احتفظ دونالد ترامب بوعد قطعه في ذروة انتفاضة الجامعات الأمريكية ربيع عام 2024، حين تعهّد بترحيل من وصفهم بـ”المتعاطفين مع الإرهاب”، وما إن عاد إلى المكتب البيضاوي، حتى شنّ حملة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي المعاصر ضد طلبة الجامعات الذين شاركوا في الاحتجاجات على حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة.
في الشهرين الماضيين وحدهما، فُسخت تأشيرات قرابة 1500 طالب من مختلف الجامعات الأمريكية، تحت مظلة اتهامات متعددة، على رأسها “معاداة السامية” و”نشر بروباغندا مؤيدة لحركة حماس” المصنفة كتنظيم إرهابي في الولايات المتحدة، وقد أُبلغ بعض هؤلاء الطلاب بضرورة مغادرة البلاد خلال أسبوع أو أكثر بقليل، في حين تعرّض آخرون للاحتجاز التعسفي، أو جرى ترحيلهم على الفور.
لكنّ، معسكر الترحيلات القائم يحمل في طياته ما هو أبعد وأخطر من ملاحقة النشاط الطلابي؛ فما هي حدوده الظاهرة؟ وما هو قول القانون فيه؟ وأي حرب خفية يثيرها بين الحزبين الحاكمين؟ وكيف يعمل على إعادة تشكيل الهوية المجتمعية داخل الولايات المتحدة؟، وأخيرًا، ما علاقته بهجمات الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها؟
الطالب محمود خليل: صورة أولى للصدمة
انطلقت في الثامن من مارس/آذار الماضي شرارة أشرس معسكر حكومي يستهدف طلبة الجامعات الأمريكية، على خلفية نشاطهم الطلابي وخطاباتهم السياسية المؤيدة للحق الفلسطيني، والتي بلغت ذروتها في ربيع العام الماضي احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها “إسرائيل”، بدعم أمريكي، على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023.
كان مشهد اعتقال الطالب محمود خليل، قائد الحراك الطلابي في جامعة كولومبيا، واقتياده على يد عملاء مكتب الهجرة إلى جهة مجهولة في بادئ الأمر، كافيًا لإثارة موجة عارمة من الغضب والاحتجاج في الأوساط الطلابية والحقوقية، رفضًا لسياسة ترامب الجديدة التي تهدف، بحسب منتقديها، إلى تكميم الأفواه ومحاصرة حرية التعبير.

توالت بعدها حالات الاحتجاز والترحيل التي اجتاحت العديد من الجامعات في مختلف الولايات، في حملة وُصفت بأنها الأخطر على حرية النشاط الطلابي في تاريخ الجامعات الأمريكية المعاصر. وقد أشار موقع “Inside Higher Ed” (داخل التعليم العالي) الأمريكي إلى أن نحو 240 جامعة ومعهدًا تعليميًا تأثروا بالحملة، التي طالت الطلبة الدوليين، سواء من حاملي تأشيرات الدراسة أو حتى الحاصلين على الإقامة الدائمة (Green Card).
ولم تقتصر هذه الحملة على الجامعات الحكومية مثل جامعة ميريلاند وجامعة أوهايو، بل امتدت إلى جامعات خاصة مرموقة كجامعة كولومبيا وهارفارد وستانفورد وغيرها، مهددةً استقلالية الجامعات وقدرتها على اتخاذ قراراتها بعيدًا عن التدخلات الحكومية.
ورغم تصريح وزير الدولة ماركو روبيو بأن عدد الطلبة الدوليين الذين سيتم ترحيلهم لا يتجاوز 300 طالب، وذلك بحلول أواخر مارس/آذار الماضي، بدعوى “انخراطهم في نشاطات مخالفة للقانون”، إلا أن المنظمة الوطنية لشؤون الطلبة الأجانب (NAFSA) أشارت إلى أن الرقم الحقيقي قد يصل إلى 1400 طالب بحلول منتصف أبريل/نيسان الجاري.
