تلعب الصادرات دورًا مهمًا في دعم النمو الاقتصادي لأي بلد، وتُعد من المؤشرات التي تعكس مستوى تطوره الاقتصادي ومدى حضوره في الأسواق العالمية، فزيادة حجم الصادرات تساهم في تحسين الميزان التجاري وزيادة الإيرادات الوطنية، كما تحفّز التنافسية وتدفع الشركات لتطوير منتجاتها بما يتوافق مع المعايير الدولية.
ورغم أن هذا الدور قد يختلف من بلد إلى آخر بحسب البنية الاقتصادية والسياسية، إلا أن الصادرات تظل أداة أساسية في السعي نحو تنمية مستدامة ومكانة أفضل في الاقتصاد العالمي.
الصادرات السورية قبل الثورة
في سوريا كان الميزان التجاري يميل بشكل واضح لصالح المستوردات قبل 2011، حيث بلغ العجز التجاري حينها نحو 6.2 مليار دولار، ما كان يستدعي جهودًا كبيرة لتحسين أداء الصادرات وزيادة تدفقها إلى الأسواق الخارجية.
وعلى الرغم من أن الصادرات كانت تمثل نسبة لا بأس بها من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن الاعتماد الكبير على قطاعي النفط والزراعة، اللذين شكّلا معًا نحو نصف الناتج المحلي، وكانا يستحوذان على الحصة الأكبر من إجمالي الصادرات السورية، جعل من الاقتصاد هشًا أمام الأزمات وتقلبات السوق العالمية.
كانت الصادرات السورية تتوزع على عدد من القطاعات، حيث تصدّر النفط المشهد في المرتبة الأولى، تليه المنتجات الزراعية والغذائية مثل الزيتون وزيته والفستق الحلبي والكمون والعدس والتين، وبعض أنواع التوابل والمربيات.
كما شملت قائمة الصادرات منتجات نسيجية مثل الأقمشة القطنية والصوفية والسجاد، إلى جانب بعض المنتجات الكيميائية كالأدوية والصابون والعطور، والمنتجات الهندسية مثل الأدوات الكهربائية والمعدات الصناعية.
وبلغت قيمة الصادرات السورية في عام 2010 نحو 569.063 مليار ليرة، أي ما يعادل قرابة 12.37 مليار دولار، وفق سعر الصرف حينها (46 ليرة للدولار الواحد)، فيما بلغ حجم الصادرات نحو 19 مليون طن من السلع والمواد.
واحتل النفط النسبة الأكبر من قيمة الصادرات بنسبة 74%، تلاه قطاع المنتجات الزراعية والغذائية بنسبة8% بقيمة تُقدَّر بـ890 مليون دولار، ثم قطاع الألبسة من حيث الحجم.
وكانت وجهات التصدير الأساسية للدول العربية، لا سيما العراق والسعودية، إضافة إلى نحو 30% من الصادرات التي توجهت نحو الاتحاد الأوروبي، والباقي توزع بين كوريا الجنوبية والصين والولايات المتحدة الأمريكية.
انحدار الأرقام
بدأت أرقام الصادرات بالتراجع بشكل كبير بعد عام 2011، مع دخول البلاد في أتون الحرب التي أطلقها النظام البائد ضد السوريين، ما أدى إلى شلل اقتصادي واسع طال قطاعات التصدير والإنتاج.
كان النفط أول القطاعات التي تأثرت بحرب النظام البائد ضد شعبه حيث تراجعت قيمة الصادرات بمقدار 89%، كما تراجع القطاع الزراعي بنسبة 57% ، والقطاع الصناعي بنسبة 77%.
وبلغت قيمة الصادرات السورية في 2011 نحو 13.5 مليون طن، بقيمة 505 مليار ليرة (ما يعادل 10 مليار دولار) وفي عام 2013، بلغت قيمة الصادرات نحو 9 ملايين طن، بقيمة 175 مليار ليرة ما يعادل حوالي 1.21 مليار دولار أمريكي.
