أصدر مجلس الإمارات للإعلام قرارًا بحصر استخدام الزي الوطني الإماراتي في الإعلانات ومنصات التواصل الاجتماعي على المواطنين الإماراتيين فقط، ومنع أي شخص ينتمي لأي جنسية أخرى من ارتداء هذا الزي والظهور به على أي منصة إعلامية كانت، وإلا سيتعرض للعقوبة، حيث نص على ضرورة أن يكون من يرتدي الزي الوطني، سواء الكندورة والغترة للرجال أو العباءة والشيلة للنساء، في المحتوى الإعلاني مواطناً إماراتياً.
يأتي هذا القرار، الذي تزامن مع قرار أخر بحصر استخدام اللهجة الإماراتية في الإعلام الرسمي على المواطنين الإماراتيين فقط، في سياق سلسلة من السياسات التي كشفت عنها أبو ظبي مؤخرًا، وهدفها “الحفاظ على التراث وتعزيز الهوية الوطنية” حسب رئيس المكتب الوطني للإعلام.
وأثارت القرارات جدلًا كبيرًا على منصات التواصل الاجتماعي، بين من يعتبرها خطوة مهمة نحو توقير الهوية الوطنية والحفاظ عليها من أي تغول خارجي أو إساءة لمكنونها، وأخرين يرونها تحركًا يكرس سياسة التمييز في بلد أغلب سكانه وافدون، ويدشن جدارًا صلبًا من العنصرية في دولة تنفق المليارات لأجل تصدير صورة التسامح والاحتواء وقبول الأخر.
مناقشة موضوع سياسة الحكومة في تعزيز دور الإعلام الحكومي لتأصيل المحتوى وترسيخ الهوية الوطنية
سأتحدث اليوم عن صون اللهجة الإماراتية من التشويه وسط التغيرات الثقافية المتسارعة، وتعدد المنصات الإعلامية وزيادة أعدادها، فقد أصبحت اللهجة الإماراتية والرموز الثقافية المحلية، بما فيها… pic.twitter.com/uIiRCD1zcC
— المجلس الوطني الاتحادي (@fnc_uae) April 16, 2025
ويرى رئيس المكتب الوطني ورئيس مجلس الإمارات للإعلام، عبد الله بن محمد بن بطي آل حامد، أن “الزي الوطني الإماراتي ليس مجرد مظهر خارجي، بل هو تعبير حي عن منظومة متكاملة من القيم والانتماء، فهو عنوان لهوية وطنية راسخة، تمتد جذورها في عمق التاريخ”، معتبرًا أن “ارتداء هذا الزي هو إعلان فخر، ورسالة اعتزاز بالتراث، وتجسيد حي لوطن يحتفي بأصالته وهو يتطلع بثقة نحو المستقبل”.
واعتبر آل حامد أن المواطن الإماراتي وحده دون غيره “هو الأقدر على إدراك القيمة الحقيقية للهجة والزي الوطني، بوصفهما رمزاً للهوية الوطنية، وتجسيداً للإرث الثقافي والتاريخي للدولة، ولا يمكن لغيره أيًا كان انتماءه أن يقدر القيمة الحقيقية للهجة والزي الإماراتيين، ومن هنا جاء هذا القرار الذي يقول إنه “لا يستهدف الحد من استخدام اللهجة أو الزي، بل يسعى إلى تأطير ظهورهما ضمن معايير تحافظ على مكانتهما الثقافية، خصوصاً في ظل تنامي دور المؤثرين في توجيه الذوق العام.. القرار يحمل دعوة للحفاظ على جوهر تراثنا، وتقديمه بما يليق بمكانته في وجدان المجتمع الإماراتي”
الفريق الداعم لتلك القرارات يعتبرها خطوة تهدف إلى حماية الهوية الوطنية ومنع تحريف الرموز الثقافية، ومواجهة ما وصفته السلطات بـ “تشويه اللهجة الإماراتية” في بعض وسائل الإعلام، لافتين أن هناك جهات حاولت تشويه سمعة الدولة من خلال تقديم محتوى مغلوط، بجانب انتشار أنماط لغوية “هجينة” بدأت تظهر في الإعلام لمقيمين غير مواطنين، تفتقد إلى الدقة والعمق الثقافي الحقيقي مما ينجم عنها تشويه الصورة الثقافية للمجتمع، وهو ما دفع الدولة للتحرك لوقف هذا الأمر.