الأسوأ من ذلك أن العدد مرشّح للتضاعف، في ظل اختفاء معلومات قرابة 4700 اسم من قاعدة بيانات برنامج الطلبة والزوار الدوليين (SEVIS)، الذي يحتفظ به مكتب الهجرة والجمارك، ما يشي إلى احتمال وجود مخطط واسع النطاق قد يُنفّذ خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة.
يُعدّ هذا السجل قاعدة البيانات المركزية التي تحتوي على معلومات نحو 1.1 مليون طالب دولي يدرسون في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية، ويُستخدم لتتبع مسيرتهم التعليمية ونشاطهم داخل البلاد، ويشترط لاستمرار إقامتهم الالتزام بعدد من الضوابط، مثل عدم العمل خارج الإطار القانوني، وعدم الانخراط في نشاطات يُعرّفها القانون على أنها “جرائم عنيفة” يُعاقب عليها بالسجن لمدة عام أو أكثر.
لكن التهم التي وُجّهت للطلبة تجاوزت المعايير القانونية المعتادة، فقد شملت، إلى جانب “معاداة السامية” و”دعم حماس” و”المشاركة المباشرة في احتجاجات 2024″، أي ارتباط، ولو غير مباشر، بالقضية الفلسطينية حتى لو تمثّل ذلك في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولم تكتفِ إدارة ترامب بهذه التهم، بل أطلقت تحقيقات جنائية في سجلات بعض الطلبة الذين لم يشاركوا في الاحتجاجات أصلًا، واستخدمت مخالفات بسيطة كتجاوز إشارة مرور، أو الإفراط في شرب الكحول، أو الانخراط في مشادة كلامية كذرائع لإلغاء تأشيراتهم، في ما اعتُبر تجاوزًا قانونيًا واضحًا، وقد صرّح قاضٍ في ولاية ويسكونسن بأن هذه الإجراءات “تنتهك صراحةً محددات القانون الفيدرالي”.
كل ذلك يطرح تساؤلات خطيرة حول طبيعة الحملة التي تقودها إدارة ترامب ضد الطلبة الدوليين، وما إذا كانت تستهدف حرية التعبير والنشاط السياسي، أم أنها تمهّد لهندسة مجتمعية أعمق تحت غطاء أمني وقانوني.
ترامب فوق القانون
وفقًا للقانون الأمريكي، يملك حملة التأشيرات الذين دخلوا الولايات المتحدة بصفة قانونية والتزموا بقوانينها، حقوق التظلّم وإجراءات العدالة، شأنهم في ذلك شأن الحاصلين على الإقامة الدائمة، مع فارق أساسي يتعلق بإمكانية ترحيلهم في حال تجاوزوا مدة الإقامة أو خالفوا شروط التأشيرة، وهي مخالفات يحدد القانون نوعها وآلية التعامل معها.
وتأتي في مقدمة هذه الحقوق، الحق في الإجراءات القانونية الواجبة المعروف بـ “Due Process”، والذي يمثل الحد الأدنى من الحقوق المكفولة للأجانب المقيمين على الأراضي الأمريكية، بغض النظر عن نوع التأشيرة التي يحملونها.
يضمن هذا الحق للطلبة إمكانية اللجوء إلى القضاء الأمريكي للطعن في قرارات ترحيلهم، والمطالبة بتعويضهم عمّا تكبدوه من أضرار مادية ونفسية، كما يُتيح لهم تقديم طلب مستعجل لوقف تنفيذ قرار الترحيل، إلى حين البت في مشروعيته.
وقد فعّل هذا المسار عدد من القضاة الفيدراليين في سبع ولايات، من بينها مونتانا وماساتشوستس وويسكونسن وواشنطن العاصمة، حيث أُصدرت أوامر قضائية بوقف مؤقت لإجراءات الترحيل، في انتظار التحقق من استيفاء الشروط القانونية كالتبليغ وتوضيح الأسباب وإتاحة فرصة للطعن.
