حملت الكلمة الأخيرة لقائد حركة “حماس” في قطاع غزة، ورئيس وفدها المفاوض، خليل الحية، ملامحَ مقارَبةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تسعى الحركة إلى طرحها أمام الوسطاء والمجتمع الدولي، في محاولة لإعادة بناء أرضية صالحة للنقاش بشأن مستقبل الحرب في قطاع غزة، على المستويين الإقليمي والدولي.
وفي ظل انسداد الأفق التفاوضي، وتصاعُد سقف الاشتراطات التعجيزية التي ظهرت بوضوح في العرض الإسرائيلي الأخير المنقول عبر الوسطاء، ومع استمرار استخدام الولايات المتحدة لصيغ فضفاضة تَمنح الاحتلالَ هامشَ مناورةٍ واسعًا للتنصل من أية التزامات محتملة؛ تتشكل معادلة شديدة التعقيد.
يقف المشهد اليوم أمام جدار تفاوضي صلب، في وقت يتواصل فيه الضغط الميداني والإنساني على قطاع غزة بأقسى أشكاله، عبر الضربات العسكرية المتكررة، والحصار، والتجويع، واستنزاف ما تبقَّى من مقومات الحياة.
أمام هذا الواقع، تجد المقاومةُ الفلسطينيةُ نفسَها أمام معضلة مركَّبة تبحث فيها عن تحقيق اختراق في المسار السياسي دون الوقوع في فخ التنازلات المجانية، وتسعى في الوقت ذاته إلى الامتناع عن ترك الساحة مفتوحة أمام التصعيد الإسرائيلي المتواصل.
هدنة مشروطة
مع العرض الأخير الذي حمله الوسطاء إلى حركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية، بات من الواضح أن الطرح الإسرائيلي يتجاوز أية صيغة مرنة يمكن البناء عليها لإنهاء العدوان على قطاع غزة.
ينص المقترح على وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 45 يومًا، تبدأ في خلاله سلسلة من الإجراءات المتبادلة، إذ تُفرج “حماس” في اليوم الثاني عن خمسة أسرى إسرائيليين أحياء، مقابل إفراج الاحتلال عن 66 أسيرًا فلسطينيًّا محكومين بالمؤبد و611 معتقلًا من قطاع غزة اعتُقِلوا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويُشترط، حسب المقترح، أن يُفرَج عن الأسرى الإسرائيليين دون أية مراسم علنية.
وفي اليوم السابع، تُفرِج المقاومةُ عن أربعة أسرى آخرين، مقابل 54 أسيرًا فلسطينيًّا محكومين بالمؤبد و500 معتقل. أما في اليوم العاشر، فتلتزم “حماس” بتقديم معلومات مفصلة حول حالة الأسرى الإسرائيليين المتبقِّين، ليأتي اليوم العشرون الذي يتضمن تسليم 16 جثة إسرائيلية، مقابل 160 جثمانًا لفلسطينيين من قطاع غزة.
أما على الصعيد العسكري، يقضي المقترَح بإعادة جيش الاحتلال انتشاره في اليوم الثاني إلى مواقعه السابقة بتاريخ 2 مارس/آذار في شمالي القطاع ورفح، على أن يُستَكمَل الانتشار لاحقًا إلى مناطق شرق شارع صلاح الدين، بعد استلام الأسرى في اليوم السابع.
بموازاة ذلك، يَطرح المقترَح بندًا أكثر حساسية يقضي ببدء مفاوضات سياسية وأمنية موسَّعة في اليوم الثالث من الهدنة، تتناول ملفات وقف إطلاق النار الدائم، وإعادة الانتشار العسكري الإسرائيلي، وترتيبات “اليوم التالي” للحرب، إضافةً إلى نزع سلاح حركة حماس، وضمان ألَّا تعود لحكم قطاع غزة، وهي شروط تمثِّل لبَّ الرؤية الإسرائيلية والأمريكية المشترَكة لمستقبل القطاع.
وتعكس تفاصيل المقترَح رغبةٌ إسرائيليةٌ واضحةٌ في استرداد أوراقها التفاوضية، لا سيما ملف الأسرى، دون دفع أي ثمن سياسي جوهري، سواءٌ على صعيد وقف العدوان أو رفع الحصار.
