إدمون عمران المالح: مغربي يهودي لم يسمح للصهيونية باحتكار هويته

“لا أعرف دولة اسمها إسرائيل”، بهذه الجملة عبّر الكاتب والصحفي المغربي اليهودي إدمون عمران المالح عن موقفه الرافض لتهجير آلاف اليهود المغاربة نحو “إسرائيل” خلال ستينيات القرن الماضي، في انحياز واضح وصريح لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه والكفاح من أجل حريته في مواجهة آلة صهيونية تدّعي تمثيل اليهود والتحدث باسمهم.
ولم يدّخر المالح جهدًا في إدانة سياسات الاحتلال، واصفًا إسرائيل بأنها “حركة عنصرية ووحشية” تقتل الشيوخ والشباب وتُمعن في التنكيل بالشعب الفلسطيني، مؤكدًا مرارًا أنه “مغربي يهودي” وليس “يهوديًا مغربيًا”، في إشارة إلى أن انتماءه الوطني يسبق أي انتماء آخر، وقد بلغت مناهضته لـ”إسرائيل” حدَّ رفضه ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العبرية.
ومن ولادته في مدينة آسفي إلى وفاته في الرباط، عاش المالح حياة فكرية ونضالية حافلة، تنقّل خلالها بين المغرب وفرنسا دون أن ينفصل يومًا عن جذوره المغربية أو عن القضايا العادلة التي آمن بها. ومع أنه أمضى سنوات طويلة من حياته في باريس، ظل مشدودًا إلى هموم وطنه والعالم العربي، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مؤمنًا بدور المثقف في خدمة قضايا أمته، وبأن الأدب هو أحد أصدق تعابيرها.
جذور أمازيغية ومسيرة فكرية
وُلد الكاتب المغربي إدمون عمران المالح، أو “الحاج إدمون” كما كان يُلقَّبه المقربون منه، في مدينة آسفي المطلة على المحيط الأطلسي عام 1917، لأسرة يهودية ذات أصول أمازيغية.
تلقى تعليمه في المدارس اليهودية، ثم عمل مدرسًا لمادة الفلسفة في مدينة الدار البيضاء، وفي الوقت ذاته خاض تجربة الصحافة، فكان يوقّع مقالاته، التي تناولت موضوعات متنوّعة في الفن والثقافة والسياسة، باسم مستعار هو “عيسى العبدي”.
في عام 1945، انضم إلى الحزب الشيوعي المغربي، وكان إلى جانب المؤرخ اليهودي جرمان عياش من بين أبرز قياداته، حيث ناضل من داخله ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب. وبعد نيل الاستقلال، قرر اعتزال العمل السياسي وتفرّغ لتدريس الفلسفة.
غير أن أحداث الدار البيضاء الدامية سنة 1965 دفعته لاختيار المنفى، فرحل إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث أقام نحو 35 عامًا، قبل أن يعود إلى المغرب ليستقر فيه مجددًا عام 2000، إلى أن وافته المنية في الرباط يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
أدب ما بعد الستين
خلال إقامته في باريس، حيث واصل عمله أستاذًا للفلسفة وصحفيًا في جريدة “لوموند”، انطلق إدمون عمران المالح في مسيرته الأدبية متأخرًا، إذ بدأ الكتابة بعد تجاوزه سنّ الستين.
وقد كانت انطلاقته مع رواية “المجرى الثابت” (1980)، ثم “أيلان أو ليل الحكي” (1983)، “ألف عام بيوم واحد” (1986)، “عودة أبو الحكي” (1990)، “أبو النور” (1995)، و”حقيبة سيدي معاشو” (1998)، وصولًا إلى عمله الأخير “رسائل إلى نفسي” (2010)، إلى جانب أعمال أخرى.
استمدّت كتاباته قوتها، بحسب عدد من الباحثين، من هويتها المركبة التي كسرت القوالب المألوفة في السرد الأدبي والنقدي، إذ إن كثير من نصوصه تقاطعَ مع تجربته الشخصية في النضال والسياسة، ومع تاريخ المغرب، معبّرًا فيها عن خيبة أمله من تراجع الوضع الحقوقي والاجتماعي، لتتحوّل أعماله إلى مرآة تعكس إحباطات جيل ناضل من أجل الاستقلال، ليجد نفسه أمام واقع لا يُشبه طموحه.
تميّزت أعمال المالح بإعادة سرد تاريخ اليهود المغاربة من منظور إنساني، بعيدًا عن السرديات الاستشراقية أو الصهيونية التي سعت لاختطاف هذا المكون المغربي الأصيل، فجاءت شخصياته في الغالب منفية أو مهمّشة، تسكنها الحيرة ويتنازعها الانتماء والاغتراب، لكنه لم يُقدّمها بنبرة الضحية، بل بمنطق استعادة الذاكرة وتثبيت الحق في الحكي.
ورغم الاهتمام العالمي بكتاباته، رفض المالح ترجمة أعماله إلى اللغة العبرية، لسببين: أولهما تخوّفه من استغلال الكيان الصهيوني لأدبه وتوظيفه لأغراض دعائية، وثانيهما قناعته بأن العبرية “لغة ميتة” لا يُعتدّ بها إلا داخل “إسرائيل”.
ضد الاختزال: اليهودي المغربي لا يعني الصهيوني
حين كان الآلاف من اليهود المغاربة يُهجَّرون إلى “إسرائيل” خلال ستينيات القرن الماضي، كان إدمون عمران المالح من أوائل الموقعين على عريضة نُشرت في صحيفة التحرير، عبّرت عن رفض سياسة تشجيع الهجرة، موقفٌ قيل إنه كلّفه “ثمنًا باهظًا من سنوات عمره”، لكنه ظل ثابتًا عليه، في حياته ومؤلفاته.
