ترجمة وتحرير: نون بوست
في حدث نادر، احتفل المسيحيون من جميع الطوائف هذا الأسبوع بعيد الفصح في نفس الوقت الذي يتزامن فيه التقويمان الشرقي والغربي، ومع ذلك، وكما أصبح واقعًا لا يمكن إنكاره للعديد من المسيحيين الفلسطينيين، فإن الشيء الوحيد المشترك بين عيد الفصح لدينا وعيد الفصح لدى عديد من المسيحيين في الغرب هو مصادفة حدوث هذه الاحتفالات في نفس التاريخ.
في الواقع، تتسع الفجوة بين المسيحية كما يعرفها الفلسطينيون، والتي عرفوها منذ ألفي عام، وبين التي يعرفها العديد من المسيحيين في الغرب منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتستمر في الاتساع مع كل يوم يمر دون أن يعلو صوت مسيحيي الغرب ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وتزداد هذه الفجوة وضوحًا في الولايات المتحدة مع وجود الحركة المسيحية الصهيونية، لا سيما مع نفوذها في إدارة ترامب.
في يناير/ كانون الثاني، قالت إليز ستيفانيك، مرشحة ترامب لمنصب السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، أمام جلسة استماع في الكونغرس إنها تتفق مع آراء الوزيرين الإسرائيليين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش بأن إسرائيل لها “حق توراتي في كل الضفة الغربية”.
إن الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة هي ظاهرة إنجيلية في معظمها، ولكن ليست كذلك كليًا؛ فوفقًا لمركز بيو للأبحاث، يعتقد 63 بالمئة من الإنجيليين البيض في الولايات المتحدة أن دولة إسرائيل تحقق نبوءة توراتية، لكن ستيفانيك نفسها كاثوليكية. ويُظهر مركز بيو أن ربع الكاثوليك البيض في الولايات المتحدة يشاركونها نفس الآراء، مما يشير إلى أن الصهيونية المسيحية لها جذورها في السردية المسيحية الأمريكية، أو ربما الغربية على النطاق الأوسع، لا في التقاليد الإنجيلية الخالصة فقط.
إن الأفكار التأسيسية التي بنيت عليها الصهيونية المسيحية متجذرة في الثقافة الاستعمارية الغربية لتفوق العرق الأبيض، وليس في اللاهوت أو الإيمان المسيحي. في الواقع، ومن منظور فلسطيني، لا تُعد الصهيونية المسيحية معادية للفلسطينيين فحسب، بل يمكن القول إنها سطحية فكريًا لدرجة أن الشيء الوحيد الذي يربطها بالمسيحية هو اسمها.
لقد وُلدت المسيحية في فلسطين، وهذا ليس تصريحًا سياسيًا؛ فالأرض التي جرت فيها أحداث الإنجيل تسمى فلسطين منذ أربعة آلاف عام، والثقافة التي عاش فيها المسيح واستقى منها أمثاله ومفرداته هي الثقافة الأصيلة لريف الجليل والتلال الوسطى في فلسطين. هذه الثقافة هي الثقافة الريفية لمن يُسمون أنفسهم اليوم بالفلسطينيين، وبصفتي فلسطينيًا مسيحيًا، فقد تعلمتُ منذ طفولتي أن ثقافتنا، وتراثنا الشعبي، وأسلوب حياة أجدادنا هو “الإنجيل الخامس”، والشاهد الحي على زمن وثقافة المسيح نفسه.
لن يُغفل أي فلسطيني، مسيحيًا كان أم مسلمًا، معنى كلمات المسيح عندما قال: “ليس أحدٌ يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” في إنجيل لوقا، لأن هذه هي بالضبط هي الطريقة التي نتحدث بها نحن الفلسطينيين اليوم عن الالتزام بالعمل الجاد. في الواقع، كلمة “الحرث” هي الكلمة العامية المحلية التي نستخدمها للتعبير عن “العمل الجاد” و”الالتزام”، وأصلها يأتي من الجذور الفلاحية لمعظم اللهجات الفلسطينية المحلية.
لن يُخطئ أي فلسطيني في فهم معنى مثل المسيح عن المرأة التي فقدت درهمًا وقلبت بيتها رأسًا على عقب حتى وجدته، وهذا لأن من تقاليد ثقافتنا العريقة أن تُقدَّم للمرأة عند زواجها هدية خاصة من العملات الذهبية أو الفضية التي تُحافظ على قيمتها، وذلك لضمان معيشتها في حال ترملها أو طلاقها، وهذا يُجسّد قيمة النفس الضالة عند الله، بحسب المسيح.
كما يُدرك الفلسطينيون تمامًا سبب قلق قادة اليهود من إثارة المسيح حماسة أهل القدس خلال عيد الفصح، ولماذا كان هذا الأمر يُثير السلطات الرومانية، وهذا لأن الاحتفالات الدينية في القدس، على مرّ القرون وحتى اليوم، تُمثّل مناسباتٍ يحتج فيها الشعب على القمع الذي يتعرض له، ولهذا السبب تُبدي سلطات الاحتلال اليوم حالة تأهب شديد واستنفار خلال شهر رمضان على سبيل المثال، وتُقيّد دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى، وتكون على استعداد لاستخدام القوة، مما يُثير توتر السلطات الدينية والمدنية الفلسطينية كل عام خلال هذه الاحتفالات الدينية.
