نقابة الصحفيين المصريين.. هل تحسم “الرشى الانتخابية” المعركة؟

تشهد أروقة نقابة الصحفيين المصريين هذه الأيام حالة من الزخم المعتاد مع كل موسم انتخابي، حيث الجدل النقابي حول عدد من الملفات والقضايا المتعلقة بواقع الصحفيين، تتصدرها الثنائية التقليدية، الأجور والحريات، فيما تحولت أدوار النقابة الثمانية إلى خلية نحل لا تتوقف، جولات مكوكية صعودًا وهبوطًا من قبل أنصار المرشحين للترويج لبرامجهم ومحاولة إبرام “تربيطات” مع أعضاء الجمعية العمومية لدعمهم خلال الانتخابات المقبلة.
وكانت اللجنة المشرفة على الانتخابات قد قررت تأجيل انعقاد الجمعية العمومية للصحفيين إلى يوم الجمعة 2 مايو/أيار المقبل لعدم اكتمال النصاب القانوني اللازم لانعقادها، والمقرر بحضور 25% من الأعضاء المشتغلين، البالغ عددهم 10224 عضوًا طبقًا للمادة “35” من القانون رقم 76 لسنة 1970.
وكان يُفترض إجراء الانتخابات في السابع من مارس/آذار الماضي لكنها تأجلت بسبب عدم حضور النصاب القانوني والمقرر بنحو نصف عدد الأعضاء المقيدين في جدول المشتغلين، ليتم تأجيلها أسبوعين آخرين شريطة حضور 25% من إجمالي الأعضاء المشتغلين، وهو ما لم يحدث، لتؤجل مرة ثالثة ورابعة بسبب رمضان وعيد الفطر، وصولًا إلى المرحلة الأخيرة من التأجيلات والمقرر لها الثاني من الشهر القادم.
وغالبًا ما تتحول انتخابات نقابة الصحفيين المصريين إلى معركة بين مرشح الدولة والمعارضة، وهي المعركة التي في الأغلب تٌحسم لصالح الأول غير أن ما شهدته الجولة الأخيرة حين فاز النقيب الحالي -والمرشح على مقعد النقيب في الانتخابات القادمة- خالد البلشي على مرشح الحكومة خالد ميري في الانتخابات التي جرت قبل عامين تقريبًا، كانت صدمة للكثير من المراقبين للمشهد لاسيما ممن يسميهم الصحفيون “الدولجية” وهم الداعمون للنظام والمنفذون لأجنداته وأيديولوجياته داخل النقابة.
وتُعد نقابة الصحفيين – وبعدها نسبيًا نقابة المهندسين- من أبرز النقابات التي فشلت الدولة في تدجينها بشكل كامل ومستمر، مقارنة بقائمة النقابات الأخرى التي سقطت في مستنقع الاستقطاب والاستئناس، وهو ما يجعل من مواسم انتخاباتها حدثًا مهمًا، تُسلط الأضواء عليه، في ظل ما تمثله الصحافة من تأثير وحضور وما تمتلكه من أدوات جماهيرية مُعتبرة رغم محاولات تسطيحها وتفريغها من هذا الأثر.
خارطة الانتخابات
وتُجرى انتخابات “التجديد النصفي” في نقابة الصحفيين المصريين كل عامين على مقعد النقيب، و6 من مقاعد أعضاء المجلس، بما يمثل نصف عدد المقاعد البالغ عددها 12 مقعدًا، وتبلغ دورة كل عضو في المجلس 4 سنوات، وكان مقررًا لتلك الانتخابات إجرائها في مارس/آذار الماضي إلا أنها أجلت لعدم اكتمال النصاب القانوني، وهذا أمر معتاد في كل جولة انتخابية، إذ من الصعب اكتمال النصاب مع دعوة الانعقاد الأول.
يبلغ عدد المرشحين على مقعد النقيب في تلك الانتخابات 6 مرشحين، أبرزهم النقيب الحالي المنتهية ولايته خالد البلشي، أحد أبرز قيادات ما يعرف بـ”تيار الاستقلال النقابي” (جبهة تحمل شعار الاستقلال النقابي والحريات) صاحب الفكر اليساري المعروف، والنقيب الأسبق، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الحكومية، عبد المحسن سلامة، المحسوب على الدولة.
وعلى مقاعد عضوية المجلس الستة يتنافس 43 مرشحًا، بعضهم محسوب على تيار الدولة على رأسهم رئيس تحرير مجلة “الأهرام الرياضي” وعضو مجلس الشيوخ محمد شبانة، ورئيس تحرير موقع “روزا اليوسف” وعضو المجلس أيمن عبدالمجيد، ووكيل النقابة ورئيس لجنة الشؤون العربية بها، حسين الزناتي.