وفي نصوصه الروائية، التي بدأ نشرها بعد سنّ الستين، حافظ المالح على هذا الموقف المبدئي، وتجلّى بوضوح في روايته “ألف عام بيوم واحد”، حيث سعى إلى تفكيك العلاقة بين طرد الفلسطينيين من أرضهم، وبين تفريغ المغرب من أحد روافده الثقافية، بحرمانه من تعدديته التي ميّزته لقرون، على غرار العديد من الدول العربية.
وقد أوضح هذه الفكرة في أحد حواراته قائلاً إن قيام الكيان الإسرائيلي لم يحتج إلى طرد الفلسطينيين فقط، بل احتاج كذلك إلى اقتلاع يهود دولٍ عدة، منها المغرب، لتأمين اليد العاملة التي كانت “إسرائيل” بحاجة ماسّة لها لتطوير اقتصادها، واصفًا ذلك بأنه “اقتصاد من نمط استعماري”.
وشدّد المالح، في مناسبة أخرى، على أن “إسرائيل أضرّت بروحية الديانة اليهودية”، معتبرًا أن ذلك يستدعي من اليهود بذل جهد مضاعف لتجاوز الصورة التي باتت تلاحقهم، وأشار إلى دراسة أجراها تؤكد أن هجرة اليهود المغاربة إلى “إسرائيل” كانت بمثابة “كارثة” لتاريخ المغرب، لا لليهود والفلسطينيين فقط.
وفي سياق مواقفه الفكرية، سعى المالح إلى تفكيك أسطورة العداوة بين اليهود والعرب أو المسلمين، التي حاولت الحركة الصهيونية وحلفاؤها ترسيخها، وأكّد رفضه القاطع لفكرة أن يكون اليهود والعرب فئتين متعارضتين بالضرورة، بل دعا إلى استعادة تاريخ من التعايش المشترك يتجاوز خطابات الكراهية والانقسام.
وصيّة المثقف الحر في وجه الإقصاء
لم تقتصر مناهضة إدمون عمران المالح لـ”إسرائيل” على رفضه الرحيل إليها، رغم الإغراءات التي قُدّمت له ضمن حملات تشجيع اليهود المغاربة على الهجرة إلى “أرض الميعاد” خلال ستينيات القرن الماضي، ولا على تزعمه للمطالبين بوقف هذه السياسة، بل ظل مواكبًا لفصول الصراع بين “إسرائيل” والفلسطينيين، معبّرًا، في مقالاته ونصوصه الروائية، عن استنكاره المستمر للممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
ورغم الزخم الذي رافق توقيع اتفاق أوسلو، بقي المالح يؤكد في حواراته أن “من الضروري أن نحمي أنفسنا من إسرائيل”، مُجددًا قناعته بخطورة المشروع الصهيوني على الفلسطينيين، وعلى اليهود أنفسهم.
كما لم تقتصر مساهماته على الكتابة النقدية، بل سعى إلى تفنيد الأطروحات الصهيونية التي تروّج لفكرة “أرض إسرائيل” باعتبارها حقًا تاريخيًا لليهود، ورفض استخدام “المحرقة اليهودية” لتبرير السياسات الاستعمارية والعنيفة.
وفي عام 2004، أصدر بيانًا شديد اللهجة بعنوان “أنا أتهم”، على خلفية مجزرة جنين، أدان فيه وحشية الاحتلال الإسرائيلي، واصفًا الحركة الصهيونية بأنها عنصرية، وتتعارض مع جوهر الديانة اليهودية.
وفي عام 2008، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، عبّر عن غضبه واستنكاره لمشاهد القتل والدمار عبر بيان حمل عنوان “إسرائيل على حافة البشرية”، وصف فيه ما ارتكبته قوات الاحتلال بأنه “رعب مطلق يتجاوز كل حد، وجرائم حرب حقيقية، وإرهاب دولة”، وقال إنه يشعر بالاختناق إزاء ما أسماه “الهمجية والبربرية”، منتقدًا ما وصفه بـ”القدرة والإرادة الرهيبة لدى إسرائيل في قتل الأبرياء وتدمير شعب بأكمله”.
وظلّ إدمون عمران المالح ثابتًا على مبادئه حتى ختام مسيرته الأدبية، حيث أصدر كتابه الأخير “رسائل إلى نفسي”، الذي جدّد فيه التعبير عن موقفه الراسخ من الحركة الصهيونية، مدينًا “الجرائم الإسرائيلية البشعة”، ومعلنًا دعمه الكامل للشعب الفلسطيني “الذي يكافح بكل ما أوتي من قوة، من أجل حريته واستقلاله وحقه في وطنه”.
وفي زمنٍ تتعالى فيه أصوات الإقصاء، وتُختزل فيه الهويات في قوالب ضيقة، يظل إدمون عمران المالح نموذجًا نادرًا لمثقف لا يخشى الاختلاف، ويجعل من الكلمة وسيلة للمصالحة مع الذات والتاريخ، فقط كان صوتًا بارزًا من بين قلائل رفضوا السياسات الصهيونية منذ نشأة “إسرائيل”، ولم يُخفِ استياءه من احتلال فلسطين، ولا من تفريغ المغرب من أحد مكوّناته الثقافية الأصيلة.
وعندما رحل في الرباط، أوصى بأن يُدفن في مدينة الصويرة، إحدى المدن المغربية التي كانت قبل موجات التهجير تضم أغلبية يهودية. ومع جسده، دُفنت أمنيته المتكررة: أن يُصلّي يومًا في القدس بعد تحريرها.