في لحظة سياسية حرجة تُخيّم عليها التحولات الإقليمية وضغوط “اليوم التالي” للحرب على قطاع غزة، ينعقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية لمناقشة خطوة كبرى في هيكلية المنظمة: تعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية، في خطوة تبدو في ظاهرها تنظيمية، لكنها تختزن في عمقها رسائل سياسية ودلالات تتعلق بمستقبل النظام السياسي الفلسطيني، وبموقع الرئيس محمود عباس في معادلة السلطة.
التوقيت، والسياقات، والخلفيات، تدفع جميعها لقراءة الحدث خارج إطاره الإجرائي، في ظل تصاعد النقاش حول مرحلة ما بعد عباس، وتنامي الضغوط الإقليمية والدولية المطالِبة بإعادة هيكلة مؤسسات السلطة والمنظمة على حد سواء. وبينما تُطرح أسماء وتحالفات، تتكشف في الخلفية صراعات تأويل قانوني، وتوازنات داخل حركة فتح، وتحفّظات فصائلية، ومحاولات لاحتواء معركة الخلافة قبل أن تندلع.
خلفيات سياسية ضاغطة: التغيير ضرورة لا خيار
لم يكن إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال القمة العربية الأخيرة، عن نيته تنفيذ إصلاحات سياسية، سوى انعكاسٍ لضغوط إقليمية ودولية آخذة في التصاعد، تطال شكل النظام السياسي الفلسطيني بأسره، وليس فقط أداء السلطة الفلسطينية.
مصادر مطلعة داخل حركة فتح تؤكد أن قطر أبلغت عباس بوضوح أن استمرار دعمها المالي مرهون بإصلاحات جوهرية، في ظل تصاعد الانتقادات الموجهة لها من داخل الساحة الفلسطينية، والتضييقات التي طالت قناة الجزيرة في الضفة الغربية.
أما الإمارات، فربطت دعمها السياسي والمالي بإجراء مصالحة داخل فتح نفسها، خصوصًا مع التيار الإصلاحي الذي يحظى بدعمها المباشر، في حين شددت السعودية على ضرورة إجراء تغييرات هيكلية عميقة، تشمل السلطة والمنظمة والحركة، استعدادًا لمرحلة ما بعد محمود عباس، وهي الرؤية التي تتقاطع معها أبو ظبي في معظم النقاط.
على المستوى الدولي، كانت إدارة بايدن واضحة في تبنيها لمفهوم “السلطة المتجددة“، كشرط لأي انخراط أمريكي جاد في دعم حضور السلطة في المشهد السياسي، أو في ترتيبات ما بعد الحرب على غزة -فيما لم تتضح ملامح مواقف إدارة ترامب من السلطة حتى الآن-. وعبّر الاتحاد الأوروبي عن استيائه من غياب الشفافية والتجديد داخل مؤسسات السلطة، فيما مارست فرنسا ضغوطًا مباشرة على القيادة الفلسطينية لإعادة إنتاج النخبة السياسية، مقابل دعم أكبر لمسار “حل الدولتين”.
في هذا السياق، وإن بدا قرار عباس بقبول تعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، خطوة مفاجئة لكنها مدفوعة برغبة في الاستجابة – ولو جزئيًا – لتلك الضغوط المتراكمة، فيما تحدثت مصادر دبلوماسية عن اشتراطات عربية وغربية بألا يكون النائب القادم من الحلقة الضيقة للرئيس، أو من بين المقربين التقليديين، في محاولة لتفادي إعادة إنتاج النظام السياسي الحالي بصيغته المتفككة، وهو ما فتح الباب أمام تداول أسماء من التيارات المعارضة داخل فتح، سواء من جناح دحلان أو من محيط ناصر القدوة.
وبينما تنشغل الدوائر السياسية بملف “اليوم التالي” للحرب على غزة، فإن هذا النقاش لم يعد حكرًا على مستقبل القطاع فحسب، بل تمدد ليطال النظام السياسي الفلسطيني بأسره: شكله، طبيعته، وشرعيته، فالأصدقاء والخصوم على السواء باتوا يرون أن النظام القائم، الذي يتآكله الانقسام والتفكك على كل المستويات، بات عاجزًا عن مواكبة التحديات المقبلة.
