مقاومة المقاومة: هل يحارب الأردن محاولات إعادة تعريف النضال؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
في 15 أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت السلطات الأردنية اعتقال 16 فردًا مرتبطًا بجماعة الإخوان المسلمين بتهمة التخطيط لهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة من داخل البلاد. كانت رواية الدولة حازمة وواضحة في هذا الشأن: لم تكن هذه عملية خارجية أسيء توجيهها نحو الداخل، ولا احتجاجًا أيديولوجيًا مُبالغًا فيه، بل كان تهديدًا داخليًا.
ووفقًا للتقارير الرسمية، فقد تدرب العناصر في لبنان – وهو بلد لا تربطه بالأردن حدود مباشرة – وخبّأوا متفجرات في عمّان والزرقاء. وأشارت السلطات والمصادر المقربة من أجهزة الاستخبارات إلى أن اجتماعات مُخطط لها جرت مع شخصيات في تركيا والسعودية.
لكن ردّ جماعة الإخوان المسلمين اتخذ منحى مختلفًا تمامًا. فعلى الرغم من أن هذه الاستعدادات بدأت قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بوقت طويل، إلا أنها حاولت إعادة صياغة المؤامرة كجزء من “محور المقاومة” الأوسع، وتصويرها على أنها امتداد للمواجهة الأخلاقية في المنطقة مع إسرائيل – وليس عملاً تخريبيًا ضد الأردن – وفي هذا السياق، لم يكن العناصر مُخربين بل نشطاء ملتزمين. لم يُكشف علنًا عن أي تفاصيل عن الأهداف المقصودة أو التوقيت، مما يترك الرواية مفتوحةً على اختلاف الأطر السياسية، بين اتهامات تتعلق بالأمن الداخلي من جهة، ودفاعات تُشير إلى أهداف خارجية من جهة أخرى. هذا التمييز ليس مجرد اختلاف في الخطاب، بل تمييز يُثير سؤالًا أعمق وأكثر جدلًا: من يُحدد مفهوم المقاومة في الشرق الأوسط اليوم؟
بعد ثمانية عشر شهرًا من الحرب المتواصلة في غزة، ازدادت ضبابية الحدود الفاصلة بين النضال المُصرّح به والفعل غير المُصرّح به. فالجهات الفاعلة غير الحكومية، التي ترى أن حكومات المنطقة مُصرّة على سياسة التقاعس، تُثبت نفسها بشكل متزايد المفسر والمنفّذ الشرعي للتحدي.
في هذا المناخ والسياق، تطورت المقاومة من استراتيجية سياسية إلى عملة أخلاقية – وسيلة لانتزاع الشرعية. لقد أصبحت الحرب في غزة اختبارًا إقليميًا وعالميًا للمصداقية الأخلاقية، فالجهاد – الذي لطالما استُدعي في سياق فلسطين كرد فعل على التقاعس المتصور من الدول العربية عن التحرك – يتم الآن إعادة توصيفه من قبل الحركات الإسلامية والمنظرين الإسلاميين على أنه مقاومة مشروعة متجذرة في القيم المقدسة.
ورغم أن هذا التأطير لا يعد جديدًا، إلا أن ما يميز اللحظة الراهنة هو حجم ووحشية الحرب في غزة، التي ضاعفت هذه الشدة من القوة العاطفية والأخلاقية للجهاد كمفهوم، ودفعت به أكثر فأكثر إلى صلب خطاب المقاومة، ليس بوصفه تطرفًا، بل بوصفه فريضة.
ويتم الآن التذرع بهذه القيم، التي يُنظر إليها باعتبارها قطعية وغير قابلة للتفاوض، لتبرير، بل وتقديس العمل خارج نطاق الدولة. بالنسبة للكثيرين – وخاصة الأجيال الشابة التي خاب أملها في السياسات التقليدية – تنبع الشرعية الآن من الوضوح الأخلاقي وليس من الاعتراف المؤسسي.