اللهجة الإماراتية وعاءٌ ثريٌّ بالمفردات والمعاني التي تختزن بين حروفها ذاكرة وطن، فهي مرآة للهوية الوطنية، وصدى لحياة الأجداد الذين نسجوا بكلماتها تفاصيل يومياتهم على أرض هذا الوطن، الحفاظ عليها واجب وطني، ومظهر من مظاهر الوفاء والانتماء لإرثنا الثقافي واعتزازنا بجذورنا التي…
— Abdulla M Alhamed (@AMB_Alhamed) April 20, 2025
هدف مشروع ولكن!
لا يٌنكر مُنصف حق الحكومات والدول في الحفاظ على تراثها الثقافي، فهذا حق مشروع ومكفول دستوريًا وأخلاقيًا ووطنيًا، خاصة في ظل شبح العولمة الذي خلط الحابل بالنابل بين اللغات واللهجات على المنصات الرقمية، ووضع الهوية الثقافية للأمم على المحك، ما دفع نحو تبني سياسات تحاول قدر الإمكان ضبط المشهد وتلجيم الذوبان الثقافي والتخفيف نسبيًا من مخاطره.
لكن يبرز هنا تساؤل مشروع: هل حصر اللهجة والزي الوطنيين على أبناء الوطن، ومنع أبناء الجنسيات الأخرى المقيمين منذ عشرات السنين داخل الدولة، هو السبيل للحفاظ على الهوية والتراث من احتمالات التشويه والتزييف كما فعل الإماراتيون؟ وهل فرض سياج أمام ثقافة الدولة وتراثها وتضييق حضورها على مواطنيها فقط ومنع الأخرين من الاقتراب منها هو الحل العملي للحفاظ على جوهر التراث وصورة الدولة وقيمتها الحضارية؟
تاريخيًا وعمليًا فإن انتشار لغة ولهجة الدولة وطقوسها الثقافية التقليدية من زي وسلوكيات وثقافات غذائية ويومية وغيرها، بما يتجاوز مواطنيها، داخليًا وخارجيًا، دليل قوي ودامغ على قوة هذا البلد وثقله وحضوره وتأثيره، فكلما انتشرت ثقافة البلد كلما ازدادت قوة ومكانة، وتحولت هذه الثقافة المُقلدة مع مرور الوقت إلى رمز لجذب الأخر وتعظيم صورة الدولة على المستوى العالمي.
اللهجة الإماراتية تتميز بتنوعها واختلاف رناتها من مدينة إلى أخرى ومن قبيلة إلى أخرى.
فليس كل حرف الجيم يُنطق ياءً كما يُشاع، وهذه التفاصيل الدقيقة لا يدركها إلا أبناء البلد.
على سبيل المثال، هناك فرق واضح بين لهجة المغني ميحد حمد من الشارقة وجابر جاسم من أبوظبي، وكل منهما يعكس… pic.twitter.com/OKQPJeG4cl— ثقيل الروز⚘ (@gfkj_8) August 23, 2024
وهناك العديد من التجارب الحيّة التي تؤكد هذه الفرضية، على رأسها التجربة المصرية حيث كان انتشار اللهجة والثقافة المصرية أحد أهم الأسباب التي عظمت من ثقل وحجم وتأثير القوى الناعمة المصرية وجعلتها علامة فارقة في العالم العربي ورسخت مكانتها الإقليمية خاصة على المستوى الثقافي والمجتمعي، الأمر ذاته مع التجربتين اللبنانية والسورية، خاصة بعد انتشار أعمالهما الدرامية التي سوقت لتلك اللهجات وساعدت على انتشارها إقليميًا.
من هذا المنطلق الذي لا يتوقف عند حاجز التجارب العربية فقط، فهناك تجارب دولية أكثر وضوحا مثل التجربتين الأمريكية والهندية، فإنه من الأحرى بالإماراتيين، إذا ما أرادوا فعليًا الحفاظ على تراثهم وهويتهم الثقافية، مسارعة الخطى لنشر اللهجة والثقافة والزي والطقوس الإماراتية، وهو التناقض الذي أثار الكثير من التساؤلات حول ما تحمله تلك السياسات من دلالات ومؤشرات بعيدة تماما عما رُوج لها رسميًا.