واستمرت أرقام الصادرات بالانخفاض المتتالي حيث تراجعت بنسبة 80% مقارنة مع عام 2011، وبلغت عام 2015، نحو 4 ملايين طن، بقيمة 210 مليار ليرة (950 مليون دولار)، وليصبح حجم الصادرات مليون طن فقط عام 2017، بقيمة 351 مليار ليرة (٦٣٠ مليون دولار).
رغم ارتفاع أرقام الصادرات السورية بالليرة المحلية، إلا أنها سجلت تراجعًا فعليًا عند احتسابها بالعملات الأجنبية مثل الدولار واليورو، نتيجة التدهور المستمر في قيمة الليرة السورية أمام هذه العملات، لا سيما الدولار.
وعلى امتداد سنوات الحرب، بقيت الصادرات السورية محدودة الحجم ولم تُظهر نموًا ملحوظًا باستثناء بعض الفترات، فبحسب الأرقام الرسمية، بلغ حجم الصادرات في عام 2021 نحو 1.2 مليون طن، بقيمة قاربت 400 مليون يورو.
وفي عام 2023، ارتفعت قيمة الصادرات بنسبة 60% مقارنة بعام 2022، وفق ما أعلنته حكومة النظام السوري البائد، أما خلال النصف الأول من عام 2024، فقد سجلت الصادرات ارتفاعًا إضافيًا بنسبة 30%، وفق تصريحات هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات، مشيرة إلى أن المنتجات السورية وصلت إلى 107 دول عربية وأجنبية.
أسباب التراجع
اليوم ومع انتصار الثورة السورية، تبرز تحديات كبيرة أمام الحكومة الجديدة في سعيها لاستعادة الصادرات إلى الأسواق الخارجية، في ظل تراكم عقبات مزمنة دفعت قطاع التصدير إلى التراجع الحاد، حتى بات لا يتجاوز حاجز المليار دولار، وفق تقديرات الباحث الاقتصادي إيهاب إسمندر، المدير السابق لهيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات بين عامي 2012 و2016.
وأرجع اسمندار في تصريح لـ”نون بوست” تراجع القدرة التصديرية لسوريا إلى جملة من الأسباب بعضها داخلي في بنية الاقتصاد وبيئة الأعمال السورية، وبعضها خارجي ناجم عن ظروف دولية.
وقال اسمندار إن العقوبات الاقتصادية على سوريا؛ أثر بشكل كبير على الصادرات السورية، كما أن تراجع خدمة النقل وعدم توفر وسائل وتقنيات مناسبة لنقل المنتجات التصديرية؛ زاد من صعوبة المحافظة على جودة الصادرات السورية؛ وضمان وصولها إلى الوجهات المقصودة.
ومن الأسباب أيضا حسب رأي اسمندر، تخلف بيئة الأعمال السورية التي أدت لارتفاع كبير في مشكلات التصدير من سوريا، إضافة إلى هجرة الشباب والتي خفضت عدد الأيدي العاملة الضرورية لتشغيل المنشآت الإنتاجية.
وأشار إسمندر إلى أن كفاءة الإجراءات اللوجستية على الحدود حيث كان إتمام العملية التصديرية يستغرق 84 ساعة مقارنة بـ 13 ساعة فقط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما كانت تكلفة شحن حاوية تصدير واحدة في سوريا تكلف حوالي 1113 دولارًا، في حين لا تتجاوز التكلفة في تلك الدول 137 دولارًا فقط.
وبرزت عوامل إضافية أعاقت حركة الصادرات السورية، أبرزها استخدام بعض الشحنات المُعدة للتصدير لتهريب المخدرات، لا سيما عبر المواد الغذائية. فقد تم ضبط عدة حالات لشحنات ملوثة بمواد مخدرة، ما دفع الدول المجاورة – خصوصًا الأردن والعراق – إلى فرض إجراءات تفتيش صارمة على كافة الشاحنات القادمة من سوريا.