وعليه، أصبح التفكير الجاد في إعادة هيكلته أو تهيئته، بما يتلاءم مع سيناريوهات ما بعد عباس، جزءًا لا يتجزأ من النقاش حول مرحلة ما بعد الحرب، ذلك أن “اليوم التالي لقطاع غزة”، بات يتقاطع عضويًا مع “اليوم التالي لمحمود عباس“.
معركة الخلافة تفرض إيقاعها داخل “فتح”
ليست الخلافات داخل حركة فتح جديدة، لكنها تزداد وضوحًا كلما اقترب الحديث من معركة خلافة الرئيس محمود عباس، وهذه المعركة غير المعلنة باتت تمثل البوصلة التي تحدد بناءً عليها مواقف رموز اللجنة المركزية، وتوجهاتهم في التعامل مع أي خطوة سياسية أو تنظيمية تُطرح على الطريق.
تتباين الرؤى داخل اللجنة المركزية بين من يحاول الدفع نحو توجهات أكثر وحدوية وشراكة، وبين من يفضّل الانسجام الكامل مع خيارات الرئيس محمود عباس، وتجنب الدخول في مسارات تصادمية، إدراكًا لحساسية الرئيس المفرطة تجاه أي معارضة داخلية، ولسلوكه الذي لم يعرف عنه التساهل مع المخالفين في الرأي أو الطامحين للمنافسة.
وبينما تزداد المساحات التي تُمنح لحسين الشيخ داخل بنية القرار، يرى بعض الطامحين لخلافة الرئيس في هذا التوسع تعزيزًا لمكانة الشيخ على حسابهم، وعلى حساب التنافس الطبيعي داخل الحركة.
ومن هنا، يسعى هذا التيار إلى تقليص نفوذ الشيخ بوسائل غير مباشرة، من بينها الدفع نحو توسيع حجم التشاور الفصائلي حول القضايا المصيرية، إدراكًا منهم بأن الشيخ لا يحظى بقبول واسع في صفوف القوى والفصائل الفلسطينية.
وقد جاءت الدعوة لعقد جلسة المجلس المركزي في توقيت اعتبره كثيرون “مباغتًا”، حيث لم تُترك مساحة كافية للتشاور مع الفصائل داخل منظمة التحرير وخارجها، ما قلّص من فرص إنجاح الجلسة على المستوى الوطني وأضعف من إمكانية خلق نصاب فصائلي يُضفي شرعية على نتائجها.
هذا التسريع اعتُبر خطوة محسوبة من الرئيس عباس، تهدف إلى تجميد المسارات البديلة وتحجيم التفاعل الذي قد يُعطل وصول حسين الشيخ إلى المنصب الجديد، الذي بات محسومًا في ظل الترتيبات القائمة.
ورغم وجود تحفظات لدى بعض العواصم العربية، إلا أن السلطة الفلسطينية بذلت جهدًا لتسويق اسم الشيخ كخيار يحظى بتفاهم إقليمي، خاصة لدى مصر والأردن، حيث تعتبر العاصمتان من أكثر الأطراف إطلاعًا على ديناميات السلطة الداخلية.
كما أن الشيخ لا يواجه فيتو سعوديًا، ويحظى بقبول “مريح” لدى الرياض، الداعم السياسي الأبرز لبقاء السلطة الفلسطينية واستمرار دورها، وقد رتبت السعودية للشيخ لقاء مع مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
ورغم كل ذلك، تبدو الخلافات داخل “فتح” مضبوطة بإيقاع محسوب، ولن ترتقي – بحسب التقديرات – إلى مواجهة مفتوحة، إذ من المرجّح أن يلجأ الرئيس إلى تمرير تطمينات داخلية للطامحين بوراثته، مفادها أنه لن يحسم مسألة خلافته في هذه المرحلة، ولن يُصادر من “فتح” قرارها المستقبلي بتحديد مرشحها، لكن هذه التطمينات لا تُخفي حقيقة أن عباس، كما أثبتت تجاربه السابقة، يتحرك بمنطق الحاكم الباقي في موقعه “إلى أجل غير مسمى”، ويتجنّب أصلًا الخوض في أي نقاش حول مسألة الخلافة.
