“تجريم الأسدية” والعدالة الانتقالية: نصوص دستورية معلّقة بانتظار التشريع

خلال الأيام الماضية، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي السورية موجة واسعة من الجدل، على خلفية لقاءات جمعت مسؤولين في الحكومة السورية بعدد من الشخصيات التي كانت على صلة وثيقة بنظام الأسد البائد خلال سنوات القمع، وهو ما أثار سخطًا شعبيًا واسعًا، خاصة في ظل غياب إجراءات واضحة لمحاسبة المتورطين في الجرائم أو تحييدهم عن المشهد العام.
أبرز هذه اللقاءات، ظهور وزير الثقافة محمد الصالح في مضافة الشيخ فرحان المرسومي، شيخ عشيرة المراسمة، والذي ارتبط اسمه بنشاطات تتعلق بتجارة السلاح والمخدرات تحت غطاء من الفرقة الرابعة، إضافة إلى دوره في تسهيل عمليات تجنيد لصالح ميليشيا “الحرس الثوري الإيراني” في دير الزور.
ورغم اعتذار الوزير لاحقًا عبر حسابه في منصة “إكس”، إلا أن صور اللقاء أثارت موجة من الانتقادات، خصوصًا بعد تداول صور له مع شخصيات أخرى مثل عمر عموري، أحد المقربين من ميليشيا القاطرجي، وفاضل بلوي، مالك شركة الفاضل للصرافة والمدرجة على لوائح العقوبات الأميركية بتهمة تمويل حزب الله اللبناني.
لقاءات مشابهة سبقت هذا الظهور، جمعت مسؤولين حكوميين بشخصيات قضائية وأمنية سابقة كان لها دور مؤثر ضمن أجهزة النظام القمعية، من بينها لقاء جميع بين وزير العدل مظهر الويس والقاضي عمار بلال، رئيس النيابة العامة لمحكمة قضايا الإرهاب سابقًا، والمتهم بإصدار مئات التهم الجائرة التي أدت إلى إعدامات بحق معتقلين سوريين، وقد أحيل اسمه لاحقًا للتفتيش القضائي ضمن ملفات محكمة الإرهاب.
هذه الوقائع تطرح علامات استفهام كبيرة، لا سيما أنها تأتي في وقت ينص فيه الإعلان الدستوري بوضوح على تجريم تمجيد نظام الأسد، وإنكار أو تبرير جرائمه، وعلى إحداث هيئة عدالة انتقالية تُعنى بمحاسبة كل من تورط في الانتهاكات، سواء بالفعل أو التسهيل أو التبرير.
فهل غياب الخطوات الجدية لتطبيق هذه البنود الدستورية ناتج عن عوائق قانونية وتشريعية، أم عن تردد سياسي في مواجهة إرث النظام البائد بشكل حاسم؟
فراغ تشريعي
تعكس اللقاءات التي جمعت مسؤولين حكوميين بشخصيات ذات صلة سابقة بنظام الأسد البائد، مسارًا يتعارض مع ما نص عليه الإعلان الدستوري في المرحلة الانتقالية، والذي شدد على ضرورة تجريم “الأسدية” كممارسة ومنهج، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، كلٌ حسب دوره، كجزء أساسي من مشروع العدالة الانتقالية، الذي تعهدت الحكومة السورية الجديدة بتبنيه لضمان الاستقرار وبناء الثقة.
وكان نظام الأسد البائد اعتمد لعقود على شبكة من الشخصيات النافذة، ممن استفادوا من سلطته السياسية والأمنية والاقتصادية، ولعبوا أدوارًا متعددة ساعدته في تثبيت حكمه وقمع معارضيه طوال 13 عامًا حتى سقوطه في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ووفقًا للمحامي والحقوقي عارف الشعال، فإنه “يمكن تحديد أركان النظام البائد الذين شاركوا في القول والفعل بقمع الثورة والثوار، وإصدار قوانين العزل المدني أو السياسي، لكن ذلك يحتاج إلى وجود سلطة تشريعية”.
وأضاف الشعال لـ”نون بوست”: “إذا لم يكن هناك قانون فالخيارات أمام الإدارة في اتخاذ اجراءات حقيقية ضد هؤلاء محدودة، ومسألة التوقيف تحتاج إلى إجراء من النيابة العامة يستند على وجود أدلة تدينه، بينما في مسألة قضاة محكمة الإرهاب يمكن مساءلة القضاة مسلكيًا وجزائيًا لكن وزارة العدل قصرت في ذلك”.
