“دبلوماسية التهديد”.. لماذا تختلف مفاوضات أمريكا وإيران هذه المرة؟

تسير المفاوضات الأمريكية الإيرانية، غير المباشرة، بخطى ثابتة ومُبشرة نسبيًا، نحو الوصول إلى تفاهمات من شأنها تبريد الأجواء المتوترة بين البلدين وتقريب وجهات النظر بشأن الملف النووي الإيراني، وذلك وفق مخرجات الجولتين السابقتين، الأولى التي عقدت في العاصمة العُمانية مسقط في الثاني عشر من أبريل/نيسان الجاري والثانية في العاصمة الإيطالية روما في التاسع من نفس الشهر.

ويستعد الطرفان لخوض جولة ثالثة من المفاوضات السبت المقبل، على الأرجح ستحتضنها مسقط، حيث يمثل الجانب الإيراني وزير الخارجية، عباس عراقجي، فيما يرأس الوفد الأمريكي المبعوث الرئاسي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.

ويعد مستوى التمثيل هو الأعلى لدى الدولتين منذ انهيار الاتفاق النووي المبرم عام 2015 عقب خطوة الانسحاب الأحادي من الاتفاق التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 2018 أثناء ولايته الأولى.

وحسب وزير الخارجة العُماني بدر بن حمد البوسعيدي، فإن الجولة الثانية من المفاوضات التي عُقدت في مقر إقامة السفير العماني بروما قبل 3 أيام قد أسفرت عن توافق الأطراف على الانتقال إلى المرحلة التالية من المباحثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق منصف دائم وملزم.

فيما أكدت كل من طهران وواشنطن ومن خلفهما الوسيط العماني على ضرورة أن يكون “الحوار والتواصل الواضح هما السبيل الوحيد لتحقيق تفاهم واتفاق موثوق به يخدم مصلحة جميع الأطراف على الصعيدين الإقليمي والدولي”.

وانطلقت المفاوضات الراهنة على وقع تصاعد وتيرة التهديدات المتبادلة بين الطرفين، والتي وصلت إلى مستويات متطرفة من التراشق السياسي والإعلامي، في ظروف إقليمية ودولية استثنائية، حيث حالة الارتباك والفوضى التي تخيم على المشهد، وسط ترقب لما يمكن أن تٌفضي إليه من مخرجات سيكون لها ارتداداتها على خارطة المنطقة بأسرها.

أجواء إيجابية حتى الآن

لم تشهد الجولتان السابقتان أي مفاجآت حتى كتابة تلك السطور، إذ جاءت المباحثات منضبطة إلى حد ما بالسقف المحدد لها سلفًا، حيث أبدى الطرفان مرونة غير مسبوقة، خاصة الجانب الأمريكي الذي لم يطرح أي شروط تعجيزية على طاولة النقاش كما كان متوقعًا، هذا بخلاف ما يظهره من جدية للتوصل إلى اتفاق مٌرضي يُنهي تلك الأزمة.

وتمحورت المباحثات خلال جولتي مسقط وروما حول الخطوط العريضة المتفق عليها سلفًا، والخاصة بالملف النووي ورفع العقوبات، حيث أصبحت الأساس التي ترتكز عليه العملية التفاوضية بعيدًا عن أي تشدد في المواقف من هنا أو هناك، وهو ما دفع الطرفان للتوجه إلى الجولة الثالثة حيث مناقشة الجوانب التقنية.