التأويلات القانونية والحسابات السياسية
مع تصاعد الجدل حول تعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، برز خلاف عميق ليس فقط حول الشخصية التي ستتولى المنصب، بل أيضًا حول الآلية القانونية والسياسية التي يجب اعتمادها في هذه الخطوة، في ظل تباينات واضحة بين الفصائل الفلسطينية ودوائر صنع القرار في الرئاسة.
يدور الخلاف بالأساس حول سؤالين محوريين: من يملك الصلاحية القانونية لتسمية النائب؟ وما هي الصيغة الأنسب التي تُحقق توازنًا سياسيًا وتمثيلًا وطنيًا داخل المنظمة؟
بعض الأطراف، لا سيما من خارج حركة فتح، تميل إلى اعتبار المجلس المركزي الجهة المخوّلة بالتعيين، باعتباره الهيئة التشريعية البديلة في ظل تعطل المجلس الوطني، وهذا الخيار يمنح النائب شرعية سياسية أوسع، ويجعل منه مرشحًا محتملًا لتولي رئاسة المنظمة في حال شغور المنصب.
في المقابل، تتمسك حركة فتح بأن هذه الصلاحية يجب أن تبقى حصرًا بيد اللجنة التنفيذية، انطلاقًا من أن النظام الأساسي للمنظمة ينص على أن اللجنة هي من تختار رئيسها من بين أعضائها، وبالتالي يمكنها تسمية نائب للرئيس ضمن هيكليتها الداخلية.
المدافعون عن هذا الخيار يستندون إلى اعتبارات تنظيمية بالأساس، أبرزها الحفاظ على الانسجام الداخلي، وتجنّب تحويل الموقع إلى ساحة مفتوحة للصراع السياسي بين القوى والفصائل، وقد ذهب رئيس الحكومة السابق محمد اشتية أبعد من ذلك، حين أكد أن المجلس المركزي “غير مخوّل قانونيًا” بانتخاب نائب الرئيس، وأن الأمر من صلاحيات اللجنة التنفيذية حصرًا.
لكن الجدل لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أدلى مستشار الرئيس للشؤون الدينية، محمود الهباش، بتصريح اعتُبر مثيرًا، حين قال إن “الرئيس هو من يجب أن يختار نائبه”، مستندًا إلى أنه منتخب من اللجنة التنفيذية، ويحق له تحديد من يعاونه في إدارة المنظمة، وهو الطرح الذي قوبل برفض واسع، لا سيما من الفصائل التي رأت فيه محاولة مكشوفة لتكريس مزيد من التفرد بالرئاسة، وتجاوزًا للتقاليد السياسية التي حكمت توازنات المنظمة لعقود.
في هذا الإطار، طُرحت داخل أروقة المنظمة خلال الأسابيع الأخيرة ثلاثة سيناريوهات رئيسية لتعيين النائب، أولها: أن يتولى المجلس المركزي انتخابه مباشرة، ما يمنحه ثقلاً سياسيًا وشرعية وطنية، ويجعله طرفًا مرجّحًا في معادلة الخلافة.
ثانيها: أن تتولى اللجنة التنفيذية تسمية النائب ضمن بنيتها، بما يُبقي القرار في دائرة محصورة وقابلة للضبط. أما السيناريو الثالث، فهو تفويض الرئيس نفسه باختيار النائب، وهو الخيار الأقرب لتوجهات الرئاسة، نظرًا لأنه يُبقي التحكم الكامل في يد عباس، ويحول دون بروز أي مركز قوى مستقل قد ينافسه لاحقًا.
في السياق ذاته، ورغم تمسك فصائل منظمة التحرير غالبًا بخطاب معارض من حيث الشكل، إلا أن تمرير خيار الرئيس في دعم ترشيح حسين الشيخ جرى دون خطوات مواجهة فعلية من هذه الفصائل، وقد اعتبرت بعض الجهات أن هذا التمرير يُكرّس واقعًا جديدًا من التفرد بالقرار داخل المنظمة، ويُنهي فعليًا التقاليد التي كانت تقضي بتوزيع المواقع القيادية بين الفصائل، كما كان الحال حين كان أمين سر اللجنة التنفيذية – الذي يُنظر إليه كمكافئ لمنصب النائب – من خارج حركة فتح.
