ترجمة وتحرير: نون بوست
سمّ غزة ما شئت: حقول قتل، أو دوامة لا تنتهي من الدم والألم والموت، أو أكبر معسكر اعتقال في العالم، أو ـ كما يبدو أن غالبية سكان إسرائيل عازمون على القيام بذلك ـ يمكنك تجاهلها تمامًا.
يعيش يهود أشكناز تل أبيب في عزلة غربية، يحتسون قهوة الكابتشينو الصباحية، ويقلقون بشأن معلمي اليوغا لديهم، بينما يوجد على بعد ساعة واحدة بالسيارة أبشع المشاهد التي شهدها العالم منذ سريبرينيتسا أو رواندا.
ولكن هناك أمر واحد يبدو أن لا أحد منهم يفهمه وهو : أن حماس لن تستسلم.
إن الاعتقاد بأن قادة حماس في غزة سيأخذون المال ويهربون كما فعلت فتح سابقًا، يكشف، بعد 18 شهرًا من الحرب الشاملة وشهرين من المجاعة، عن مدى قلة فهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لعدوه.
لا شك أن العرض الإسرائيلي الأخير كان سيشكل بمثابة استسلام، وكان يتطلب تسليم جميع الرهائن مقابل 45 يومًا من الطعام والماء، والسعي لتجريد حماس من السلاح.
وردت حماس بأنها مستعدة لإطلاق سراح جميع الرهائن مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين وعرضت هدنة طويلة الأمد، تتعهد خلالها بعدم إعادة بناء أنفاقها أو تطوير أسلحتها، وبتسليم حكم غزة إلى فصائل فلسطينية أخرى.
ولكنها لم تتزحزح عن الشرطين اللذين وضعتهما في بداية هذه الحرب وهو: عدم نزع سلاحها، ومطالبتها بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من القطاع وبإنهاء الحرب بشكل كامل ونهائي.
نتنياهو المخرب
لقد أصبح جليًا ومتكررًا أن المأزق الذي يحول دون التوصل إلى تسوية تفاوضية يكمن في نتنياهو نفسه. ففي مناسبتين، وقع صفقات مع حماس فقط ليقوم بخرقها بنفسه من طرف واحد.
وفي المرة الأخيرة في يناير/ كانون الثاني، وافق على هدنة مرحلية، تم بموجبها إطلاق سراح 33 رهينة، وكان من المفترض أن تبدأ إسرائيل مفاوضات بشأن المرحلة الثانية ووقف إطلاق نار دائم.
لقد مزق نتنياهو ببساطة تلك الاتفاقية. وسمح له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفعل ذلك، على الرغم من أن هذه كانت الورقة التي نسب فيها الرئيس الجديد نسب الفضل لنفسه.
بتوافق الجميع، عاد نتنياهو إلى الحرب فقط لإنقاذ ائتلافه من الهزيمة الوشيكة في تصويت على الميزانية. أما الأهداف العسكرية فقد تم استنفادها منذ وقت طويل.
ولم تكن غزة تحت حصار كامل لمدة شهرين فحسب، بل إن إسرائيل كانت تقصف المستودعات التي تحتوي على الطعام المتبقي. لقد أصبح التجويع ، بلا شك، سلاحًا للتفاوض، إلا أن هذا لم يُجدِ نفعًا أيضًا.
كان مبعوث ترامب السابق لشؤون الرهائن، آدم بويلر، يواجه نفس تجربة مبعوثي بايدن مع نتنياهو. وكادت حماس أن تتوصل إلى اتفاق مستقل مع الولايات المتحدة بشأن تبادل الرهائن من خلال مفاوضات مباشرة، حتى علم نتنياهو بذلك وسرب التفاصيل لوسائل الإعلام.
وقال بويلر نفسه لقناة الجزيرة إن الحرب الإسرائيلية على غزة “ستنتهي فورًا” إذا تم الإفراج عن جميع الرهائن. وستوافق حماس على ذلك. ولكن ذلك لن يحدث إلا على جثة نتنياهو.
ولم يتغير الوضع منذ أن أشرف مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بيل بيرنز، على إنهاء الحرب من خلال مفاوضات قبل سنة، وهو الاتفاق الذي وقعته حماس، ليقوم نتنياهو بالانسحاب منه لاحقًا.
لا استسلام
وهناك أسباب عديدة تمنع حماس من الاستسلام للعقاب الليلي الذي تتعرض له هي وشعب غزة. فقد قُتل أكثر من 1500 فلسطيني منذ انهيار وقف إطلاق النار في مارس/آذار.