نتنياهو يرسم معادلة تأبيد الحرب
لم يكن بالإمكان عَدُّ اشتراطات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لوقف الحرب على قطاع غزة مجرد مواقف تفاوضية قابلة للتعديل، بل تُشكِّل في جوهرها وصفةً صريحةً لإدامة الحرب وتأبيد العدوان.
في تصريحاته نهاية مارس/آذار، حصر نتنياهو مناقشة المرحلة الثانية من الصفقة، والانتقال إلى ما بعد الحرب بشروط تعجيزية، تمثلت بخروج قادة حركة “حماس” من قطاع غزة، وتسليم السلاح، وفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القطاع، وتطبيق خطة التهجير “رؤية ترامب”.
بهذه المطالب، لا يكتفي نتنياهو بالمطالبة بالاستسلام الكامل من جانب المقاومة، بل يذهب أبعد من ذلك، نحو تجريد الشعب الفلسطيني من أية مقومات للوجود أو الإرادة، ضمن تسوية مفرغة من أي مضمون وطني أو إنساني. إذ تتجاوز هذه الشروط حتى الأهداف المُعلَنة للحرب، وتقف على الضد من كل منطق واقعي أو طرح سياسي، مهما بلغ مستوى التنازل فيه.
يدرك نتنياهو تمامًا أن هذا السقف العالي من المطالب لا يمكن قبوله من أي طرف فلسطيني، وهو ما يمنحه هامشًا واسعًا لإبقاء باب الحرب مفتوحًا. فداخليًّا، تُتيح له هذه المعادلة الحفاظ على تماسُك ائتلافه الحكومي، الذي يقوم على شراكة مع قوى يمينية متطرفة يتصدرها بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير، واللذَين يربطان استمرار دعمهما لنتنياهو بمواصلة الحرب حتى تحقيق “النصر المُطلق”.
أما استراتيجيًّا، فإن هذه الاشتراطات تُكرِّس من وجهة نظر نتنياهو مسارًا هجوميًّا طويل المدى، يسعى من خلاله إلى فرض واقع سياسي وأمني جديد في المنطقة، يُعيد رسم التوازنات بما يخدم المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط، تحت شعار “تغيير وجه المنطقة“.
ولم يكن إعلان نتنياهو عن هذه الشروط منفصلًا عن السياق التفاوضي، بل جاء قبيل طرح المقترح الإسرائيلي الأخير. إذ أراد نتنياهو أن يضمن مسبقًا أن المرونة التي أبدتها حركة “حماس” في ملف الأسرى، وتجاوزها التصلب في معادلة الأرقام ومفاتيح التبادل، لن تُترجَم إلى ضغط أمريكي مباشر عليه للقبول بالمقترَح، خاصةً أن من بين المفرَج عنهم في الدفعة الأولى الأسير الأمريكي – الإسرائيلي عيدان إلكسندر، ما من شأنه أن يُحرِج نتنياهو أمام البيت الأبيض ويزيد من الضغوط الدولية.
مقارَبات نزع السلاح: اشتراط تقويض الحق في المقاومة
تتقاطع المؤشرات السياسية والتسريبات الإعلامية حول نقطة مركزية تُهدِّد أيَّ تقدُّم في مسار التفاوض، وهي قضية سلاح المقاومة الفلسطينية، التي باتت شرطًا مُعلَنًا لوقف إطلاق النار الدائم، حسبما نقلته مصر عن المقترح الإسرائيلي الأخير.
وحسب مصدر قيادي في حركة “حماس” لوكالة “فرانس برس” فإن المقترَح الإسرائيلي “يتجاوز الخطوط الحمراء”، موضحًا أن أحد بنوده الأساسية يتمثل بنزع سلاح المقاومة بوصفه شرطًا ملزِمًا لوقف الحرب، وهو ما وصفه المصدر بأنه مطلَب مرفوض بالمطلَق، مشدِّدًا على أن “سلاح المقاومة خط أحمر”.
وفي السياق ذاته، أفادت مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” تربطان ملف إعادة إعمار قطاع غزة بمدى التزام فصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة “حماس”، بتفكيك بنيتها العسكرية، وهو ما يؤشر إلى تحوُّل هذا العنوان من مطلب إسرائيلي إلى شرط أمريكي – إسرائيلي مشترَك، يُقارِب بشكل حاسم ومباشر لا يقبل التأويل أو الصياغات المرنة.