ولم يتجاوز المطروح حتى الآن أطر الاتفاق النووي المبرم في 2015 وفق ما ذكرت مصادر مطلعة لـ “العربي الجديد” لافتة إلى أن هناك موافقة أمريكية على مبدأ حق طهران في تخصيب اليورانيوم، وفي المقابل قدمت إيران اقتراحات لتطمين الولايات المتحدة بشأن سلمية برنامجها النووي، وموافقتها على الأليات المشددة الخاصة بضمان عدم تجاوز البرنامج لإطاره السلمي، ضمن قبولها بتنفيذ البروتوكول الإضافي” الملحق لاتفاق الضمانات التابع لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

وفي ظل التقدم الذي تشهده المفاوضات الحالية تتوقع المصادر التوصل إلى اتفاق بين طهران وواشنطن خلال الشهرين المقبلين، وربما أبكر من تلك الفترة، إذا ما ظل السلوك الأمريكي ملتزما بعدم العرقلة كما هو الوضع حاليًا، وإن كان هذا الأمر لا يٌخفي حالة القلق من رد الفعل الأمريكي غير المتوقع في كثير من الحالات، وعليه هناك مطالبات بالتعامل بحذر شديد قبل التوصل إلى أي نتيجة.

ماذا دار في الجولتين السابقتين؟

من جانبه يرى الدبلوماسي الإيراني السابق عبد الرضا فرجي راد، أنه من الواضح أن كلا من أمريكا وإيران قد اتفقا على أن تحتفظ طهران بحقها في تخصيب اليورانيوم لأغراض علمية، وثانياً على رفع العقوبات، وفي المقابل تقديم طهران لتطمينات عملية بعدم السعي لامتلاك السلاح النووي.

ويتوقع الدبلوماسي الإيراني أن المباحثات الفنية المزمع انعقادها في مسقط، الأربعاء 23 من الشهر الجاري، وتستمر 3 أيام، ستناقش مسألة درجة التخصيب وأجهزة الطرد المركزي، وهي المناقشات التي سترفع على طاولة الجولة الثالثة من المفاوضات الأسبوع المقبل، إما أن يوافق عليها عراقجي وويتكوف أو يوعزان باستمرار المباحثات الفنية لجولات أخرى إذا ما كانت هناك نقاط خلافية.

ومن المتوقع أن تشهد المباحثات الفنية النقاش حول تحديد نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران، والمقدرة بـ 3.67%، وهي النسبة المسموح بها وفق الاتفاق النووي الموقع في العام 2015، وسط توقعات بعدم موافقة طهران على ذات النسبة في ظل التطورات التي شهدها برنامجها النووي خلال السنوات الأخيرة.

هذا بجانب مناقشة الاحتياطي الإيراني من اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60% حيث تصل الكمية حالياً إلى 275 كيلوغرامًا، ومصير هذا الاحتياطي، وما إذا كان سيبقى في إيران أم ينقل خارجها، وهي النسبة التي يرى البعض أن طهران تخطتها خلال الفترة منذ انسحاب أمريكا الأحادي من الاتفاق عام 2018 وحتى اليوم، والتي يمكن استخدامها كورقة تفاوضية على طاولة النقاش.

وكان وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته لموسكو قبيل انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات في روما، أصر في مباحثاته مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، على أن تنحصر العملية التفاوضية على المسألة النووية والبرنامج النووي رافضًا أي حديث عن تفكيك البنية التحتية النووية، كذلك ملفي الصواريخ الباليستية أو الدور الإيراني الإقليمي، وهو ما أيدته موسكو.

مفاوضات على وقع التهديد

سبق انطلاق تلك المفاوضات حملة تجييش وسن للسيوف من كلا الطرفين، حيث التهديدات التي أصدرها ترامب بصورة مباشرة وكاشفة والتي تخيّر طهران بين المفاوضات والرد العسكري الحاسم والسريع، رافقها تحشيد عسكري كبير، وأجواء ملتهبة فرضتها أمريكا بإرسال ست قاذفات قنابل من طراز بي-2 إلى القاعدة العسكرية الأمريكية البريطانية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، بالتزامن مع تكثيف القصف على اليمن.

