بين المجزرة والتسوّق: نخب رام الله تحتفل وغزة تحترق

ترجمة وتحرير: نون بوست
في 12 إبريل/ نيسان، تم افتتاح مركز تسوق جديد في رام الله تحت اسم “آيكون”/ “أيقونة” – وهو اختيار متعمد لا بغرض إلى التسمية فحسب، بل بغرض تكريس وتأطير ما هو مثالي على أنه مقدس.
شهد الافتتاح عرضًا فنيًّا ضخمًا: رقصات مُصمّمة، وموسيقى احتفالية، وحشدٌ جماهيريٌّ، وحفل قصّ شريط الافتتاح حضره مسؤولون ونخب فلسطينية، كان مشهدًا جماليًا من البهاء والفخامة، وعرضًا مُرتّبًا بعناية للحياة الطبيعية، ولكن مع تداول صور ومقاطع فيديو للحدث على الإنترنت، اصطدمت هذه الصور بواقع المجزرة المستمرة في غزة، واندلعت على وسائل التواصل الاجتماعي – وخاصةً من قِبل سكان غزة والفلسطينيين في كل مكان – موجة من الغضب والحزن والاستنكار، كيف يُمكنكم الرقص بينما لا تزال الجثث تُنتشل من تحت الأنقاض؟ كيف يُمكن لمثل هذا العرض أن يُقام في وقت تُمحى فيه عائلات بأكملها يوميًا؟
لم تُقدّم إدارة المركز التجاري أي اعتذار أو تفسير رسمي، وبدلًا من ذلك، كان هناك صمتٌ مدروس، أو ما هو الأسوأ من ذلك: رسالةٌ ضمنيةٌ مفادها أنه لا داعي للاعتذار.
في رفض الاعتراف بالتنافر، تبدأ حالةٌ وجدانيةٌ أعمق في الظهور: ليست مجرد لامبالاة، بل وقاحةٌ – إنكارٌ كاملٌ للحظة السياسية لدرجة أنه حتى الإبادة الجماعية لا تستطيع وقف إيقاع رغبة المستهلك – هذا ليس مجرد افتتاح لفضاء تجاري؛ بل هو عرضٌ لطقوسٍ جديدةٍ وتقديسٌ لنموذج السلعة كموضوعٍ مركزي للعبادة المعاصرة عند الطبقة المتوسطة الفلسطينية.
يقع المركز التجاري على طول الطريق المؤدي إلى جامعة بيرزيت، التي كانت في يوم من الأيام مؤسسةً نموذجيةً للتعليم العالي، والتي خُيّلت في ثمانينيات القرن الماضي كفضاءٍ لإنتاج الوعي القومي والتأمل في العالم: إقصاءاته، وعنفه، وحدوده.
إن حقيقة أن الطريق إلى هذا الموقع تصطف على جانبيه الآن معابد الاستهلاك ليس مصادفةً، بل هو أمر نموذجي؛ فقد كان الطريق في يوم من الأيام موقعًا لشعار الصمود القديم – مقاومة الحاجز والوصول إلى الجامعة كبادرة صمود في وجه الجهاز الذي سعى إلى منع ذلك في ذروة الانتفاضة الثانية، والآن، وفي انقلابٍ شبه كامل، أصبح عالم الشباب المشبع بحتمية التراكم، هو الذي أعاد رسم الجامعة ليس كوجهةٍ بل كنقطةِ انقطاع، استراحةٌ بين نوبات العمل أو نزهاتٍ في المركز التجاري، لم تعد الجامعة مكانًا للفكر، بل محطة مؤقتةٍ ضمن طقوس الحركة الجديدة.
ما الخلل في هذا المعبد الاستهلاكي؟ لا شيء في الحقيقة، إنه كغيره من الأشياء التي شهدها العالم، يصل إلى فلسطين متأخرًا كالعادة، شيء مُستعار ومُكرر، حداثته مجرد حداثة سطحية. إن ما يبدو تقدمًا هو في الحقيقة مجرد تقليد لنموذج مُستهلك في مكان آخر، إن ما نتلقاه ليس المستقبل، بل نسخة مُتأخرة من ماضي شخص آخر.