وفي الغالب تُجرى الانتخابات داخل النقابة بنظام “التربيطات الانتخابية”، حيث التشكيلات الداخلية الأقرب لنظام القوائم المعروفة في الانتخابات البرلمانية، حتى وإن لم يُعلن عن ذلك بشكل رسمي نظرًا لمخالفته لقانون النقابة ولائحتها الداخلية، لتنحصر المنافسة بين مرشحي الدولة من أبناء الصحف القومية الممولة والمدعومة حكوميًا، ومرشحي المعارضة من اليساريين على وجه التحديد، فيما يدخل البعض -وهم أقلية- ساحة المنافسة، ملتزما بمبدأ الوسطية بين هذا وذاك.
خالد البلشي.. مرشح اليسار
يدخل النقيب المنتهية ولايته، الماراثون الانتخابي الحالي، مُدججًا بنجاحات حققها خلال ولايته الأولى اعتبرها مناصروه إنجازات تستوجب التمديد لولاية ثانية له، فهو ابن التيار اليساري الذي يعتبر الأقوى والأكثر تأثيرًا، رأسيًا وأفقيًا، داخل نقابة الصحفيين المصريين.
وكان البلشي الذي رأس تحرير موقع “درب” الإخباري التابع لحزب التحالف الشعبي المعارض، وتقلد العديد من المناصب داخل النقابة ما بين العضوية والوكيل، قد أطاح بمنافسه المدعوم حكوميًا خالد ميري في الانتخابات التي جرت في مارس/أذار 2023، في مفاجأة من العيار الثقيل وقتها، خاصة بعد التوتر الملحوظ الذي خيم على العلاقات بينه وبين الدولة في ذلك الوقت، بسبب تصريحاته المناوئة للسلطة خاصة في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
ويرى أنصار البلشي أنه أدار ولايته الأولى باقتدار ونجاح، محققًا العديد من الإنجازات عكس المتوقع، إذ كان يراهن البعض على فشله في تحقيقها، مستندين إلى العلاقات المتوترة بينه وبين الدولة، ومن أبرز ما حققه خلال العامين الماضيين إعادة تفعيل مشروع مدينة الصحفيين بعد توقف دام 15 عامًا، بالإضافة إلى مشروع تعيين الصحفيين المؤقتين، علاوة على جهوده لزيادة بدل التكنولوجيا، وهو بمنزلة “أجر” شهري يحصل عليه الصحفيون أعضاء النقابة منذ عام 1975 ويقدر حاليًا بنحو 3900 جنيهًا (78 دولار) وفي الغالب يتصدر قائمة البرامج الانتخابية للمرشحين مع كل موسم انتخابي.
وتُعد قضية الحريات هي الأكثر حضورًا في برنامج البلشي الانتخابي، حيث يعتبرها الملف الأبرز والأهم والمتغير المستقل الذي يقود خلفه بقية المتغيرات الأولى من تحسين للأجور والرواتب وغيرها من المسائل المتعلقة بتحسين وضع الصحفي والارتقاء بمستوى المهنة التي وصلت إلى الحضيض في كل شيء.
وعلى الجانب الأخر يتهمه المعارضون بأنه ينتصر في الغالب لأبناء تياره السياسي والأيديولوجي، وأنه قد حوّل النقابة إلى حزب سياسي أكثر منها نقابة خدمية، وهو ما أدخلها في صدامات مع السلطة كانت نتيجتها تراجع حصة الصحفيين من الامتيازات والمكتسبات التي كانت تقدمها الدولة للنقابة في ظل وجود نقباء على علاقة جيدة بالسلطة ومن أبناء المؤسسات القومية الداعمة والممولة من الحكومة.
عبدالمحسن سلامة.. ابن الحكومة ومرشحها
وعلى الجانب الآخر من المنافسة يأتي عبد المحسن سلامة، نقيب الصحفيين الأسبق (2015 – 2017) وابن مؤسسة الأهرام الحكومية وأحد أذرع السلطة الطولى لسنوات ممتدة، والذي جاء إلى الصحفيين هذه المرة حاملا معه برنامجًا ورديًا أثار حالة من الجدل داخل الأسرة الصحفية بين السخرية والمغازلة.
وكان سلامة الذي تخرج في كلية الإعلام في جامعة القاهرة عام 1985، قد انتُخب عضوًا بمجلس إدارة مؤسسة الأهرام عام 2006، ثم انتُخب عام 2009 في مجلس نقابة الصحفيين وأصبح في العام التالي وكيلًا لها، ليجلس على كرسي النقيب عام 2017 ، وبعدها بشهرين يصدر قرارًا بتعيينه رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عُيِّن في المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
دخل المرشح المحسوب على الحكومة الانتخابات الراهنة حاملا معه برنامجا ذي ثلاثة محاور، أبرزها على الإطلاق المحور الاقتصادي، حيث جاء للصحفيين بقائمة مطولة من الحزم الاقتصادية التي تداعب الأحلام الوردية بشأن تحسين مستوى معيشة الأسرة الصحفية، تتمثل في بدل غير مسبوق، وشقق وأراضٍ سكنية، وأراضٍ زراعية وغيرها، وحل مشكلة التأمينات الخاصة بالصحفيين المنتسبين للصحف الموقوف ملفاتها التأمينية.