وكلما طال أمد الحرب، كلما ازدادت الفجوة بين السلطة والشرعية؛ حيث لم يعد يتم الحكم على الدول فقط بما تسيطر عليه، بل بما تمثله، وقد استغلت حركات مثل الإخوان المسلمين هذا التشرذم – ليس فقط من خلال المواجهة، ولكن من خلال الرمزية – فيصبح الإحباط قوة تعبوية، ويُصوَّر الصمت على أنه خيانة، واتسع تعريف التحدي المبرر أكثر من أي وقت مضى، وبدأ ”الخيال الأخلاقي” يحل محل الواقعية السياسية.
ويتعرض الأردن، أكثر من العديد من جيرانه، لهذا التوتر الأيديولوجي، وعلى الرغم من حل جماعة الإخوان المسلمين رسميًا هناك، إلا أنها لا تزال نشطة سياسيًا من خلال جبهة العمل الإسلامي الذي حصل على أكبر كتلة في الانتخابات البرلمانية لعام 2024، وتلقى رسائلها – التي تدعو إلى الكرامة والتضامن مع فلسطين ورفض التهاون – صدى واسعًا، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية الأردنية الفلسطينية الكبيرة وبين الشباب المنفصلين عن السياسة، فغزة بالنسبة للكثيرين منهم ليست بعيدة، بل هي قضية شخصية متجذرة في القرابة والجغرافيا والهوية.
لم يكن النجاح الانتخابي للإخوان المسلمين في الانتخابات مجرد تنافس على الحكم، بل كان تنافسًا على السرديات والسلطة الأخلاقية؛ فقد أكد أداؤها في صناديق الاقتراع أن جزءًا كبيرًا من الأردنيين كانوا منحازين إلى تأطيرها للمقاومة وانتمائها العلني إلى حركة حماس، وهذا الزخم السياسي يجعل أي تحرك عدواني ضد الإخوان أكثر تعقيدًا بكثير، وقد عزّزت تصريحات الجماعة بعد اعتقالات نيسان/ أبريل الانطباع بوجود تصعيد أيديولوجي، وهي رسالة من غير المرجح، بل من غير المحتمل أن تتجاهلها الدولة.
المشكلة بالنسبة للحكومة الأردنية لا تتعلق بالأيديولوجية بل بالسلطة، فالدول الحديثة قائمة على احتكار الاستخدام المشروع للقوة، سواءً كان العنف موجهًا داخليًا أم خارجيًا، يجب أن يمر عبر الدولة، وقد اختار الأردن الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية كقناتين لدعم غزة، ويُنظر إلى أي انحراف عن هذا الموقف، حتى نظريًا، على أنه تحدٍّ مباشر لتماسك المشروع الوطني.
ويضيف السياق الإقليمي طبقة أخرى من التعقيد؛ فقد قيل إن لبنان، وليس سوريا، هو ساحة التدريب، في السنوات الأخيرة، كانت سوريا في السنوات الأخيرة بمثابة الممر الرئيسي للتهديدات العابرة للحدود، ولكن مع سعي النظام الجديد في عهد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى إعادة تأهيله دوليًا ووضع نفسه كشريك في مكافحة الإرهاب، فإن الحسابات المتعلقة بهذا الأمر آخذة في التغير؛ فقد تم إقصاء أو إضعاف الميليشيات المدعومة من إيران وحزب الله، وأدت الضربات الإسرائيلية – إلى جانب تطبيع التوغلات عبر الحدود – إلى جعل الأراضي السورية أكثر سهولة في الوصول إليها من الناحية المادية، ولكن بالنظر إلى أن إسرائيل وسعت من تواجدها العسكري في جنوب سوريا إلى ما وراء مرتفعات الجولان، فقد أصبحت الآن موقعًا أقل ملاءمة للبنية التحتية للمقاومة.
وفي الوقت نفسه، يمر لبنان بمرحلة انتقالية؛ فالرئيس الجديد والحكومة الجديدة يواجهان ضغوطًا دولية متزايدة – خاصة من واشنطن – لنزع سلاح حزب الله وتقليص الوجود العملياتي لإيران، وبينما يتم تقييد قدرات حزب الله، يظهر فراغ أيديولوجي جديد، فالمناطق الرمادية آخذة في الاتساع، وبالنسبة للجماعات المنحازة لمحور المقاومة ضد إسرائيل، يوفر لبنان الآن ثقلًا رمزيًا وفرصة لوجستية، حتى لو كانت هذه الديناميكيات تُقرأ على أنها اتجاهات طويلة الأمد أكثر من كونها تكتيكات آنية.