ومع ذلك، فإنه كغيره من الأشياء المتداولة هنا – مُقلّدة أو مُحاكاة أو مُستهلكة – فإنه لا يصلنا أيضًا كشيء متطفل، إنه يحمل في طياته شعورًا بشيء غريب، يكاد يكون في غير محله، فهو لا يبدو مجرد رمز للتشابه العالمي، بل كرمز للاستسلام الهادئ لحاضرٍ مشوب بالكوارث والخسارة، أو كنوع من التصالح مع شيء لم يكن ينبغي القبول أبدًا.
ربما تكون هذه هي المفارقة – أو المأساة الهادئة، أو شبه الكوميدية – في التواجد في مركز تجاري والتنقل بين طقوسه: التدفق المنسق لخطوات الأقدام، والرقصات الاستهلاكية، والابتسامات الزائفة على واجهات المتاجر، وحتى الابتسامات الحقيقية التي تُرحب بالزبون الجديد، يستمر كل هذا بينما يكافح الآباء في غزة لإطعام أطفالهم، مجتمعين معًا على أمل ألا يُتركوا وحدهم إذا مزقت قنبلة الخيام وما تبقى من حجارة.
هذا هو أيضًا السؤال الذي ملأ الفضاءات الاجتماعية في زمن الإبادة الجماعية، إنها الغمغمة التي تتخلل الأحاديث والخيط المسكوت عنه الذي يربط الفلسطينيين خارج غزة، في لحظة رسّخت فيها إسرائيل الانفصال الفلسطيني، المادي والزمني على حد سواء، تشتّت الفلسطينيون في ظروف مختلفة تمامًا لدرجة أنهم باتوا يدندنون نفس أغاني فلسطين بينما يعيشون في عوالم منفصلة تمامًا.
لكن هذه الدندنة، مهما كانت صادقة، تصبح جوفاء عندما تسقط القنابل وتنكشف حدود المشاركة السياسية. كيف ينجو المرء من إبادة جماعية عندما لا يقع في مرمى نيرانها المباشرة؟ الإجابة بسيطة وباردة ودقيقة بشكل مؤلم: تنجو بالتظاهر بعدم حدوث شيء، أو بمعرفة ما يحدث، مع الإصرار بأنه لا يحدث.
الخجل والوقاحة
منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، انخرط الفلسطينيون في الضفة الغربية في تخطيط سيناريو هادئٍ وغير معلنٍ في كثيرٍ من الأحيان، فالعالم يتغير من حولهم: نقاط التفتيش تتكاثر، والجنود يزدادون قسوةً ووحشيةً وساديةً؛ المستوطنون يزدادون عددًا وجرأةً وابتهاجًا في عنفهم، ومجازر غزة اليومية هي تذكير دائم بما هو ممكن هنا، وفي جميع أنحاء مجتمعات الضفة الغربية المتفرقة جغرافيًا.
ليس من المستغرب إذن أن نسمع شخصين يلتقيان ويتبادلان النكات حول المكان الذي سيعيشان فيه في أعقاب نكبةٍ أخرى، أو أن نسمع آخرين يُعلنون، بصوتٍ عالٍ ومتحدٍّ، أنهم لن يغادروا، حتى أن معتز عزايزة يُسوّق الآن للفلسطينيين الأثرياء خيار الحصول على جواز سفر ثانٍ من خلال برامج الاستثمار في دول جزر الكاريبي.
أصبح الشلل السياسي – وعدم القدرة على الاستجابة السياسية – السمةَ المُميزة للحياة، حتى في الوقت الذي تشهد فيه الضفة الغربية تكثيفًا سريعًا وعنيفًا للاستعمار؛ فقد هُجِّر عشرات الآلاف من الناس، وتم ضم الأراضي، والمستقبل مهدد، ولا تزال محاولات الحفاظ على الوضع الراهن مستمرة، في الوقت نفسه، تظهر إعلانات المستوطنين على الشاشات واللوحات الإعلانية، مُعلِنةً للفلسطينيين: “لا مستقبل في فلسطين”.