إلا أن حملة إدارة ترامب خالفت هذا الحق بشكل مباشر؛ إذ لم يتلقَّ العديد من الطلبة المهددين بالترحيل أي إنذار رسمي أو مبرر لفسخ تأشيراتهم، كما ظل المئات منهم خارج دائرة الضوء الإعلامي، خلافًا لما حصل مع الطالبين محمود خليل ومحسن مهداوي من جامعة كولومبيا، اللذين أثارت قصتا احتجازهما غضبًا شعبيًا واسعًا.
وقد تمادت الإدارة، في بعض الحالات، إلى حد مخالفة أوامر قضائية صريحة؛ كما في حالة الطبيبة اللبنانية رشا العوية، التي منعتها دائرة الهجرة من دخول الولايات المتحدة، رغم صدور أمر قضائي بوجوب إدخالها، وذلك بسبب العثور على صور على هاتفها المحمول تشير إلى تأييدها لحزب الله. وفي حادثة مشابهة، تم رفض دخول عالم فرنسي، بعد العثور على مواد في هاتفه تعبّر عن معارضته لسياسة ترامب العلمية، دون تقديم أي مبرر إضافي.
وفي مواجهة هذه الانتهاكات، رفع اتحاد الحقوق المدنية الأمريكية (ACLU) ثلاث دعاوى جماعية حتى الآن، في ولايات إنديانا وميشيغان وواين، للمطالبة بوقف ترحيل طلبة الجامعات هناك وإعادة تأشيراتهم التي فُسخت مسبقًا، وقد أبدت المحاكم الفيدرالية في هذه الولايات تجاوبًا أوليًا إيجابيًا، دون أن تصدر بعدُ أحكامًا نهائية في هذه القضايا.
أما بالنسبة لحاملي الإقامة الدائمة، فلا يمكن إسقاط صفتهم القانونية إلا بقرار صادر عن قاضي هجرة مختص، ولأسباب جدية مثل ارتكاب جرائم عنف كبرى، كالقتل أو الاغتصاب، أو التورط في عمليات احتيال مرتبطة بالحصول على الإقامة. وهي التهمة التي وُجّهت إلى طالب جامعة كولومبيا، محمود خليل، إذ يصر اتحاد الحقوق المدنية، الذي يتولى الدفاع عنه، على أن هذه التهمة ليست سوى غطاء قانوني لخرق مباشر لحقه في التعبير، والمكفول بموجب التعديل الأول للدستور الأمريكي.
ويتطلب ترحيل المقيمين الدائمين سلسلة من الإجراءات القانونية تضمن الشفافية والعدالة، من بينها تبليغ رسمي بلائحة الاتهام، وبدء جلسات استماع قضائية متخصصة في محكمة للهجرة، وتحمّل الحكومة عبء الإثبات بأدلة واضحة ومقنعة، وهو ما يجعل عملية ترحيلهم أكثر تعقيدًا من ترحيل حاملي التأشيرات المؤقتة، سواء الدراسية أو المهنية.
صراع قضائي بين الديمقراطيين والجمهوريين
يبدو أن حربًا قضائية صامتة قد نشبت بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول مسألة ترحيل الطلبة الدوليين، لما تمثله من تباين صارخ في القيم والرؤى تجاه ملف الهجرة وحرية التعبير وطبيعة الشارع الأمريكي ذاته، ففي الوقت الذي عبّرت فيه مجموعة القضاة الديمقراطيين في مجلس النواب عن استهجانها لقرار ترحيل الطالب محمود خليل، معتبرةً إيّاه خرقًا صارخًا لحرية التعبير المكفولة بموجب التعديل الأول للدستور، وصفت لجنة القضاة الديمقراطيين في مجلس الشيوخ القرار في منشور على منصة إكس بأنه “تجسيدٌ واضح للديكتاتورية”.
من ناحية أخرى، برزت تباينات لافتة في الأحكام القضائية الصادرة عن القضاة الفيدراليين، حسب خلفياتهم السياسية وتعيينهم من قبل إدارات ديمقراطية أو جمهورية، فعلى سبيل المثال، أصدرت القاضية الفيدرالية فيكتوريا كالفيرت، المعيّنة من قبل إدارة بايدن، حكمًا بوقف ترحيل 133 طالبًا دوليًا من جامعات أتلانتا، مطالبةً السلطات بإعادة تأشيراتهم الملغاة على الفور، ورغم أن القرار يحمل طابعًا مؤقتًا، إلا أنه يعكس قناعة المحكمة بوجود فرص كبيرة لفوز الطلبة المدّعين بالقضية.