وفقدت حركة حماس الصف الأول من قياداتها، وحكومتها المدنية، وشرطتها، ودُمرت أغلبيّة مستشفياتها. كما تتعرض مدينة رفح للتدمير. ومع ذلك، لا تزال تواصل مقاومة عروض مالية كبيرة للذهاب إلى المنفى.
كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد ذهب إلى المنفى منذ زمن بعيد، كما فعل بعد أن تم محاصرة قوات منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الغربية سنة 1982. وكانت حركة فتح قد غادرت إلى الخارج بحلول ذلك الوقت.
لكن أيًا من هذه السوابق لا تنطبق على حماس؛ لماذا؟
أولاً وقبل كل شيء، إذا كان انهيار الجيش الإسرائيلي والمجازر التي ارتُكبت في جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول قد غيّرت إسرائيل إلى الأبد، فإن تدمير غزة قد غيّر القضية الفلسطينية إلى الأبد أيضًا.
فقد غزة أصبحت أرضًا مقدسة للفلسطينيين في كل مكان.
لا توجد عائلة في غزة لم تفقد أقاربها أو منازلها في هذه الحرب.
ولا يمكن فصل حماس أو أي من فصائل المقاومة الأخرى عن الشعب الذي تقاتل من أجله. ومع تزايد المعاناة الجماعية، يزداد أيضًا الإرادة الجماعية للبقاء على أراضيهم، كما أظهر الفلاحون العزل في جنوب الخليل.
وعلاوة على ذلك، لا يوجد مؤيد أكثر إقناعًا لضرورة مقاومة الاحتلال من سلوك الدولة الإسرائيلية نفسها. إنها محتل غامض ومستمرّ وسام لمساحة الآخرين.
“إنهاء المهمة”
لن تستكفي إسرائيل أبدًا من الأرض، ولا من السيطرة. إنها تسعى دائمًا للمزيد. ولن تكفّ عن فرض هيمنتها على جميع الأديان الأخرى في هذه المساحة. ففي عيد الفصح، يكون المسيحيون ضحايا لهذه الممارسات الاستيطانية مثلما هو الحال بالنسبة للمسلمين.
وتنشط حركتها الاستيطانية في أوقات السلام منها في أوقات الحرب، كما يُظهر تاريخ الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة بعد اتفاقات أوسلو.
ولا يمكن لإسرائيل الالتزام بحل الدولتين، لأنه لم يكن هناك سوى دولة واحدة في أذهان مؤسسيها وذريتهم. إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريش، ونتنياهو “يستكملون المهمة” معًا في إبادة الفلسطينيين من “أرض إسرائيل” التي بدأها ديفيد بن غوريون ثم أوقف.
إنها خرافة متكررة ومُريحة، يُغذيها الصهاينة الليبراليون، لفصل جماعات إسرائيل المختلفة حول القضية الفلسطينية، لعدم وجود اختلافات جوهرية. وهذا أصدق اليوم مما كان عليه وقت اغتيال إسحاق رابين.
وليس من قبيل الصدفة أنه في الوقت الذي يشهد فيه المسجد الأقصى اقتحام عدد كبير من اليهود له من أجل ممارسة صلاتهم؛ حيث دخل أكثر من 6,000 يهودي إلى الساحات للصلاة منذ بداية عيد الفصح يوم السبت، وهو عدد يفوق عدد الزوار اليهود خلال الأعياد السنة الماضية، صوتت المحكمة العليا الإسرائيلية بالإجماع لرفض دعوى رفعتها عدة منظمات حقوقية تطالب باستئناف إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
إن دولة إسرائيل بكل أشكالها، الدينية والعلمانية، تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته، حتى وإن كانت هذه الجماعات في حالة حرب مع بعضها البعض بشأن العديد من القضايا الأخرى.
إن استسلام حماس، ومعها غزة، سيكون اليوم بمثابة استسلام للقضية الفلسطينية نفسها. ليس لأن جميع الفلسطينيين متدينون، أو لأن حركة فتح غير شعبية إلى هذا الحد، ولكن لأن المقاومة تمثل الطريق الوحيد المتبقي لإنهاء الاحتلال.
إن حجم المعاناة التي ألحقتها إسرائيل بجميع الفلسطينيين في نطاق سيطرتها، في غزة والضفة الغربية والقدس وإسرائيل على حد سواء، يعني أن مصير حماس هو مصير فلسطين أيضًا.
لكن حماس تختلف عن فتح في كونها منظمة دينية. فقد بدأت هذه الحرب بسبب اقتحامات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى. وقد لجأ الفلسطينيون في غزة إلى دينهملاستيعاب المجزرة التي تعرضوا لها.
الهدف الإستراتيجي
إن الانضباط الجماعي والإيمان في حركة حماس هو ما حال دون تحولها إلى منظمة فاسدة، وهذا يؤثر على الجميع.