يتغير الناس في هذا المشهد، ليس فقط بانعزالهم عن العالم خلف الأبواب المغلقة، بل أيضًا بانغماسهم في حالة من عدم اليقين حول ما سيأتي بعد ذلك. علاوة على ذلك، لم يعد من لا يخجلون يعتذرون، ومن يشعرون بالخجل يتصرفون كما لو كان الخجل نفسه هو الشكل الوحيد المتبقي للمشاركة السياسية، وبهذا لا تدور رحى الحرب على أرض الواقع فحسب، بل أيضًا بين التصرفات الوجدانية – بين من لا يخجلون ومن يشعرون بالخجل.
ليس من المستغرب أن يبدأ بعض أولئك الذين يحاولون العيش بهذا الخجل في تسليحه – كما لو أنه شكل من أشكال الخلاص، وطقس من طقوس تطهير الذات، بينما يركن البعض الآخر إلى الصمت، منكسرين تحت وطأة شدة هذا التحول، والفشل في المقاومة، والانسحاب خلف الأبواب المغلقة. وفي الوقت نفسه، يتبنى الغارقون في الوقاحة موقفًا أكثر تشددًا: معاداة المقاومة، ولوم الذات إلى حد الانقلاب الأخلاقي، والدعوة إلى الاستسلام وكأنه الخلاص، ودعم السلطة الفلسطينية وكأنها الملاذ الأخير للنظام، وخلط المقدس بالمدنس في بحث يائس عن شرعية سياسية.
في أعقاب النكبة، انغمس العديد من الفلسطينيين الذين شعروا بعار التهجير القسري في هذا العار، ولاموا أنفسهم على فشلهم في الدفاع والتنظيم والقتال – واتخذوا الصمت كشكل من أشكال الحداد وعقاب الذات. أما اليوم، فقد تبدلت الأدوار؛ فقد أصبح العار الآن وسيلة للشعور بالانسجام مع المجزرة، والبقاء متأثرين ومتورطين – لكن الأمر يظل يدور في حلقة مفرغة. في هذه الأثناء، لا يشعر الوقحون بالحاجة إلى التصرف، لأن الخضوع بالنسبة لهم هو الحل الوحيد، ملقين باللوم على من يرفض الخضوع.
وهذا أيضًا يتشكل من خلال أصوات الأصدقاء والأحباء في غزة – أو من غزة – الذين يتحدثون في عدم تصديقهم للصمت والسكون والعجز الذي يعيشه إخوانهم الفلسطينيون. يتم دفع ثمن الحرب من أجل التحرير في جغرافيا ما، بينما يرقص الناس في جغرافيا أخرى على إيقاعات العلامات التجارية الجديدة. أو على الأقل هكذا يبدو الأمر.
لم يكن مفاجئًا إذًا أن نرى محافِظة رام الله والبيرة مدعوة لقص الشريط – ليقوم بتلك القصة الاحتفالية التي لا تدشن للمبنى فحسب، بل للرغبة في المزيد: في الجديد والأنيق والعصري، ليس فقط كمظهر من مظاهر اللامبالاة البيروقراطية، ولا كبادرة تؤكد حضور السلطة الفلسطينية، بل أيضًا كوسيلة لإثارة التنافر البصري.
قليلة هي الأشياء التي تخدم البنية الأيديولوجية للسلطة الفلسطينية كهذه الصورة: صورة المجزرة في غزة، التي يتكشف فيها عالم المقاومة، في مقابل صورة المتسوقين الذين يتجولون في مركز تجاري في رام الله. واقع منقسم على الشاشة، حيث لم تعد تُقاس السيادة بالتحرير، بل بوهم الحياة الطبيعية – بالقدرة على الاستهلاك، والإدارة، والحفاظ على الهدوء.
يمكن للمرء أن يتكهن بأن صور غزة والضفة الغربية ستلتقي في المستقبل القريب، وأن أولئك الذين تشبثوا بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، والذين لم يخجلوا من سعيهم إلى التعاون، لن يجدوا مأوى في العمارة التي ساعدوا في بنائها. لكن في الوقت الراهن، تبقى الصورة المنقسمة على نفسها قائمة: الرقص الإيقاعي على نموذج السلعة من جهة، والمذبحة المستمرة بلا هوادة من جهة أخرى، صورة انفصام لا تسعى السلطة الفلسطينية من خلالها إلى إضعاف العزيمة الأخلاقية والرمزية في غزة فحسب، بل إلى تأكيد عقيدتها الخاصة في البقاء: نمط حكم يقايض الحرية برأس المال، والتضحية بالعروض الرديئة والفارغة، والسيادة بالمحو الذات.