ترسيخ للسياسات التمييزية
على الجانب الأخر هناك من ينظر لتلك التحركات بشيء من القلق والريبة، كونها تتضمن طابعًا إقصائيًا واضحًا لبقية الجنسيات والعرقيات الوافدة المقيمة في الداخل الإماراتي، وتكرس لثقافة الانغلاق وتكريس خطاب انعزالي وإعادة هندسة المشهد ديموغرافيًا بزعم الهوية والحفاظ على الموروث الثقافي.
المتخوفون من هذه القرارات يرون أنها تتماشى مع السياسة العامة التي تتبناها الدولة الإماراتية خلال السنوات الأخيرة، والقائمة على بناء سور عازل بين المواطن والمقيم، وبناء دوائر اجتماعية ممزقة، يكون المواطن فيها هو السيد، معروف الهوية للجميع، فيما يقبع الأخرون من مختلف الجنسيات الأخرى في بقاع انعزالية كونهم وافدون، وهو ما يعمق الفجوة بين الإماراتي والوافد.
أنصار تلك التخوفات يذهبون إلى ماهو أبعد من مجرد الهوية اللغوية، كما تبرر السلطة الإماراتية، معتبرين أن هذه القرارات غير المدروسة ستتحول مع مرور الوقت إلى رمزية خطيرة، تمس معاني ومفاهيم الهوية والمواطنة ومن ثم الانتماء، وذلك حين يصبح الزي واللهجة حدًا فاصلا بين المواطن والوافد، ابن البلد والدخيل عليها، الأمر الذي سيدفع ثمنه المجتمع الإماراتي مستقبلا في حال الحيد عن فلسفة تلك القرارات عند تطبيقها عمليًا.
“دولة التسامح”.. السير عكس الاتجاه
المثير للجدل هنا أن تلك السياسات التي تهدد بخلق جدار عنصري فاصل بين المواطن والوافد، تُمرر في دولة لا يتجاوز عدد مواطنيها الأصليين حاجز الـ 15% من إجمالي السكان، فوفق الأرقام الرسمية يبلغ عدد سكان الدولة النفطية 10.4 مليون نسمة، يشكل المواطنون الإماراتيون منهم نسبة تتراوح بين 11% إلى 12% فقط.
كما أن هذا التحرك يتعارض شكلا ومضمونا مع الشعارات البراقة التي اعتادت أبو ظبي على رفعها، والصورة المشرقة التي أنفقت لأجل تسويقها عالميًا مئات المليارات، تلك المتعلقة بدولة التسامح وقبول الأخر، الدولة التي ضحت بمعظم مرتكزاتها الوطنية والقومية والأخلاقية والدينية للترويج لتلك الصورة.
الإمارات تحظر على غير الإماراتيين استخدام اللهجة الإماراتية … قرار جميل حتى لا يأتيك كل ساقط ولاقط يقول أنا إماراتي ويشوه صورة البلد … pic.twitter.com/YbZpjn72pO
— فهد البطي (@fbati91) April 18, 2025
فكيف لدولة تتفاخر بأنها تحتضن أكثر من 200 جنسية فوق أراضيها، تحاول عزل فئة لا يتجاوز عددها مليون أو يزيد قليلا عن قرابة تسعة ملايين أخرين، بزعم الحفاظ على الهوية الثقافية وحماية الموروث الوطني من التشويه، إلا إذا كان الأمر ينطوي على مخاوف أمنية سلطوية يحاول أبناء زايد التصدي لها مُبكرًا من خلال تكريس الفصل بين مواطني الدولة ووافديها خشية تعرضهم لأي مؤثرات تٌخرجهم من دائرة التدجين إلى تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة.
وفي المحصلة تفضح مثل تلك السياسات التي تتبناها السلطة الإماراتية التناقض الفجّ والازدواجية العوراء بين الصورة البراقة التي تحاول الدولة الترويج لها خارجيًا كدولة تسامح واحتواء وملتقى الثقافات والحضارات المختلفة، وبين الواقع المرير داخليًا حيث السير عكس عقارب الساعة الإنسانية، والإجهاز على ما تبقى من الحقوق والحريات من خلال حزم متتالية من القوانين والإجراءات العنصرية.