وعلى الرغم من أن تدريب خلية الأردن سبق الحرب على غزة، إلا أن انكشاف المؤامرة في أعقابها أضفى طابعًا ملحًا وثقلًا رمزيًا إلى سرديتها، مما عزز الشعور بأن المنطقة تشهد إعادة صياغة وتنشيط لمفهوم المقاومة ضد إسرائيل.
إن ما يظهر ليس خطة فردية بل مشهد متغير، فهيكلُ وكلاء إيران آخذٌ في الانكماش، ومع تداعي منابر الانطلاق التقليدية مثل سوريا واليمن، تُفسح الحرب بالوكالة المجالَ لشبكاتٍ أكثرَ مرونةً وذات دوافعَ أيديولوجية، وفي ظلِّ عملية إعادةِ الترتيب هذه، فإن الأردن – المستقرّ والمركزي والمتاخم لإسرائيل – ليس هدفًا، بل مساحة وساحة ورمز.
لكن الأردن لا يستطيع تحمل هذا الدور أو القبول به؛ فقد صورت عمّان نفسها منذ فترة طويلة كقوة استقرار، لا كساحة انطلاق، حتى أن التصور بأن أراضيه يمكن أن تكون قاعدة لنشاط المقاومة يهدد بانهيار التوازن الدبلوماسي الحذر الذي يتبناه الأردن. فهو يخاطر بتقويض ثقة الرأي العام وتقويض التحالفات وجر الأردن إلى نوع من المواجهة التي لطالما حاول تجنبها.
لكن في قواعد اللعبة التي تتبعها المقاومة، يتحول التهديد بحد ذاته إلى استراتيجية، فالضغوط الافتراضية تحمل ثقلًا رمزيًا، ليس فقط بالنسبة لإسرائيل، بل أيضًا بالنسبة لأنظمة المنطقة التي ترى الشعوبُ بأنها متقاعسة.
إن ما ورد من أنباء عن إدراج طائرات مسيرة في الخطة المزعومة يدل على هذا التحول، وسواءً كانت هذه الطائرات عاملة أم لا، فإن وجودها يُشير إلى وجود إعادة تقييم، فالطائرات المسيرة تُعدّ أدوات رئيسية في الحرب غير المتكافئة؛ حيث تسمح بتجاوز الحدود التقليدية، مما يشير إلى أن المواجهة ليست ممكنة فحسب، بل قابلة للتكيف أيضًا، ومجرد ذكرها يُعيد فتح المجال النفسي للمقاومة.
بالنسبة للأردن، لا يقتصر التحدي على الأمن الداخلي فحسب؛ بل إن رد فعل الحكومة يجب أن يأخذ في الاعتبار إعادة التقييم الإقليمية هذه، فلطالما شجع الحلفاء العرب، وخاصة الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية، على اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الإخوان المسلمين.
ورغم ندرة التصريحات الصريحة بهذا الشأن، إلا أن هذه التوقعات تُشكّل المساعدات والدبلوماسية والمواقف، والإجماع غير المعلن هو أن الإخوان المسلمين يُشكلون عبئًا، والرسالة هي أنه يجب احتواؤها.
لقد قاومت عمّان قمع الإخوان المسلمين تماشيًا مع النهج الأكثر عدوانية الذي اتبعه حلفاؤها الإقليميون، لكن هامش الحياد يضيق، وتمثل اعتقالات أبريل/ نيسان نقطة تحول. وفي حال تحوّل الأردن نحو نهج أكثر حزمًا، فإنه سيحتاج إلى غطاء سياسي ومساعدة مالية – ليس فقط لأن جماعة الإخوان المسلمين تحتفظ بدعم شعبي واسع النطاق، بل لأن تأطيرها المعنوي، لا سيما حول فلسطين، لا يزال قويًا.