التشهير كفعل سياسي
لقد قيل الكثير عن إصرار الفلسطينيين على توثيق المجازر التي ترتكب بحقهم – بنشر لقطات لصحفي يحرق حيًا، أو مسعف يصور استشهاده بعد أن نصب له الجنود الإسرائيليون كمينًا – إن هذه الأعمال التوثيقية – أي توجيه العدسة نحو الموت نفسه – ليست مجرد أرشيف، بل مرآة أخلاقية موجهة إلى عالم يسمح، بل ويدعم، المجازر بحق عشرات الآلاف، ولعلها أيضًا وسيلة لكسر التواطؤ الإعلامي الغربي واستعداده لتصديق ادعاءات إسرائيل وإخفاء جرائمها.
وهي أيضًا عمل من أعمال المقاومة بالسردية، وتأكيد على الفاعلية في مواجهة المحو، ولعلها، قبل كل شيء، محاولات للتشهير، لفضح تواطؤ العالم ليس فقط في العنف، بل في صمته أيضًا.
لكن هذا التشهير ليس موجهًا فقط للأوروبيين أو الأمريكيين أو صانعي السياسات وقادة المؤسسات، إنه يخاطب العرب والأمة الإسلامية والفلسطينيين الآخرين في المقام الأول، إنها صرخة تتخطى الحدود، لل للتوسل بل للمواجهة، ولمعرفة السبب وراء اختيار الكثيرين يختارون التغاضي عن الحقيقة في مواجهة وضوح لا لبس فيه.
لطالما كان التشهير أداةً سياسيةً في التاريخ الفلسطيني، أداةً لا تُستخدم فقط ضدّ من يضطهد الفلسطينيين من خارجهم، بل أيضًا ضدّ إخفاقات مَن يدّعون القرب أو التضامن أو القرابة. يكفي أن نتذكر حرق المسجد الأقصى عام 1969، عندما أشعل متطرف صهيوني النار في أحد أقدس المواقع الإسلامية. لم تُثر هذه النيران غضبًا فحسب، بل أشعلت أيضًا موجةً من الشعور بالخزي في جميع أنحاء العالم العربي، وكان هذا الحدث دافعًا لإنشاء منظمة التعاون الإسلامي، وهي بادرةٌ مؤسسيةٌ وُلدت، في جزءٍ كبيرٍ منها، من رحم الشعور بالحرج، والحاجة إلى الظهور بمظهر المُستجيب، والتصرف في أعقاب التعرض للإذلال.
ولكن ماذا أنتج هذا الشعور بالخزي؟ قمة، وبيان، وطبقةٌ أخرى من البناء الرمزي التي تُضاف إلى واقعٍ محطم. يُمكن للمرء أيضًا أن يُلاحظ أن جزءًا كبيرًا من استراتيجية مُناهضة التطبيع – خاصةً في أشكالها المعاصرة – مدفوعة بالشعور بالخزي، أو الخوف من الفضيحة أو ما لا يُغتفر اجتماعيًا. إن الحركات مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات تتمحور – جزئيا – حول هذا السجل العاطفي.
شكّل هذا الشعور بالخزي أيضًا جغرافيا الحياة السياسية الحميمة: بين الرفاق في السجن، وبين الدوائر المترابطة حيث يتجرأ صديق أو رفيق على ذكر أسماء أولئك الذين عملوا معًا في المقاومة ذات يوم. هناك أيضًا، يعمل الشعور الخزي، لا كعاطفة مجردة، بل كأسلوب تأديبي ووسيلة لرسم حدود ما يجب أن يبقى مسكوتًا عنه. ولكن هذا الشعور بالخزي، قبل كل شيء، هو استعداد للتسامح، ولكنه مشروط بمحاسبة النفس. إذا كنت لا تستطيع النظر في عيني الآن، فربما ننظر في عيون بعضنا البعض قريبًا.