بالمنحى ذاته، أصدرت القاضية نعومي ريس باتشوالد، المعيّنة من قبل الرئيس الأسبق بيل كلينتون، قرارًا بوقف إجراءات ترحيل الطالبة الكورية يونيسيو شانج، من جامعة كولومبيا، وهي من حاملي البطاقة الخضراء (الإقامة الدائمة)، مطالبةً دائرة الهجرة بالإبقاء على صفتها القانونية حتى البت النهائي في القضية.

في المقابل، جاء قرار القاضية جيمي كومانس، المعينة من قبل وزارة العدل الأمريكية والتابعة للسلطة التنفيذية، صادمًا للأوساط القانونية، إذ اعتبرت أن الطالب محمود خليل يمثّل “خطرًا على الأمن القومي الأمريكي”، مستندةً في حكمها إلى الاتهامات التي أطلقها السيناتور ماركو روبيو، ومقرّرةً بناءً على ذلك إمكانية ترحيله من الأراضي الأمريكية.
وفي إطار ملف الهجرة الأوسع، أبدى عدد من القضاة الفيدراليين المعيّنين من قِبل رؤساء جمهوريين، والمعروفين بتوجهاتهم المحافظة، دعمًا واضحًا لسياسات ترامب في ما يتعلق بالهجرة والترحيل.
على سبيل المثال، خالف القاضيان صامويل إليوت وكلارنس توماس، وهما من قضاة المحكمة العليا المعروفين بانتمائهما المحافظ، قرارًا طارئًا صدر عن المحكمة ذاتها في منتصف ليل 19 أبريل/نيسان الجاري، يقضي بمنع إدارة ترامب من ترحيل عدد من المهاجرين الفنزويليين المحكومين بأحكام جنائية إلى خارج البلاد، دون عرض قضاياهم على جهة قضائية مختصة.
وفي نص المخالفة الذي صاغه القاضي صامويل إليوت، وجّه نقدًا لاذعًا لأغلبية المحكمة، معتبرًا أن إدارة ترامب “تصرفت ضمن حدود القانون”، وأن المحكمة “تعجلت إصدار قرارها دون فهم كافٍ للوقائع”.
يُذكر أن المحكمة العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، تتكوّن من أغلبية محافظة (ستة قضاة مقابل ثلاثة عُيّنوا من قبل رؤساء ديمقراطيين)، وكانت قد أصدرت مطلع أبريل/نيسان قرارًا اعتُبر مخيّبًا للآمال من قبل المدافعين عن حقوق المهاجرين؛ إذ أقرّت المحكمة بمشروعية سياسة إدارة ترامب في ترحيل المهاجرين غير النظاميين، لكنها اشترطت عرضهم على هيئات قضائية قبل تنفيذ القرار.
ويُضاف إلى هذه المواقف دعم عدد آخر من القضاة المحافظين لسياسات ترامب في ملف الهجرة، من بينهم القاضيان أندرو براشر وكامبل براكر، اللذان طالبا المؤسسات التعليمية بالتحقق من الوضع القانوني للطلبة الملتحقين بها، والتأكد من مشروعية وجودهم داخل البلاد.
كما أيّد القاضيان درو تبتون وإيمي كوني باريت (التي تشغل الآن مقعدًا في المحكمة العليا) مشروعية سياسات ترامب المتعلقة بالهجرة، سواء خلال ولايته الرئاسية الأولى أو بعد عودته إلى الحكم.
المجتمع المثالي الأبيض
تأتي هذه الحملة الشرسة التي تشنّها إدارة ترامب على الطلبة الدوليين في سياق أوسع لإعادة تشكيل سياسات الهجرة، بما يحد من وجود الأجانب داخل الولايات المتحدة، ويتماشى مع توجهات ترامب الانعزالية القائمة على تمجيد “العرق الأبيض” وتكريس القومية الأمريكية بنسختها المتشددة.
