماع على رفض تلك الرسوم شكلًا ومضمونًا، واللجوء إلى التصعيد إلى أقصى درجة ممكنة للضغط من أجل التراجع عن هذه الخطوة.

وانتهت جل تلك الاجتماعات والنقاشات إلى اتخاذ عدد من الإجراءات التصعيدية، بدأت أولًا بوقفات احتجاجية قام بها المحامون في عدد من المحاكم في القاهرة وبقية المحافظات، مرورًا بالامتناع عن توريد أي رسوم إلى خزائن المحاكم، وتعليق العمل بهذا الأمر رغم ما قد يترتب عليه من تعطيل للعملية القضائية برمتها، وصولا إلى التلويح بخطوات أخرى أكثر سخونة.

وتعهد المحامون بعدم التراجع عن قرارهم إلا بعودة الأمور إلى نصابها “بحيث لا يُحرم أي إنسان من حقه في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي” كما جاء على لسان عضو مجلس نقابة المحامين، محمد راضي، الذي أكد في تصريحات لـ “مدى مصر” أن التصعيد التدريجي سيستمر، وفي حال عدم الاستجابة، سيتم النظر في إصدار قرارات تصعيدية أخرى، لافتًا إلى أن تحرك المحامين لا يهدف إلى تحقيق مصالح فئوية، بل هو انتصار للدستور وحق المواطن في الوصول إلى القضاء بصورة غير مرهقة، على حد قوله.

الرأي ذاته ذهب إليه عضو مجلس النقابة، عمرو الخشاب، الذي أشار إلى امتلاك النقابة العديد من أوراق الضغط “من بينها مقاطعة خزائن جميع المحاكم وليس محاكم الاستئناف فقط، والدعوة إلى عقد جمعية عمومية، وصولًا إلى تقديم استقالة جماعية من المجلس”، منوهًا أن هناك قرارات تصعيدية أخرى سيتم الاتفاق عليها ستُحدد خلال الاجتماع المزمع عقده خلال يوم أو يومين.

وفي المقابل يتهم النائب الأول السابق لرئيس محكمة النقض، المستشار أحمد عبد الرحمن، المحامين بتعمد إثارة الأزمات بين الحين والآخر لتحقيق مكاسب شخصية، مشددًا على أن “كل مرة المحامين بيعملوا أزمة، المرة اللي فاتت الفاتورة الإلكترونية، ودلوقتي الرسوم القضائية، المحامي في النهاية بيحمّل الموكل كل التكاليف ومش بيدفع حاجة من جيبه”.

عوار دستوري

يستند المحامون في تصعيدهم ورفضهم لتلك الرسوم المفروضة على مخالفتها الفجّة والصريحة والعلنية للمادة (38) من الدستور المصري لعام 2014 والتي تشير إلى أن أي زيادة في الرسوم لا بد وأن تكون بتدخل المشروع وإصدار قانون خاص بها، حيث تنص على أنه: “يهدف النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة إلى تنمية موارد الدولة، وتحقق العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، ولا يكون إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاؤها، إلا بقانون ولا يجوز الاعفاء منها إلا في الأحوال المبينة في القانون، ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب أو الرسوم إلا في حدود القانون…”.

ولم يقتصر العوار الذي أحل بتلك الرسوم على الشق الدستوري فقط، بل هناك عوار قضائي مواز، وفق ما أقرته المحكمة الإدارية العليا في حكمها الواضح الذي جاء فيه أن: “الرسوم القضائية تعتبر مساهمة من جانب المتقاضين مع الدولة فى تحمل نفقات مرفق القضاء والسبيل الوحيد لتقريرها هو صدور قانون بفرض الرسم فلا رسم بدون قانون”.

من هنا يرى المحامون أن الطريقة التي فُرضت بها تلك الرسوم الجبرية، كانت خارجة عن الأطر الدستورية والشرعية التي رسمها الدستور والقانون، باعتبار أن الرسوم لا تفرض إلا بناءً على قانون، وعليه فلا حجية قانونية ولا دستورية لها، ومن ثم فهي غير مُلزمة التطبيق ويجب التراجع عنها فورًا، وإلا ستتدحرج كرة الرسوم لتشمل كافة الخدمات المقدمة وهو ما يعني باختصار تسليع عملية التقاضي وتحويلها إلى رفاهية لا يقدر عليها إلا ميسورو الحال، أما غير القادرين فلا، وهو ما يضرب منظومة العدالة في مقتل.