وعلى عكس البلدان الأخرى التي تم تهميش الجماعة فيها بشكل كامل، لا تزال جماعة الإخوان في الأردن متجذرة بعمق في الحياة السياسية والاجتماعية، مع إرث يمتد لأكثر من 70 عامًا، وتتسبب مواجهتها بشكل مباشر، خاصة في أعقاب المكاسب التي حققتها في انتخابات 2024، بإشعال اضطرابات سياسية كبيرة وعدم استقرار اجتماعي، كما أن سوء إدارة الوضع قد يؤدي إلى تأجيج توترات تتجاوز بكثير النطاق الرسمي للحركة.
لا يطلب الأردن من واشنطن مجرد زيادة في المساعدات، إنه يبحث عن شيء أعمق من ذلك: فهو يريد اعترافًا بأن دوره في المنطقة – الذي يوازن بين الدبلوماسية والاستقرار الداخلي والتعاون الأمني – لا يمكن أن يعامل كأي حليف آخر، وتريد عمّان احترام خطوطها الحمراء (عدم تهجير المزيد من الفلسطينيين إلى البلاد واستمرار الوصاية على الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس) وأن تؤخذ سيادتها على محمل الجد، خاصة في وقت ينظر فيه الكثيرون في المنطقة إلى السياسة الغربية على أنها أحادية الجانب أو قائمة على الصفقات.
إن ما يطلبه الأردن حقًا هو منظور سياسي مختلف عن الدول الأخرى في المنطقة، منظور يأخذ في الحسبان الضغوط المحددة التي يواجهها الأردن في الداخل ومن جيرانه على حد سواء، فهو يريد أن تعكس المشاركة الأمريكية عدم التماثل في المخاطر التي يواجهها في محاولته الحفاظ على نظام إقليمي هش، وفي لحظة قد تكون فيها السرديات قوية كقوة الصواريخ، فإن الاتساق – في كل من السياسة والمبدأ – أمر مهم.
إن المخاطر أكبر من أمن الأردن وحده، فمع استمرار حرب غزة، تُواجه الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة خطر الانهيار – ليس بفعل الثورات، بل بفعل انعدام أهميتها – فعندما تُقاس الشرعية بالقيم المقدسة، وينظر إلى الحكومات باعتبارها ضعيفة من الجانب الأخلاقي، تتآكل السلطة من الداخل ببطء، ولكن بصورة حاسمة.
ربما أحبطت اعتقالات أبريل/ نيسان مؤامرة، لكنها لم تحل الأزمة الأعمق: الفجوة المتزايدة بين ما تستطيع الدول السيطرة عليه وما تطالب به شعوبها الآن، ومع تحوّل التحالفات، لا يقف الأردن بين القوى فحسب، بل بين السرديات أيضًا. فإذا استمرت الحرب في غزة، واستمرت مقاومتها تُعرّف خارج أطر الدولة، حيث تُملى الشرعية وفقًا للظروف الآنية لا وفقًا للاستراتيجية، فإن الصيغ القديمة لن تستمر في الصمود. إن مهمة الأردن لا تقتصر على منع التصعيد فحسب، بل الحفاظ على مصداقيته في عالم تنزلق فيه المصداقية من أيدي الحكومات نحو خيال من يدّعون النضال من أجل مقدس.
إن المخاطر التي يفرضها هذا الواقع حقيقية. ففي مشهد يتسم بالتراخي الذي طال أمده والإحساس العميق بالعجز الفردي، لم يعد بإمكان الحدود الوطنية احتواء الإحباط. ومع اشتداد الغضب الأخلاقي، تزداد احتمالات العنف، وقد تنجح أجهزة الاستخبارات في جميع أنحاء المنطقة في اعتراض المؤامرات، لكنها ستعمل في بيئة تتطور فيها الجهات الفاعلة والأهداف على حد سواء. إن ما يظهر الآن ليس مجرد تهديد ضد إسرائيل – بل ضد أي شخص يُنظر إليه على أنه يتواطئ أو يمكّن العنف في غزة – إن حدود ساحة المعركة آخذة في التوسع، ومعها تتسع تكلفة الصمت الواضح.
المصدر: نيو لاينز