يبقى الشعور بالخزي أداة سياسية قوية، إنه يراهن على أن اختراق اللامبالاة، من خلال تسمية ما يرغب الآخرون في إخفائه، قد يفرض قرارًا، لن يُحدث بالضرورة تحولًا، أو يحقق دائمًا العدالة، ولكنه على الأقل سيحدث شرخًا في السطح الأملس للصمت والتواطؤ وللادعاء بأن شيئًا لم يحدث.
لا يوجه الفلسطينيون اليوم خجلهم نحو الأعلى فحسب، بل تتدرب على التضامن لكنها تمارس التهرب، ونحو حركات المقاومة التي تخلت عن النضال، ونحو شعوب دول الجوار التي لا تزال حدودها مغلقة بينما غزة تحترق؛ حيث لا يدخل الغذاء ولا الدواء، ولا تستقبل المستشفيات الجرحى، إنه عالم يسعى إلى التخلي عن غزة وتركها وحدها. أليس هذا أيضًا جوهر اعتقال الطلاب في مختلف الجامعات الأمريكية، وكأنه يقول “كيف تجرؤون على التحدث أو تعطيل الحياة نيابة عن غزة؟ كيف تجرؤون على فضح الإمبراطورية؟”
لكن شيئًا ما قد تغير، فالعار اليوم يتحرك داخل بنية تحتية أيديولوجية أكثر تعقيدًا بكثير داخل فلسطين – بنية نجحت في تحويله إلى أداة تستخدم للإخضاع، وليس للمحاسبة الأخلاقية فقط. وفي انقلاب قاسٍ، يُعاد توجيه العار الآن إلى أكتاف أولئك الذين اختاروا القتال وتجرأوا على الفعل؛ حيث أصبح فعل المقاومة موضع توبيخ ومصدر لوم، إن أولئك الذين قاوموا الإبادة هم أنفسهم الذين يُجبرون على تحمل وطأة العواقب، كما لو كان رفضهم الخضوع هو الخطيئة الأصلية.
“إنهم [أي المقاومة] قرروا، إذًا هم الملامون” هكذا يقول الشعار، يدور هذا الشعر بهدوء، وأحيانًا بغير وعي، بين أولئك الذين لا يستطيعون التوفيق بين وضوح الفعل، ورفض الانتظار، والجرأة على الخروج عن النص. ربما يكون من الأسهل إلقاء اللوم على الآخرين من مواجهة العجز الذاتي؛ فمن الأسهل أن نلقي اللوم على القرار بدلًا من أن نأخذ بعين الاعتبار ما يكشفه ــ الفراغ الذي تشهده الحياة في العديد من أجزاء الضفة الغربية في ظل غياب القدرة على المقاومة.
بالنسبة للكثيرين، فإن السؤال عن السبب الذي يجعل المرء يخجل من نفسه، أو لماذا يجب أن يشعر بألم العجز، أو يواجه جوهر صدمة الاستكانة، أو يحسب حسابًا للطبقات المترسبة من عدم الثقة، هو سؤال ثقيل جدًا ومزعزع للاستقرار، لذا فإنه من الأسهل التهرب من هذه الأسئلة، واختزالها في أشكال من السخرية أو الاستسلام، بدلاً من مواجهتها مباشرة.
وهنا تحديدًا تبرز الرغبة الخفية في الوقاحة كهدف جديد: الوقاحة في السجل الوجداني، توق إلى عدم الشعور بأي شيء، وعدم التعرض للانهيار الداخلي الذي يصاحب مواجهة التواطؤ أو الخوف أو الخيانة.
في هذه الحالة، يَعِدُنا وهمُ الوقاحة بالراحة: نسيان الذات وانفصالٌ مُريحٌ عن حميمية الفشل السياسي التي لا تُطاق. لكن هذا الوهم أيضًا فخٌّ؛ فخٌ يُبدِّلُ انزعاجَ التأملِ براحةِ الخدر، وبذلك يُضيِّقُ الطريقَ أمامَ إمكانيةِ التحوّلِ الأخلاقي، وبالتالي إمكانية التعبئةِ السياسية.
بعبارةٍ أخرى، يُجيزُ هذا الوهمُ وقاحةَ العملِ كالمعتاد، وقطعَ شرائطِ الافتتاحِ في رامِ الله، والترحيبَ البهيجَ بالعلاماتِ التجارية، والقهوة المبالغ في سعرها، إنه يسمح بإعادةَ صياغةِ السلطةِ الفلسطينيةِ كنظامٍ مُتواطئٍ وقح، نظامٍ لم يَعُدْ يتظاهرُ حتى بأنه ليس كذلك.