تشير طبيعة الشرائح المستهدفة منذ تولّي ترامب منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي، ما بين طلبة مؤيدين للقضية الفلسطينية من أصول عربية أو مسلمة، ومهاجرين قادمين من دول أمريكا اللاتينية، إلى أن هذه الحملة تتجاوز مجرد دعم سياسي لـ”إسرائيل” أو ادّعاءات “تنظيف” البلاد من ذوي “الدماء الإجرامية” كما يروّج ترامب، لتدخل ضمن مخطط أعمق يعيد تعريف الهوية الوطنية الأمريكية وفق فلسفة التفوقية العرقية البيضاء.
ورغم تصريحات ترامب السابقة بدعمه للهجرة “القانونية” لأصحاب الشهادات والعقول، فضلًا عن تطمينات إدارته مع بداية حملة ترحيل المهاجرين غير النظاميين بأن الاستهداف سيقتصر على من لهم سوابق جنائية، إلا أن التطورات الأخيرة، وخاصة الحملة غير المسبوقة على الطلبة الدوليين، سواء من حاملي التأشيرات الدراسية والمهنية أو من المقيمين الدائمين، تكشف عن تحوّل دراماتيكي في سياسات الهجرة، ورغبة الإدارة في تصفية السوق الأمريكية من أي منافسة أجنبية، بما ينسجم مع شعارها الأساسي: أمريكا أولاً.

وفي تصريح لافت أدلى به ماركو روبيو أواخر مارس/آذار، أشار صراحةً إلى أن الإدارة ترى في الطلبة الأجانب “مصدر إزعاج وتشويش” داخل الجامعات، معتبرًا أن منح التأشيرات الدراسية “مكرمة” لا تخوّل أصحابها الانخراط في النشاط السياسي، الذي يبدو أن الإدارة تعتبره حكرًا على الطلبة “الأمريكيين” وضمن حدود ما تراه هي مقبولًا.
لكن الأخطر من كل ما سبق، أن إدارة ترامب لا تكتفي بملاحقة الطلبة والمهاجرين، بل تتجه الآن نحو المواطنين الأمريكيين أنفسهم، أولئك الذين “يتسببون في المشاكل” وفقًا لتوصيف ترامب.
ورغم أن التصريحات الرسمية تشير إلى ذوي السوابق الجنائية باعتبارهم المستهدفين الأساسيين، إلا أن ملامح المخطط القائم على الولاء السياسي ومحاصرة “دولة الليبراليين” وتجريم حرية التعبير، تكشف أن من يحملون مواقف معارضة أو غير موالية لسياسات ترامب، خصوصًا في قضايا الشرق الأوسط، قد لا يكونون في مأمن من شرارة الملاحقات أيضًا.
هذا التوجه يثير تساؤلات جدّية: هل تسعى إدارة ترامب إلى خلق مجتمع أبيض مثالي، يتكوّن في معظمه من أتباع حركة “ماجا” اليمينية الموالية، في حين يُحشر الليبراليون إلى الهامش، مجرّدين من حقوقهم الدستورية، ومفكّكين من دوائرهم الاجتماعية، التي يشكّل المهاجرون والأجانب قاعدتها الأساسية؟
إذ تأتي هذه الحملة ضمن الصورة الأوسع لهجوم اليمين المتطرف على السياسات الليبرالية واليسارية، والتي ترى فيها إدارة ترامب تهديدًا مباشرًا، فبالنسبة لها، تُعدّ الجامعات “معاقل للفكر المناوئ”، و”أوكارًا” لخصومها الإيديولوجيين.
وعليه، تبدو محاولات ضرب المؤسسات الأكاديمية ومحاصرة الحراك الطلابي جزءًا من خطة ممنهجة لاجتثاث الجذور الفكرية الليبرالية في المجتمع الأمريكي، وهي الجذور التي أثبتت حضورها القوي في ربيع 2024، حين خرج آلاف الطلبة يحتجون على دعم واشنطن لحرب الإبادة وسياسات التطهير العرقي التي تنفذها إسرائيل في الأراضي المحتلة.