هذه الإجراءات أدت إلى تأخير عمليات التصدير لأيام طويلة، وصلت في بعض الأحيان إلى 22 يوماً على معبر “جابر” الحدودي، والمعابر السورية-العراقية.
هذا التأخير تسبب في تلف كميات كبيرة من الخضار والبضائع القابلة للتلف، كما رفع من تكاليف الشحن بسبب دفع “أرضيات” انتظار داخل المعابر، ما زاد من الضغط على المصدرين وأضعف تنافسية المنتجات السورية في الأسواق الخارجية.
كما أن ضعف البنية التحتية في المعابر الحدودية السورية شكّل عائقًا إضافيًا أمام حركة التصدير، حيث يعاني معبر “نصيب” الحدودي مع الأردن من نقص كبير في التجهيزات، إذ لا يوجد فيه سوى جهاز فحص جمركي واحد (سكنر)، وفي حال تعطله – وهو ما تكرر مرارًا خلال السنوات الماضية – تضطر الشاحنات للانتظار لأيام حتى يُعاد تشغيله، ما يضاعف زمن التصدير ويزيد التكاليف.
إلى جانب ذلك، فرضت بعض الدول المستقبلة قيودًا فنية على دخول الشاحنات، مثل السعودية التي منعت دخول البرادات المصنّعة قبل عام 2004، ما قلّص من عدد الشاحنات المؤهلة لعبور الحدود وحدّ من الخيارات المتاحة أمام المصدّرين السوريين.
واقع يزداد صعوبة
أمام هذا الواقع المليء بالتحديات، يبرز سؤال محوري: هل يمكن للمنتجات السورية أن تستعيد مكانتها في الأسواق الخارجية؟
يرد على ذلك رجل الأعمال السوري المقيم في الصين، فيصل العطري، مؤكدًا أن استعادة تلك المكانة باتت أكثر صعوبة لعدة أسباب جوهرية، من أبرزها:
- تسرب معظم الصناعات الناجحة لبلاد أخرى.
- تغيّر الأسواق العالمية، حيث ازدادت المنافسة وانخفضت الأسعار وارتفعت السوية، وأصبح الزبون أكثر تطلباً وانفتاحاً، في حين بقيت خبرات المنتج السوري الصناعي والزراعي “في مكانها” مما أضعف تنافسية منتجاتهم.
- بعد 14 سنة من الغياب، نسي المستهلك المنتجات السورية وحل محلها منتجات أخرى، لذا فالعملية أشبه بإعادة اقلاع.
- ضعف وسائل التسويق “الفعالة”، بعضها بسبب العقوبات وبعضها بسبب ضعف الإمكانيات المعرفية، مما أمعن بإضعاف إمكانية الوصول للأسواق الاقليمية والعالمية.
- عدم توفر وسائل دفع آمنة، ووسائل تفتيش موثوقة، مما جعل من عملية الشراء مخاطرة تعتمد على الثقة الشخصية.
من جهته، أضاف إيهاب إسمندر سببًا إضافيًا ساهم في تقويض الصادرات السورية، يتعلق بسياسة تعهد التصدير.
وأوضح أن السلطات كانت تُرغم المصدّرين على بيع حصيلة القطع الأجنبي الناتج عن التصدير بسعر الصرف الرسمي، في وقت كانت فيه قيمة الليرة في السوق السوداء أعلى بكثير من السعر الرسمي.
هذا الفارق كان يُسبب، في حال التزام المصدر الكامل بالتعهد، خسائر قد تصل إلى 30% نتيجة فرق سعر الصرف، ما جعل عملية التصدير غير مجدية اقتصاديًا.