وبحسب تصنيف قانوني أولي، يمكن تقسيم الشخصيات الداعمة للنظام السابق إلى فئتين رئيسيتين: الأولى، تشمل من شارك فعليًا في عمليات القمع أو القتال، من عناصر وضباط في الأجهزة الأمنية والجيش، إضافة إلى قادة الميليشيات الرديفة مثل “الشبيحة”، “الدفاع الوطني”، والميليشيات العشائرية واللجان الشعبية.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو 16 ألفًا و200 شخصًا متورطًا في القتال إلى جانب النظام البائد، 6 آلاف و724 منهم من القوات الرسمية (الجيش، أجهزة الأمن) و9 آلاف و476 شخصًا من القوات الرديفة.
كما يشمل المشاركة بالفعل، العاملين الإداريين والقضائيين، الذين نشطوا في إصدار التهم بحق السوريين، والملاحقات القضائية التي تسببت في اعتقال الآلاف، إضافةً إلى الشخصيات التجارية (رجال الاعمال) الذين ساندوا نظام الأسد عبر توفير دعم اقتصادي لقواته وتمويل ميليشيات في إطار الالتفاف على العقوبات.
أما الفئة الثانية، فتضم من قدموا دعمًا سياسيًا أو إعلاميًا أو ماليًا للنظام، دون الانخراط المباشر في الأفعال الإجرامية، وتشمل هذه الفئة شخصيات حكومية ضمن أجهزة الدولة، والشخصيات العامة، الفنانين، والإعلاميين، ورجال الدين، مفتي الجمهورية، وشيوخ العشائر.
ويضع تأخر الحكومة السورية الجديدة في إصدار القوانين والتشريعات اللازمة لتفعيل المواد الدستورية المتعلقة بالعدالة الانتقالية، حقوق الضحايا وذويهم في مهب الضياع. فمع غياب الأطر القانونية الواضحة، يجد السوريون أنفسهم أمام مشهد مؤلم يتكرّر فيه ظهور شخصيات مرتبطة بالانتهاكات، وهي تُكرّم أو تُعامل كأفراد طبيعيين في الحياة العامة، دون أي مساءلة عن الجرائم التي ساهمت في تحويل حياة آلاف الأسر إلى مأساة مستمرة.
ويرى الباحث والحقوقي، فراس حاج يحيى، أن تفعيل قانون “تجريم الأسدية” يعد ركيزة أساسية لأي مشروع حقيقي للعدالة الانتقالية، إذ لا يمكن بناء دولة قانون ومؤسسات في ظل غياب المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: إن القانون لا يهدف إلى الانتقام، بل إلى ضمان عدم تكرار الجرائم، وإرساء مبدأ المحاسبة، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة”.
وأضاف: أن “ملاحقة المجرمين وتحييدهم عن الفضاء العام (السياسة، الإدارة، الإعلام) يُسهم في خلق بيئة سياسية واجتماعية مستقرة، ويمنع تمكين نفس الأدوات والشخصيات التي ارتكبت الجرائم من إعادة إنتاج الاستبداد، كما يعزز الإنصاف لذوي الضحايا، ويحفظ الذاكرة الجماعية، ويبعث برسالة واضحة مفادها أن حقوق الإنسان وكرامة المواطن هي خطوط حمراء في الدولة الجديدة”.
مفاتيح العدالة
يمثل قانون “تجريم الأسدية” إحدى الركائز الأساسية لبناء مسار عدالة انتقالية حقيقي في سوريا. ومن دون إصدار القوانين التشريعية المكمّلة لهذا النص الدستوري، يبقى الحديث عن المحاسبة وحماية الحقوق مجرد إعلان نوايا. فإقرار هذا القانون، وخاصة في جزئية تجريم إنكار جرائم نظام الأسد، هو الخطوة الأولى التي تُمهد لبناء آليات فعالة لكشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات.
ويرى الباحث الحقوقي، فراس حاج يحيى، أن تحييد المتورطين في جرائم النظام لا يمكن أن يتم إلا عبر نهج متكامل يجمع بين التشريع، وبناء مؤسسات مستقلة، وإرادة سياسية حاسمة.
هذا النهج يبدأ من المادة الدستورية التي تجرّم “الأسدية”، لكنه لا يكتمل دون صدور اللائحة التنفيذية من وزارة العدل، والتي يجب أن تتضمن بوضوح:
- تعريف “الأسدية” وتجريم تمجيد الأسد وانكار جرائمه والانتهاكات المشمولة بالتجريم.