لقد طلب رفعت رضوان، المسعف البالغ من العمر 23 سنة، الذي سُجلت كلماته الأخيرة على هاتفه، من الله أن يغفر له لعدم صلاته بانتظام خمس مرات في اليوم. لم يكن متدينًا بشكل صارم وواضح أنه لم يكن عضوًا في حماس، لكنه كان متدينًا بما يكفي ليطلب المغفرة في لحظاته الأخيرة.
إذا كان هناك رمز للشجاعة والتضحية التي يقدمها الفلسطينيون في غزة في مواجهة ظروف صعبة وقاسية، فرضوان هو هذا الرمز. على فراش موته، لم يُحطم إيمانه بقائد إلهي، وكذلك لن تُحطم غزة أيضًا.
هناك أسباب أخرى أقل أهميةً تجعل حماس لن تستسلم.
مهما كان المصير الذي ينتظرها كمنظمة – ولنكن صريحين، فقد سُحقت حركات تمرد مثل نمور التاميل أو متمردي الشيشان بقوة ساحقة، بينما انحسرت حركات أخرى مثل “إيتا” دون أن تحقق أهدافها الرئيسية – فإن حماس تعتقد بالفعل أنها حققت هدفها الإستراتيجي.
وكان ذلك من أجل دفع السعي الفلسطيني لتحقيق تقرير المصير في دولة خاصة بهم إلى قمة أجندة حقوق الإنسان العالمية مرة أخرى.
خلال السنوات الثلاث الماضية، تحولت آراء الجمهور الأمريكي تجاه إسرائيل إلى السلبية، وفقًا لمؤسسة “بيو ريسيرش”. ويعبر أكثر من نصف البالغين في الولايات المتحدة – 53 بالمائة – عن رأي سلبي تجاه إسرائيل، بزيادة تسع نقاط مئوية عن ما كانت عليه الآراء قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
إن حماس تكسب حرب الرأي العام، بينما تخسرها إسرائيل، خاصة في الدول التي تُعتبر فيها الجماعة منظمة محظورة. ويطالب القانون من الناس باعتبار حماس إرهابية، لكنهم يتراجعون عن ذلك بشكل متزايد، رغم أنهم يعتقدون أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول كان عملاً شريرًا.
إذا كانت إسرائيل ترغب في إنهاء هذا الصراع بشكل نهائي بالقوة، فمن المؤكد أن الهدف نفسه أصبح محفورًا في وعي كل فلسطيني أيضًا. وكلما استمر نتنياهو في حملته الفاشلة في غزة، اقتربت الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا من الاعتراف بدولة فلسطينية.
مفاوضات معقدة
يسعى المبعوثون السابقون لترامب حاليًا لإجراء ثلاث جولات من المفاوضات المعقدة في وقت واحد، وهم يتعلمون درسًا صعبًا مدى تعقيد كل منها.
إن غزة ليست سوى واحدة من ثلاث صراعات، ويريد ترامب تحقيق نتائج سريعة. فلا يملك الصبر الكافي للسعي وراء أي منها لأي فترة زمنية. وعلاوة على ذلك، ثمة صراعان مترابطان بشدة.
إن الدول نفسها التي تمنع الولايات المتحدة من استخدام مجالها الجوي في حال حدوث هجوم على إيران تقاوم تهجير السكان بشكل جماعي من غزة، وإسرائيل ومصر في حالة عداء علني بشأن سيناء، حيث يتهم كل منهما الآخر بانتهاك بنود اتفاقية كامب ديفيد.
إذا تعثرت مفاوضات ترامب مع إيران، فسيجدد نتنياهو ضغوطه لقصف مواقعها النووية، دون التوصل إلى حل لغزة. حان وقت اتخاذ القرار لنتنياهو، البراغماتي، ولن يكون لديه الكثير من الأوراق التي يعتقد أنه يملكها حاليًا.
بالنسبة لقوى عسكرية بحجم الولايات المتحدة وحلف الناتو، فقد كانت طالبان تعتبر تحديًا يفوق قدرتهم، وكذلك كانت المقاومة في العراق.
وبالنسبة لدولة صغيرة تعتمد على الولايات المتحدة مثل إسرائيل، فإن خوض حرب أبدية في غزة يُعد أمرًا أقل استدامة بكثير. وسيكون من الحكمة أن تُقلل إسرائيل خسائرها الآن وتنسحب من غزة قبل أن تتكبد مزيدًا من الخسائر على الساحة العالمية.
وبمجرد أن تُحطم هالة القوة التي لا تُقهر، كما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإنها ستزول إلى الأبد.
المصدر: ميدل إيست آي