وأكد إسمندر أن معظم الإجراءات الرسمية المتعلقة بالتصدير لم تكن مشجعة أو محفزة على زيادة الصادرات، بل شكّلت عبئًا إضافيًا على المنتجين والمصدّرين.
كيف تدعم الصادرات السورية؟
وفيما يتعلق بالأسلوب الأمثل لدعم الصادرات السورية، شدد فيصل العطري على ضرورة إزالة كافة العوائق البيروقراطية التي تعرقل عملية التصدير، بدءًا من إجراءات الترخيص، مرورًا بتسهيل استقبال الحوالات المالية، وانتهاءً بمرونة شحن البضائع.
كما دعا إلى:
- خفض الرسوم الجمركية على استيراد المواد الأولية، الآلات الصناعية والزراعية، وقطع الغيار المرتبطة بها.
- توفير بيئة قانونية نزيهة وشفافة من خلال سلطة قضائية تتيح التحقق من شكاوى الزبائن الدوليين وتعزيز ثقة الأسواق العالمية بالمنتج السوري.
- ربط المناطق الصناعية والزراعية بوسائل نقل حديثة وبأسعار معقولة لتحسين الوصول إلى الأسواق.
- إنشاء مناطق سكنية مخدّمة بالقرب من مراكز الإنتاج لتأمين العمالة المستقرة.
وأكد العطري على أهمية مشاركة غرف الزراعة والصناعة والسياحة في المعارض الدولية للترويج للمنتجات السورية، إلى جانب توفير:
- قروض ميسّرة وبرامج تمويل مخصصة للشركات المصدّرة.
- دعم تأمين المخاطر الائتمانية للتصدير.
- استرداد جزء من الضرائب بعد إثبات إتمام عمليات التصدير.
كما شدد على ضرورة توسيع العلاقات التجارية وتفعيل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية، وبناء شراكات استراتيجية مع دول تعتمد على الاستيراد، خاصة تلك التي تسجل طلبًا عاليًا أو تفتقر لمنتجات منافسة.
من جهته، رأى إيهاب إسمندر أن أفضل أشكال دعم الصادرات السورية يتمثل في تخفيض تكاليف مدخلات الإنتاج الأساسية، كالكهرباء، والوقود، والضرائب، والرسوم الجمركية وغيرها، معتبرًا أن هذا المسار أكثر فاعلية من الدعم المباشر أو التدخلات المالية.
واستدرك إسمندر بالإشارة إلى أن فترة التحرير من النظام البائد لا تزال قصيرة، وبالتالي فإن معظم المشكلات الاقتصادية وبيئة الأعمال المتعثرة ما تزال قائمة، ما يجعل التحسن في الأداء الاقتصادي مسألة تدريجية.
ولفت إلى أن الانفتاح على الأسواق العالمية بعد سنوات من العزلة سيزيد من صعوبة المنافسة، خاصة داخل السوق المحلية، حيث يعاني السوريون من تدهور القدرة الشرائية، ويميلون إلى اختيار السلع الأرخص بغض النظر عن جودتها، لذلك على المنتجين السوريين عدم المراهنة على تخفيض أسعارهم لأن معظم أسعار السلع المستوردة تكون أرخص
وبدلاً من الدخول في حرب أسعار خاسرة، دعا اسمندر المنتجين المحليين إلى التركيز على الجودة العالية، ورفع القيمة المضافة في منتجاتهم، والتوجه إلى أسواق تثمّن الجودة مثل دول الخليج، وبعض الدول العربية، وحتى الأسواق الأوروبية، التي تُعطي الأولوية لمواصفات المنتج أكثر من سعره.
ختاما.. يمكن إعادة بناء سمعة المنتج السوري، حسب العطري، إذ تفهمنا مشاكلنا وعملنا على إيجاد حلول فعالة واستفدنا من الدول الصديقة، لكن علينا أن نفهم أن العالم لا ينتظر، وأن قدرتنا على استعادة مكانتنا تتضاءل يومًا بعد يوم.