وبهذا المعنى، يتحول الاشتراط بنزع السلاح إلى ما هو أبعد من مسألة تكتيكية مرتبطة بمسار تهدئة، ليغدو ضربةً في جوهر المشروع الوطني المقاوم، وضربًا لبنية كانت حتى وقت قريب بمثابة مقدَّس غير قابل للنقاش داخل أدبيات فصائل المقاومة الفلسطينية. وهذا ما يجعل من هذا العنوان عقبة كبرى أمام أية مفاوضات جدية، تُفضي إلى وقف العدوان، أو إلى مسارات تفتَح المجال لإعادة الإعمار ورفع الحصار.
وعلى الرغم من أن المقاومة، بطبيعة تسليحها الحالي، لا تملك من الإمكانيات ما يوازي “السلاح الثقيل” بمفهومه التقليدي وقد عبَّرت “حماس” عن ذلك بوضوح في رسائل نقلتها إلى الوسطاء، أكدت فيها أنها “لا تملك طائرات أو دبابات أو أسلحة ثقيلة، بل مجرد أسلحة فردية دفاعية”، إلا أن الموقف الإسرائيلي – الأميركي لا يناقش كمية أو نوعية الأسلحة، بل يستهدف المبدأ ذاته المتمثل بحق الفلسطينيين في امتلاك أدوات الدفاع والمواجهة.
غير أن جوهر النقاش لا يدور حول التسليح المادي فحسب، بل حول إخراج المقاومة من المعادلة الوطنية برمَّتها، بما يمهِّد الطريقَ لتنفيذ رؤية بنيامين نتنياهو الساعية في محصلتها إلى استكمال مشروع التهجير والتطهير العرقي الذي يستهدف الوجودَ الفلسطينيَّ برمَّته في قطاع غزة.
“الرزمة الشاملة”: سردية مقاومة متكاملة في مواجهة الانحياز الأمريكي
في خطابه الأخير، أعلن رئيس وفد “حماس” المفاوض، خليل الحية، أن الحركة مستعدة للشروع الفوري في مفاوضات “الرزمة الشاملة“، والتي تشمل إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين المحتجَزين في غزة، مقابل اتفاق يشمل وقفًا شاملًا للحرب وانسحابًا كاملًا للاحتلال من القطاع، إلى جانب الإفراج عن عدد متفَق عليه من الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال.
وشدَّد الحية على أن سلاح المقاومة ليس محل تفاوض، مؤكِّدًا أن السلاح “مرتبط بوجود الاحتلال، وهو حق طبيعي للشعب الفلسطيني”، كما رحَّب بتصريحات المبعوث الأمريكي لشؤون الأسرى، آدم بولر، التي دعا فيها إلى إنهاء ملف الأسرى والحرب في آنٍ واحد، عادًّا أن موقفه يتقاطع مع ما تطرحه “حماس”.
وفي قراءة لخطاب الحية، يتضح أن ما قدَّمته “حماس” يأتي ضمن محاولة جادة لخلق ثغرة تفاوضية في جدار الاستعصاء السياسي القائم، بعد أن بات واضحًا أن “إسرائيل” تحاول تحقيق مكاسب سياسية من خلال المفاوضات، بعد عجزها عن تحقيق أهدافها عبر العدوان العسكري.
كما تحاول “حماس” من خلال طرح “الرزمة الشاملة” إعادةَ صياغةِ معادلةِ التفاوض، وتقديم بديل تفاوضي متكامل لا يجعل من المقترَحات الأخيرة –سواءٌ الإسرائيلية أو تلك التي حملها المبعوث ويتكوف– الخيار الوحيد المطروح. وبهذا الطرح، تسعى الحركة إلى كسر حالة الجمود وتحسين شروط النقاش، خاصةً في ظل تصاعُد الدعوات الدولية للبحث عن تسوية شاملة.
في البعد الأعمق، يتجاوز عرض “الرزمة الشاملة” مسألة تبادل الأسرى، ليحمل سرديةً متكاملةً تعيد تموضعَ الحركة، لا بوصفها معرقِلةً للمفاوضات، بل طرفًا مسؤولًا يسعى إلى وقف الحرب وفتح أفق سياسي شامل.