تعيين محسوب ضمن بيئة مختلة
يأتي تمرير قرار تعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية في لحظة سياسية معقدة، لكنه في جوهره لا يخرج عن سياق الهيمنة والتحكم، أكثر مما يعكس رغبة صادقة في الإصلاح أو التجديد.
من الناحية القانونية، يجري التعيين في ظل بيئة دستورية وإجرائية مضطربة، بات فيها المجلس المركزي يؤدي أدوارًا ليست من صميم اختصاصاته، بعد أن تم تفويضه، بقرار من المجلس الوطني في دورة 2018، بصلاحيات الأخير، وهو ما شكّل سابقة استثنائية في الحياة السياسية الفلسطينية.
هذا التفويض الذي تستند إليه القيادة في استدعاء المجلس المركزي لعقد جلساته واتخاذ قرارات جوهرية، ومنها تعديل عضوية اللجنة التنفيذية، لم يرتكز على نص قانوني واضح، بل على سابقة سياسية لا تحظى بإجماع قانوني.
وفق النظام الأساسي لمنظمة التحرير، فإن انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية، وهيئة رئاسة المجلس الوطني، يقع حصريًا ضمن صلاحيات المجلس الوطني، كما أن اللائحة الداخلية للمجلس المركزي لا تمنحه أي تفويض صريح في هذا المجال. ما يعني أن تمرير التعيين عبر المركزي، أو حتى تفويض الرئيس باختيار نائبه، يندرج ضمن منطق الإحلال غير الدستوري، ويُفاقم من واقع التآكل المؤسسي الحاصل.
لكن هذا الخلل القانوني لا يمكن فصله عن البعد السياسي الذي تُدار به الأمور، فالتعيين لم يأت فقط استجابة للضغوط الإقليمية والدولية المطالبة بإصلاح بنية القيادة الفلسطينية، بل استُخدم لتكريس معادلة جديدة تحفظ للرئيس عباس تحكمه المطلق بمفاصل القرار.
والاختيار حُصر عمليًا بشخص حسين الشيخ، الذي يتولى فعليًا أدوارًا تماثل مهام نائب الرئيس من خلال موقعه كأمين سر اللجنة التنفيذية ومسؤول ملف العلاقات مع الاحتلال، دون أن يمنح المنصب الجديد أي صلاحيات فعلية تتجاوز الإطار الرمزي.
المناورة السياسية في التعيين تتمثل في أمرين: أولهما، أن المنصب يخص “نائب رئيس اللجنة التنفيذية”، وليس “نائب رئيس السلطة”، ما يجرده من أي صلاحية تنفيذية محتملة. وثانيهما، أن مرسومًا رئاسيًا صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 حسم أن من يخلف الرئيس في حال الشغور هو رئيس المجلس الوطني، وليس نائب الرئيس، ما يعزز إحكام السيطرة على مرحلة الانتقال.
هكذا، وجد عباس في التعيين فرصة مزدوجة: من جهة، تقديم واجهة تجديدية شكلية تُرضي الضغوط الإقليمية والدولية، ومن جهة أخرى، التمسك بإحكام قبضة السلطة بيديه، وضمان أن لا يتحول المنصب المستحدث إلى مركز قوى ينافسه أو يُشكّل تهديدًا له داخل الحركة أو المنظمة.
بل أكثر من ذلك، فإن تعيين نائب دون صلاحيات حقيقية يُطمئن الطامحين لوراثة عباس، ويُبقي على هامش مفتوح للتنافس دون حسم، ما يسمح بإدارة توازنات دقيقة داخل “فتح”، دون أن يُشعل معركة خلافة مبكرة.
في المحصلة، لا يُمكن فصل تعيين النائب عن السياق الأوسع لمنهج إدارة السلطة، الذي بات يُعيد إنتاج مؤسسات منظمة التحرير بما يخدم الحسابات السياسية للرئاسة، لا ما تقتضيه المصلحة الوطنية أو مقتضيات الشراكة. وبين تجاوز القانون وضبط التوازن، يُراد للتعيين أن يكون خطوة محسوبة، تحفظ للرئيس سلطته، وتمنح الآخرين صورة عن وجود مشاركة، دون أن تُقربهم من القرار.