محاولة تهدئة غير مقبولة

وأمام تصعيد المحامين وتعليق توريد الرسوم لمخازن المحاكم الاستئنافية، حاول مجلس رؤساء محاكم الاستئناف، برئاسة المستشار محمد نصر، تهدئة الأمور وتبريد الأزمة جزئيًا من خلال اتخاذ  بعد الخطوات، منها تخفيض مقابل الميكنة بنسبة 50% في دعاوى وقضايا الأسرة والعمل، مُرجعا لذلك لمراعاةً ظروف المتقاضين، كما ضع حد أقصى قدره 500 جنيه في جميع الدعاوى الأخرى، بغض النظر عن عدد الأوراق أو الإجراءات المتخذة.

إلا أن هذه الخطوات قوبلت بالرفض من المحامين الذين وصفوها بالتحايل على القانون، مشككين في دستورية إنشاء الكيان المعروف بـ”مجلس رؤساء محاكم الاستئناف” صاحب تلك القرارات، وأنه كيان غير رسمي لم ينص على تأسيسه قانون السلطة القضائية، معتبرين أن كافة ما يصدر عنه من قرارات وإجراءات منعدمة وغير دستورية.

وفي مواجهة بعض الأصوات التي أيدت قرار تخفيض مقابل الميكنة للمحاكم العمالية ومحاكم الأسرة، ذهب قطاع كبير من المحامين إلا أن هذه المحاكم لها خصوصية مختلفة عن بقية المحاكم، وفي الغالب فهي معفاة من أي رسوم، وعليه فإن فرض رسوم باهظة عليها ثم تخفيضها لاحقا للنصف مسألة بها خداع وبطلان واضح، وتحايل مكشوف على القانون.

كالعادة.. المواطن من يدفع الثمن

بجانب أنها غير دستورية وبها عوار قانوني واضح، ينطلق المحامون في تصعيدهم لتلك الأزمة من قاعدة تداعياتها عليهم ماديًا، حيث الكلفة الجديدة المتوقع أن تُحمّل على المحامي جراء فرض رسوم جديدة قد تصل في بعض القضايا إلى 5000 جنيه (100 دولارًا) وأكثر، وهو ما سيُحمله المحامي بطبيعة الحال على موكله المتقاضي الذي من المؤكد أنه من سيحاسب على كل المشاريب من جيبه الخاص.

ومع تراكم الرسوم وكلفتها الباهظة والتي قد تفوق إمكانيات كثير من المتقاضين أصحاب الشكاوى والمسائل، فقد يضطر بعض منهم إلى الانسحاب من التقاضي الرسمي والبحث عن وسائل أخرى، عرفية كانت أو اجتماعية، تكون أقل في الكلفة وأسرع في الوقت، وهو ما سينعكس حتمًا على المحامي من جانب والمجتمع من جانب آخر.

فبينما تهدف محاكم الاستئناف إلى إنعاش خزائنها بعشرات الملايين جراء الرسوم الجديدة، لتوزيعها على العاملين في السلك القضائي لتحسين مستوياتهم المعيشية، رغم معدلات أجورهم الجيدة والتي ربما تكون الأعلى بين الفئات الوظيفية الحكومية، تتناسى تماما ما يمكن أن يترتب على ذلك من تهديد لمنظومة العدالة وتحويل عملية التقاضي إلى رفاهية لا تُمنح للكثيرين.

تحذيرات عدة وصرخات مدوية أطلقها محامون وحقوقيون من تداعيات هذه الخطوة على العدالة في مصر، التي يبدو أنها تسير باتجاه الخصخصة، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، ليصبح التقاضي للقادرين فقط، أما مادون ذلك فلا، وهي الكارثة التي سيدفع ثمنها المجتمع بأكمله، حيث سلب الحقوق والتجرؤ على ارتكاب الجرائم والسير بقوة عكس اتجاه القانون، نحو الجلسات العرفية وأحكامها التي يُخشى أن تكون ذات قوة وتأثير ومكانة تفوق تلك الصادرة عن المحاكم الرسمية.