ثم المحور الثاني الخاص بالمهنة وتطويرها، حيث تعهد بإنشاء معهد أكاديمي للدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه، بما يضيف ثقل للمهنة، متعهدًا بأن يكون أفضل معهد تدريبي على مستوى مصر والشرق الأوسط، فيما يأت ملف الحريات كثالث المحاور التي تضمنها برنامج سلامة الانتخابي، إذ زعم أكثر من مرة وفي مناسبات عدة أنه لم يتخل مطلقًا عن أي صحفي محبوس أو معتقل، واعدًا الصحفيين بسماع أخبار سارة تتعلق بهذا الملف قريبًا.
المعارضون للنقيب الأسبق يرون في الحزم الاقتصادية التي يقدمها “رشى انتخابية” يحاول من خلالها استمالة الصحفيين والعزف على أوتار واقعهم المعيشي المتدني، مستندا في ذلك إلى علاقته الجيدة بالسلطة والتي قد تمنحه المزيد من أوجه الدعم والمصالح المقدمة للصحفيين، وهو ما لم يمنحه البلشي، مما يجعل المنافسة هنا غير شريفة من وجه نظر البعض.
ويحاول سلامة الذي كان عضوًا في الحزب الوطني المنحل، ومرشحه البرلماني عن دائرة شبرا الخيمة في محافظة القليوبية عام 2010 في الانتخابات التي أفضت إلى “برلمان مزور بالكامل”، ومثلت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، توظيف تلك العلاقة الدافئة مع الحكومة لتعزيز فرص فوزه في تلك الانتخابات.
انتخابات على وقع الأزمة
تنطلق انتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين على وقع أزمة متفاقمة تعاني منها الصحافة المصرية بأضلعها الثلاثة، المهني والحقوقي والبشري، وهي المعاناة التي قزمت من دورها وقلصت حضورها وكبلت من تأثيرها، والتي اتخذت قائمة مطولة من المؤشرات:
أولها: حجب مواقع.. يرفع كلا المرشحين شعارات براقة حول الحريات الصحفية في وقت يٌحجب فيها العشرات من المواقع والمنصات الإخبارية والإعلامية منذ عام 2017 وحتى اليوم، ورغم المناشدات التي تقدمت بها الجمعيات الحقوقية والمعنية بحريات الصحفية إلا أن أحدًا لم يستجب، في مشهد قدم صورة مخزية عن واقع الصحافة في مصر.
ثانيًا: حبس صحفيين.. وفق التقرير العام لنقابة الصحفيين عن الفترة من مارس/آذار 2023 حتى فبراير/شباط 2024، فهناك أكثر من 19 صحفيًا على قوائم الحبس الاحتياطي (7 منهم نقابيين و12 من غير المقيدين بالنقابة) هذا بخلاف ثلاثة صحفيين صادرة بحقهم أحكام قضائية.
ثالثًا: أوضاع معيشية مزرية.. ينطلق الماراثون الانتخابي والبرامج الوردية التي حملها المرشحون في ظل قبوع ما يزيد عن 72% من الصحفيين المصريين فيما دون الحد الأدنى للأجور المُحدد من الدولة بـ7000 جنيه شهريًا (نحو 138.6 دولارًا أميركيًا) وأن 40% منهم يعيشون بأقل من نصف الحد الأدنى، مقابل 28.2 % يلامسون الحد الأدنى أو يزيدون عليه، وفق ما كشفه الاستبيان الذي أجرته نقابة الصحفيين المصريين قبل أشهر قليلة.
الاستبيان أوضح كذلك أن 40.1% من الصحفيين يلجأون للعمل الإضافي بشكل دائم، للوفاء بالتزامات الحياة، ونحو 24,4 % يضطرون للعمل الإضافي أحيانًا، بخلاف 30% يلجؤون لأعمال غير صحفية لتحسين أجورهم، ما يعني أن قرابة ثلثي الصحفيين المصريين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم المعيشية، مما يدفعهم للبحث عن عمل إضافي.
جدير بالذكر أن المعركة الانتخابية التي تشهدها الجولة الحالية من انتخابات النقابة تجاوزت كل الخطوط الحمراء التي تضمنها ميثاق الشرف الأخلاقي والمهني، حيث إشهار الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، من تراشق وتبادل اتهامات وتخوين وتشويه وإيغال غير مسبوق في توظيف الرشى الانتخابية، دفع الكثيرين إلى التحذير من خطورة هذا السجال الذي يحمل بين طياته نسفًا لما اعتادت عليه النقابة من تمسك بتلابيب المنافسة الشريفة.
مأزق حقيقي يضع صحفيي مصر في مفاضلة صعبة، بين مُغريات المرشح الحكومي الذي يداعب الواقع المعيشي المتدني للجماعة الصحفية، حتى لو كان الثمن سيادة النقابة واستقلالية الصحفيين، ومعركة الحريات التي يرى البعض أن خوضها فرض عين للحفاظ على ما تبقى من قيمة للصحافة في بلد يسير مهرولًا نحو محو وتشويه تاريخه الصحفي الممتد على مدار عشرات السنين.. فإلى أي الخيارين يصوت الصحفيون؟