وفي المقابل كان الرد الإيراني تصعيديًا، وصل ذروته بتهديدات مستشار المرشد الأعلى، علي لاريجاني، الذي قال إن بلاده لا تسعى لامتلاك سلاح نووي لكن “لن يكون أمامها خيار سوى القيام بذلك” في حال تعرّضت لهجوم.

وسبقه تهديد أخر من المرشد، علي خامنئي، الذي توعّد بضربة شديدة على من يعتدي على بلاده، وآخر لقائد القوة الجوّ فضائية للحرس الثوري الذي هدد، بشكل ضمني، باستهداف القواعد العسكرية الأمريكية المحيطة بإيران، والتي يعسكر فيها 50 ألف جندي أمريكي، كما قال.

وبين هذا وذاك تكثف الولايات المتحدة من هجماتها ضد الحوثيين في اليمن، وهي الهجمات التي لا يمكن قراءتها بمعزل عن رسائل التحذير والتهديد التي تبعث بها إدارة ترامب لطهران، خاصة بعد دخول الكيان الإسرائيلي على خط الأزمة، والتلويح بالمشاركة في عملية عسكرية قاسية ضد المنشآت النووية الإيرانية.

وفي تلك الأجواء المتوترة والتراشق المتبادل بين الطرفين والذي بلغ حد التلويح بالخيار العسكري، والوعيد بالجحيم والجحيم المضاد، وما أسفر عنه من احتباس للأنفاس، خيم على المشهد الإقليمي والدولي، جاءت المفاوضات الأخيرة والتي كان يراهن كثيرون على استبعاد حدوثها في هذا المناخ شديد السخونة.

لماذا تبدو مختلفة؟

ثمّة مؤشرات تذهب باتجاه خصوصية المفاوضات الحالية وأنها تبدو مختلفة عما سبقها من مباحثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران منذ الانسحاب الأمريكي الأحادي قبل 7 سنوات:

أولا: أنها الأولى منذ فترة طويلة، في ظل توتر غير مسبوق في العلاقات بين البلدين، وشحذ كل طرف للسيوف وإشهارها في وجه الأخر، والسجال المتصاعد والذي وصل إلى مستويات تكاد تذهب باتجاه الحرب وليس التفاوض.

ثانيًا: تأتي في وقت تشهد فيه طهران أوهن محطاتها منذ عقود، حيث التطورات الجيوسياسية الأخيرة التي قزمت نفوذها وقلصت حضورها الإقليمي بعدما استهدفت أذرعها بشكل مباشر، حزب الله في لبنان وتحييده بشكل كبير خارج المشهد الإقليمي، وخروج سوريا من دائرة الهيمنة الإيرانية بعد سقوط نظام الأسد الحليف في الثامن من ديسمبر/كانون الثاني الماضي، فضلا عما تعرضت له المقاومة في غزة، بجانب التصعيد الأخير ضد الحوثيين في اليمن والخسائر التي يتلقونها على مدار أكثر من شهر حيث القصف الذي لا يتوقف.

ثالثًا: الانتقادات التي تتعرض لها إدارة ترامب بسبب سياستها الحمائية التي أدخلت العلاقات الأمريكية مع حلفائها -قبل خصومها- أنفاق جديدة من التوتير والصدام، والمخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية جراء صراع النفوذ الاقتصادي مع الصين، تزامن ذلك مع تصاعد الاحتجاجات الداخلية بسبب إدارة ترامب للمشهد الداخلي والإقليمي والدولي، وهو دفعه للتراجع أكثر من مرة خطوة بل خطوات للوراء لامتصاص الغضب الشعبي والرسمي الذي تتسع رقعته يومًا تلو الأخر.

مقاربات واشنطن وطهران

ينطلق ترامب من خلال تلك المفاوضات متكئًا على حالة الضعف التي عليها إيران حاليًا بعد الضربات التي تلقتها مؤخرًا، حيث يرى أن طهران اليوم في أضعف حالاتها وأن الوقت مناسب جدًا لتصفية الحسابات معها بشكل إجمالي، سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو نفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط.