مع ذلك، يبقى عار العجز عن العمل، والصمت، وانعدام إرادة الفعل، هو حجر الزاوية في المخطوطة الخفية للحياة في الضفة الغربية، وقد ذكّرني صديق من جنين مؤخرًا بأن هناك أفعالًا صغيرة آخذة في الظهور، و كلمات جديدة تتشكل، ولعلّ أكثرها جاذبيةً عبارة “عزيز النفس”.
إن هذا المصطلح لا يثير الكبرياء فحسب – فهو يدل على النفس والأنا، والروح في آنٍ واحد، وفي جذر كلمة “نفس”، والتي تترجم غالبًا إلى “الروح” أو “النفس”، ولكنها تعني في جذرها “النَفَس” – مما يفتح المجال للتشابك الوثيق بين الميتافيزيقي والمادي: التنفس كقوة حياة والروح كوجود.
أن تكون عزيز النفس يعني أن تحمل نفسك بكرامة هادئة، وأن ترفض الذل أو التبعية حتى في مواجهة الدمار، إن كلمة “عزيز” في اللغة العربية تعني القوة والعزة والأنفة؛ أما “النفس” فتشير إلى الذات، والروح، والتنفس، إنها موقع للصراع الأخلاقي والوجودي.
تصف هذه العبارة مجتمعةً الشخص الذي يحافظ على كرامته عندما ينهار كل شيء آخر، والذي يرفض الاستجداء أو أداء دور الضحية، والذي بمجرد وقوفه برباطة جأش، يفتح أفقًا مختلفًا من الإمكانية السياسية.
هذه ليست سياسة استعراضية، ولا صمت الهزيمة، بل هي موقف ثالث: صمود مبدئي لا يستسلم للعار القومي ولا للوقاحة النيوليبرالية. إنه رفض استسلام الروح للامتهان، حتى عندما تصبح الكرامة نفسها مستحيلة بنيويًا. في هذا، يقدّم “عزيز النفس” صورةً مضادةً للمستهلك غير المسيّس الذي يتجوّل في أروقة آيكون مول“ في رام الله، تلك الشخصيةٌ المشوشةٌ بخيال الحياة الطبيعية، كما أنه لا يسعى إلى التنصّل من الانهيار، ولا التغلب عليه عبر ادعاءات الحياة الطبيعية.
تحدث صديقي في جنين عن شاب أجبر على مغادرة منزله في المخيم، ولا يزال يرتدي ملابسه الشتوية رغم قدوم حرارة الصيف. أما ملابسه الأخرى، الأخف وزنًا والأكثر ملاءمةً للفصل، فقد دُفنت تحت أنقاض منزله في المخيم. ويتحدث أيضًا عن عائلات تحاول التسلل عائدةً إلى المخيم تحت جنح الليل، لا لاستعادة المأوى فحسب، بل لاستعادة الوجود أيضًا، رافضين الهروب أو لوم أنفسهم، ورافضين لجاذبية الاستسلام المغرية. يتحدث عن الانهيار والإصرار المتشابكين معًا في شخصية ترفض طلب ملابس الصيف، ومع ذلك تُصرّ.
أخبرني صديقي في جنين عن شاب أجبر على ترك منزله في المخيم، ولا يزال يرتدي ملابسه الشتوية رغم قدوم حرارة الصيف. أما ملابسه الأخرى الأخف وزنًا والأكثر ملاءمة للفصل فهي مدفونة تحت أنقاض ما كان منزله في المخيم. تتحدث أيضًا عن العائلات التي تحاول التسلل مرة أخرى إلى المخيم تحت جنح الليل لاستعادة ليس فقط المأوى بل والحضور، رافضةً التنصل أو لوم نفسها، ورافضةً الجاذبية المغرية للاستسلام. تتحدث عن كل من الانهيار والإصرار المتشابكين معًا من خلال شخصية ترفض طلب ملابس الصيف، ومع ذلك تستمر في الصمود.
المصدر: موندويس