كما يفتح العرض الباب لنقاش ترتيبات تهدئة بعيدة المدى، تُقارِب ملفَّ سلاحِ المقاومةِ ضمن إطار أوسع يرتبط بمستقبل القضية الفلسطينية ككل، خاصة ًوأن الخطة المصرية لإعادة الإعمار –التي تم اعتمادها في القمة العربية– تربط بين ملف السلاح والأفق السياسي للفلسطينيين وحقهم في إقامة دولة مستقلة على حدود 1967.
وتعيد الإشارة الواضحة من الحية إلى المحادثات مع آدم بولر التذكير بما نقلته مصادر متعددة، عن أن النقاش بين الطرفين شمل اقتراحًا من “حماس” يقضي بـإطلاق جميع الأسرى مقابل هدنة طويلة تمتد من 5 إلى 10 سنوات، تشمل ترتيبات شاملة تتضمن حتى الحديث عن السلاح في ظل أفق سياسي وضمانات دولية.
هل من أفق للنجاح؟
على الرغم من المبادرات المتكررة، تبدو الأزمة التفاوضية في قطاع غزة أشبه بحالة استعصاء مفتوحة، قد لا تُكسَر إلا بمعجزة سياسية. فالمؤشرات الإقليمية والدولية الآخِذة في التراكم تميل بوضوح إلى محاصَرة المقاومة، وتضييق هوامش مناوَرتها السياسية والعسكرية.
تُدرك حركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية أن الواقع القائم يتطلب مقادير عالية من المرونة الذكية والمناورة الدقيقة، لفتح ثغرات ممكِنة في جدار العدوان والتصعيد. إذ إن المواجَهة، كما ترى المقاومة، لا تنتهي مع توقُّف صوت المدافع، بل تمتد إلى مرحلة أكثر خطورة، إذ تعمل حكومة الاحتلال –بمكوناتها الأكثر تطرفًا– على مراكمة خطوات تصفية القضية الفلسطينية برمَّتها، بل وتهديد الوجود الفلسطيني ذاته، سياسيًّا وجغرافيًّا.
وفي هذا السياق، يُمكن لطرح “الرزمة الشاملة” الذي تقدَّمت به “حماس”، أن يشكِّل نافذةً جديدةً لإعادة تحريك المفاوضات، لا سيما أنه يتقاطع مع مطالب متصاعدة داخل مجتمع الاحتلال، وفي صفوف أجهزته الأمنية والعسكرية، بضرورة وقف الحرب. مع الإشارة إلى أن هذه المطالب لم تَعُد تقتصر على أولوية ملف الأسرى الإسرائيليين، بل تتجه نحو تبنِّي خيار “الصفقة الواحدة” التي تنهي هذا الملف كليًّا، بغض النظر عن الثمن السياسي والأمني.
وتُلاقي هذه الدعوات تجاوبًا متناميًا داخل الإدارة الأمريكية، التي باتت ترى في إنهاء الحرب ضرورةً سياسيةً واستراتيجية، تمهيدًا لطرح تسوية شاملة في الشرق الأوسط، تسعى إدارة ترامب إلى إنجازها عبر غلق الملفات الساخنة، وفي مقدمتها الحرب في غزة.
لكن نجاح هذا المسار ما يزال رهينَ تفعيلِ قنوات التواصل السياسي الفاعلة، سواءٌ من جانب المقاومة أو عبر الوسطاء، مع الدول العربية ذات التأثير. وهذا ما من شأنه أن يعيد تشكيل الطاولة السياسية، ويطرح خيارَ اتفاق شامل يُنهي الحرب على غزة بجميع أبعادها، ويضع الولايات المتحدة أمام هذا الاستحقاق جديًّا.
وبالتالي، فإن تحركًا سياسيًّا أكثر تنظيمًا وفاعلية من قِبل قوى المقاومة، مدعومًا من عواصم عربية، قد يكون الشرطَ الموضوعيَّ الوحيدَ لإنتاج صيغة اتفاق تُلبِّي الحدَّ الأدنى من المطالب الفلسطينية، وتُوقُّف شلال الدم المفتوح، وتمنع الاحتلالَ من فرض وقائع تُصفِّي الحقَّ الفلسطينيَّ تحت غبار الحرب.