عودة خطاب ما بعد 11 سبتمبر
تستخدم إدارة ترامب قوانين قديمة وُضعت أصلًا لمواجهة الإرهاب والأنشطة التي تُهدد الأمن القومي ومصالح البلاد، لترحيل حتى أولئك الذين يحملون صفة الإقامة الدائمة، ويعيد هذا المعسكر، الذي يستهدف اليوم طلابًا من أصول عربية ومسلمة، وآخرين قادمين من دول الجنوب العالمي، إلى الأذهان الحملة التي شنّها جورج بوش الابن عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتي استمرت لسنوات فيما سُمي آنذاك بـ”الحرب المفتوحة على الإرهاب”.
في تلك المرحلة، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، وشنّت سلطات الهجرة حملات مكثفة استهدفت مجتمعات المهاجرين، ورحّلت أعدادًا غفيرة دون مبررات قانونية كافية، وقد أظهر تقرير صادر عن اتحاد الحقوق المدنية الأمريكي (ACLU) أن أياً من المرحّلين حينها لم تُثبت صلته بأي تنظيم إرهابي.
اليوم، تعود المشاهد ذاتها من خلال استخدام إدارة ترامب قوانين مثل قانون الأعداء الأجانب، وقوانين الأمن القومي، لتبرير ترحيل الطلبة والمقيمين، مع تجاوز واضح للإجراءات القانونية الواجبة وتهميش القضاء لحساب السلطة التنفيذية.
يعكس هذا التشابه التاريخي صورة مقلقة، حيث تظهر مجتمعات المهاجرين وذوي البشرة الملوّنة، لا كمقيمين شرعيين أو مساهمين في المجتمع، بل كـ”إرهابيين محتملين”، في عقلية أمنية لا تزال تعيد إنتاج خطاب ما بعد 11 سبتمبر، لكن بلغة أكثر جرأة وأدوات أكثر قسوة.
وفي تشابه آخر مع الفترة التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تُنتج الحملة الحالية بيئة من الخوف والترهيب، تسعى إلى إسكات الأصوات المحتجّة، بدعمٍ من أطراف صهيونية معادية للإسلام، فقد بات واضحًا وجود تعاون مباشر بين إدارة ترامب ومؤسسات صهيونية مشبوهة، بهدف حصر أسماء الطلبة وملاحقتهم على خلفية نشاطهم الطلابي المؤيد للقضية الفلسطينية
ويُلاحظ أن معظم الطلبة الذين تم احتجازهم أو إخطارهم بقرارات الترحيل، وردت أسماؤهم في قوائم منظمات صهيونية أمريكية، مثل كناري ميشن، التي تلاحق الناشطين المؤيدين لفلسطين منذ سنوات، وتُعرضهم لحملات تشهير ومساءلة وضغوط أمنية، أو منظمة بيتار الصهيونية، المعروفة بتاريخها في تنفيذ أعمال إرهابية في فلسطين منذ بدايات القرن الماضي، والتي تلاحق بدورها ناشطين في أوروبا والولايات المتحدة، وتُهددهم بسبب مواقفهم المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن إدارة ترامب انتهكت بشكل صارخ المتطلبات القانونية والإجرائية في العديد من هذه الحالات، وهو ما يفتح الباب نظريًا أمام التوجّه إلى القضاء للطعن وطلب الإنصاف، إلا أن الكثير من الطلبة المستهدفين يتجنبون الظهور العلني أو التغطية الإعلامية، خوفًا من التعرّض لتهديدات من جهات صهيونية ويمينية مشاركة في الحملة، أو من الترحيل الفوري دون فرصة للطعن، كما حدث بالفعل في عدد من الحالات، حيث تم ترحيل الطلبة مباشرة من قِبل مكتب الهجرة والجمارك دون تمكينهم من أي إجراء قانوني أو فرصة للاستئناف.