- الجهات المخوّلة بتنفيذ القانون (محاكم، نيابات، لجان….)
- العقوبات والإجراءات اللازمة.
- مراحل التنفيذ، وآليات المراجعة والطعن.
وبحسب حاج يحيى، فإن صدور اللائحة يفتح الباب لتفعيل أدوات قانونية واسعة لتحييد المتورطين، أبرزها:
- المحاكمات الجنائية: إنشاء محاكم خاصة أو تفعيل المحاكم المختصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفق معايير العدالة الدولية.
- التدقيق الأمني والإداري: مراجعة شاملة للعاملين في أجهزة الدولة والقضاء والجيش والإعلام، بهدف استبعاد المتورطين.
- العزل السياسي: إصدار قوانين تمنع المتورطين من تولي المناصب العامة أو خوض العمل السياسي.
من جهتها، توضح الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن العدالة الانتقالية تقوم على أربعة أركان رئيسية: المحاسبة الجنائية، كشف الحقيقة والمصالحة، التعويض وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية.
وترى الشبكة أن الالتزام بهذا المسار ليس خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية لضمان الاستقرار، وقطع الطريق أمام عودة الاستبداد. كما تؤكد أن نجاح مشروع العدالة الانتقالية يتطلب تنسيقًا وتعاونًا بين الضحايا والناجين، ومؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني، والمجتمع الدولي، لأن أي طرف منفرد لا يستطيع إنجاز هذا التحول بمفرده.
لماذا تأخر صدور القوانين؟
أدى تأخر الحكومة السورية الجديدة في إصدار القوانين واللوائح التنفيذية الخاصة بالعدالة الانتقالية إلى تعطيل مباشر لتفعيل البنود الدستورية المتعلقة بتجريم “الأسدية” والعزل السياسي والاجتماعي للمتورطين في جرائم النظام السابق. هذا التعطيل وضع العديد من المسؤولين في مواقف حرجة، خاصة في ظل غياب إطار قانوني واضح يحدد كيفية التعامل مع رموز النظام البائد، سواء بقصد أو دون قصد.
ويرجع المحامي والحقوقي، عارف الشعال، أن “سبب تأخر إصدار القوانين الناظمة للعدالة الانتقالية وتجريم إنكار الأسدية يعود إلى عدم وجود سلطة تشريعية منذ سقوط نظام الأسد البائد حتى الآن، رغم أن الإعلان الدستوري نص على تشكيل مجلس للشعب وفق آلية معينة لكن الإدارة الحالية متباطئة في ذلك”.
بينما اعتبر الباحث فراس حاج يحيى، أن “غياب التفعيل الرسمي لقانون تجريم الأسدية وإنكار جرائمه، يعود إلى جملة أسباب سياسية وقانونية معقدة، تتمثل في غياب اللائحة التنفيذية الصادرة عن وزارة العدل التي تعد الوثيقة القانونية لتُفصّيل الآليات والإجراءات اللازمة لتطبيق المادة الدستورية”.
وأوضح أن النصوص الدستورية عادةً ما تضع المبادئ العامة، لكنها لا تكفي وحدها لتفعيل القانون على الأرض، وبالتالي، تظل المؤسسات القضائية والإدارية عاجزة عن أداء دورها بدون هذه اللائحة التي توضح كيفية التنفيذ، وتحدد العقوبات، وتعطي الصلاحيات للجهات المعنية.
وأشار إلى أن من الأسباب التي تمنع اتخاذ الإجراءات وجود عوائق إجرائية تتمثل في ضعف البنية المؤسسية اللازمة لتطبيق القانون، وتحديات سياسية داخلية تتعلق بعدم وجود توافق كامل على تفاصيله.
واعتبر أن الأولويات المرحلية في ظل الأوضاع الانتقالية قد تكون سببًا في تأخير تفعيل القانون، إذ تركز الحكومة الانتقالية أو الجهات المعنية على ملفات آنية كالأمن والاستقرار الاقتصادي قبل الانتقال إلى خطوات أكثر حساسية مثل المحاسبة والعدالة الانتقالية.
ختامًا.. ينتظر السوريون خطوات حكومية أكثر جدية تحقق العدالة الانتقالية وتحاسب المتورطين في دعم نظام الأسد بالقول والفعل لأكثر من 13 عامًا على التوالي، مما يساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي بين السوريين.