إن فهم الفلسطينيين للمسيحية متجذر في الثقافة المادية الموروثة والحية لمهد المسيحية، أي ثقافتهم الخاصة، وعلى الرغم من أن هذه هي إحدى طرق فهم المسيحية، إلا أنها طريقة أقدم جماعة مسيحية على وجه الأرض، والتي وهبت المسيحية لبقية العالم. ومع ذلك، فإن الصهيونية المسيحية تحول فلسطين وأرضها وثقافتها وشعبها إلى فكرة مجردة منفصلة عن وجودها الحقيقي، شيء أشبه بعالم خيالي أو حكاية خرافية أو أسطورة تدور أحداثها في السحاب، وبالتالي فإنها بالضرورة تمحو الفلسطينيين، وعلى رأسهم الفلسطينيين المسيحيين، من الوجود.
بدلاً من ذلك، ترى الصهيونية المسيحية أن دعمها لدولة إسرائيل يستند إلى فكرة أن دولة إسرائيل، التي سُميت “إسرائيل” في مايو/ أيار 1948، تمثل الاستمرارية التاريخية للشعب القديم الذي يسميه الكتاب المقدس “إسرائيل”، وفي نفس الوقت الذي تنكر فيه الصهيونية المسيحية وجود الفلسطينيين، ناهيك عن ارتباطهم بأرضهم وتاريخهم، فإنها تربط مشروعًا استعماريًا غربيًا حديثًا بنفس الأرض والتاريخ الذي يمتد لثلاثة آلاف عام.
ولكن إلى جانب إقصاء الفلسطينيين، فإن الصهيونية المسيحية تقلب جوهر الرسالة المسيحية بأكملها رأساً على عقب، وهذا أمر مهم من الناحية السياسية. لقد كان الأثر التاريخي لانتشار الرسالة المسيحية هو تحويل الدين والإله الإبراهيمي إلى دين وإله عالميين، وتقديمهما للناس من جميع الأعراق والطبقات الاجتماعية استنادًا إلى تعاليم المسيح نفسه. وقد أرسى هذا، من بين الفلسفات والتقاليد الروحية الأخرى، أسس الإنسانية العلمانية الحديثة، وهذا يعني أن جزءًا من المسيحية، خاصة في العصر الحديث، هو الاعتراف بجميع البشر، من جميع الجنسيات والأصول، كجزء من شعب الله، والنتيجة السياسية المترتب على ذلك هو أنه لا يمكن للمرء أن يكون مسيحيًا وعنصريًا أو متعصبًا أو إقصائيًا في نفس الوقت.
غير أن الصهيونية المسيحية تحوّل المسيحية إلى هوية قبلية، منفصلة عن بقية البشر على غرار التفوق الأبيض الاستعماري، ولهذا فإن كل معتقداتها السخيفة المتعلقة بفلسطين والقدس تتماشى تمامًا مع الأجندة الإمبريالية الغربية، وبالتالي فإنها يجب أن تكون داعمة تمامًا لاستعمار إسرائيل ومحو الشعب الفلسطيني.
ولكن يغيب عن الصهاينة المسيحيين أن اللاهوت المسيحي لم يعد حكرًا على الكنائس الغربية، وأن شعوب البلدان المستعمرة قد طورت فهمها الخاص للمسيحية وفقًا لسياقها. بالنسبة للفلسطينيين، حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالدين المسيحي، فإنه من المستحيل ألا يروا في صورة المسيح الذي استشهد على أيدي الطغاة وقام من بين الأموات تمثيلًا رمزيًا لمعاناتهم وأملهم في استعادة حياتهم.
بصفتي فلسطينيًا، وعضوًا في مجتمع له تقاليد مسيحية امتدت لقرون وتطورت في ظل الإمبراطورية والاستعمار، فإنني لا أستطيع النظر إلى صورة المسيح المصلوب دون أن أرى فلسطين والعراق وسوريا وجميع الأوطان المُدمرة مُعلقة على الصليب، وإلا فلن يكون لها أي معنى حقيقي، ولن يكون لها أي علاقة ملموسة مع واقعي المعاش. وعندما يصبح الإيمان مجرد رمز أجوف بدون أي قيمة واقعية حقيقية، يمكن ملؤه بأيديولوجية عنصرية استعمارية، ويمكن أن ينتج لنا شيئًا مثل الصهيونية المسيحية.
بينما تُكتب هذه السطور، كان المسيحيون الفلسطينيون يستعدون لإحياء ذكرى استشهاد المسيح عشية الجمعة العظيمة، وفي التقليد الشرقي، يتلو الكاهن في نهاية الخدمة عبارة “عاد أهل القدس إلى ديارهم ليأكلوا خروف الفصح، بينما كان الخروف الحقيقي معلقًا على الصليب”. هذا العام، في العديد من كنائس العالم، حيث غاب الصليب الذي حمله أهل غزة عن أذهان الكثير من المسيحيين، حملت هذه الكلمات معنىً حرفيًا.
لكن بعض “المسيحيين” لن يكتفوا بتجاهل شعب فلسطين المصلوب، أحفاد المسيحيين الأوائل، فالكثير ممن يسمون أنفسهم صهاينة ومسيحيين في آن واحد سيصلون من أجل أن تُكمل جرافات دي-9 هدم أنقاض منازل الفلسطينيين وعياداتهم وحضانات أطفالهم، واقتلاع أشجار الزيتون التي زرعها أجدادنا، آملين أن يظهر مسيح أبيض الشعر طويل القامة، على غرار هوليوود، متحدثًا الإنجليزية الأمريكية، إنهن يدقّون المسامير بأنفسهم حرفيًا في معاصم شعب جردوه بأكمله من الإنسانية، متجاهلين تحذير المسيح: “أنتم فعلتم ذلك بي”.
المصدر: موندويس