إلا أن الإقدام على خطوة كهذه وبهذه الطريقة، استراتيجية العصى الغليظة، يحتاج إلى تنسيق مسبق مع الحلفاء الغربيين، وهو أمر صعب حدوثه حاليًا في ظل الأجواء المتوترة بسبب سياساته الحمائية والتي وسعت الهوة بينه وبين قادة القارة العجوز، هذا بخلاف احتمالات عدم التعاون معه عربيًا، خاصة بعدما أثير بشأن رفض بعض دول الخليج استخدام القواعد الأمريكية التي في بلدانهم ضد طهران.

ومن هنا يرى ترامب أن الكلفة الاقتصادية والسياسية لتصفية الحسابات مع إيران عسكريًا ستكون باهظة، وعليه كان لابد من اللجوء إلى الدبلوماسية، حتى لو كانت خشنة بعض الشيء، لتحقيق الأهداف المنشودة.

مقاربة أخرى ليست ببعيدة عن مخيلة ترامب وإدارته عند الجلوس على طاولة المفاوضات- حتى وإن كانت غير مباشرة- مع الإيرانيين، تتمحور حول محاولة واشنطن الإبقاء على إيران كـ “دولة وظيفية” تقوم بخدمة الأجندة الأمريكية في المنطقة، بقصد أو دون قصد، وذلك عبر شيطنتها من أجل ابتزاز العرب وتفريغ خزائنهم نظير صفقات السلاح الباهظة، أو على الأقل تحييدها عن استهداف الحليف الإسرائيلي، لتبقى كل من طهران وتل أبيب الدولتان الوظيفيتان اللتان تخدمان الولايات المتحدة بإخلاص غير مسبوق، كل حسب موضعه والدور المرسوم له.

ومن زاوية شخصية تطاوسية بحتة، يسعى ترامب، المهووس بجنون العظمة، للبحث عن انتصار دبلوماسي يٌحسب له دوليًا في هذا الملف المثير للجدل والذي تعرض بسببه لانتقادات لاذعة عقب انسحابه الأحادي من الاتفاق في ولايته الأولى، وهي ذات النزعة الفردية التي تحركه في ملفي غزة والحرب الأوكرانية.

أما على الجانب الإيراني، فبعد الخسائر التي مُنيت بها طهران بات هناك رغبة ملحة وواضحة في الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة والسعي لإنجاحها بأي طريقة كانت، منطلقة في ذلك من مقاربتين، الأولى تبريد حالة التربص التي تخيم على أمريكا وإسرائيل إزاءها، وامتصاص الغضب المتصاعد، وتفادي أي تصعيد عسكري قد يطيح بمشروعها النووي، والثانية اللهث لرفع العقوبات المفروضة عليها بعدما وصل التدهور الاقتصادي إلى مستويات صعبة غير مسبوقة، يهدد الدولة بأكملها، نظامًا وشعبًا.

في المحصلة.. تذهب معظم المؤشرات الراهنة، مخرجات الجولتين الأوليتين، والانتقال إلى المباحثات الفنية، وتصريحات الوسيط العماني،  إلى إيجابية المفاوضات في مجملها، وتزايد احتمالات التوصل إلى اتفاق يمكن البناء عليه لحلحلة هذا الملف، ربما يتجاوز اتفاق 2015، غير أن المرونة التي تبديها واشنطن حتى الآن وتجنبها رسم أي خطوط حمراء خلال الجولتين السابقتين، مسألة غير مطمئنة بالنسبة للشارع الإيراني، خاصة في وجود شخص متقلب مثل ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، والمساعي الإسرائيلية التي لا تتوقف لإجهاض أي مسار دبلوماسي في التعاطي مع طهران، ليبقى الباب مفتوحا على كافة الاحتمالات، وهو ما سيتكشف تباعا مع عقد الجولات المقبلة.