في خطوة مثيرة للجدل اعتبرها مراقبون مؤشرًا على تغيّر في تعاطي الحكومة السورية الجديدة مع الفصائل الفلسطينية، اعتقلت القوات السلطات السورية في العاصمة دمشق كلًا من خالد خالد، مسؤول حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في سوريا، وأبو علي ياسر الزفري، مسؤول اللجنة التنظيمية للساحة السورية.
وحسب بيان لـ”سرايا القدس” الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، نشر يوم الثلاثاء 22 أبريل/ نيسان، فإن “الاعتقالات جرت قبل خمسة أيام دون توضيح رسمي للأسباب”، وعبّرت الحركة عن أسفها من طريقة الاعتقال، بالقول، “لم نكن نتمنى أن نراها من إخوة لطالما كانت أرضهم حاضنة للمخلصين والأحرار”.
وأضاف بيان الحركة: “نأمل من إخواننا في الحكومة السورية الإفراج عن إخواننا لديهم وكلنا أمل بأنكم أهلًا للنخوة العربية التي يكرم بها الضيف وينصر بها أهل الحق”.
خلفيات ودوافع الاعتقال
تواصلت “نون بوست” مع المسؤول الإعلامي في وزارة الداخلية للوقوف على حادثة الاعتقال، لكنها لم تتلق أي ردٍ حتى نشر هذا التقرير، كما لم تنشر وسائل الإعلام التابعة للحكومة السورية أي تفاصيل عن الحادثة حتى الآن، وهو ما يثير التساؤل عن الخلفية السياسية والتوقيت الحساس للعملية.
لكن مصادر أكدت لوكالة الأنباء الألمانية، أن حادثة الاعتقال جاءت بعد أقل من 48 ساعة من زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى دمشق ولقاء الرئيس أحمد الشرع.
مشيرة إلى “تحرك كبير من قيادات فلسطينية وعربية داخل سوريا وخارجها للإفراج عن القياديين الفلسطينيين”، مما يعكس أهمية الشخصيتين.
في 18 أبريل/ نيسان الجاري، زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس العاصمة دمشق، حيث التقى الرئيس أحمد الشرع، في أول زيارة له لدمشق منذ عام 2007.
ويمكن قراءة اللقاء بأنه يشير بداية إلى رغبة دمشق في رسم إعادة تموضع إقليمي جديد، وتحسين علاقاتها مع الأطراف التي تملك شرعية دولية كالسلطة الفلسطينية في رام الله، وهو نهج منسجم مع الموقف العربي شكلًا ومضمونًا، إضافة إلى فتح قنوات معها وإعادة هيكلة العلاقات مع الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت جناح سلطة محمود عباس فقط، لاعتبارات عديدة، أهمها ما يخصّ فصائل غزة المرتبطة بإيران.
أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية الساعية للتمدد كطرف شرعي وغير مزعج لدمشق، فهي أيضًا تسعى لاستغلال أي فرصة لإعادة الهيمنة على تمثيل الفلسطينيين والتأكيد على أنها الممثل الشرعي الوحيد، وأن الفصائل الخارجة عنها تقوّض الحل السياسي مع “إسرائيل”، إضافة إلى رغبتها في إفراغ الملف الفلسطيني من الفاعلين الحقيقين فيه الموجودين في سوريا أو لبنان.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الباحث السياسي بسام السليمان، أنه رغم عدم الجزم حتى الآن بملابسات قضية الاعتقال إن كان مجرد استدعاء أو اعتقال، إلا أن الثابت أن سوريا خارجة من حالة احتلال إيراني ومن حقّها أن تنهي ارتباطها مع أي جهة كانت ضمن محور طهران، عدا عن أن سوريا دولة ولديها فصائل عسكرية كثيرة كما أن لديها حساسية مفرطة من استمرار أي حالة عسكرية دون دولتية، فهي لا تريد التعامل مع أي فواعل ضمن هذه الدولة.
من جهته، يشير معن الطلاع، باحث سياسي في مركز عمران للدراسات، إلى أن حادثة الاعتقال إجراء أمني منسجم مع الرسالة الإقليمية لدمشق التي تحاول تثبيتها بعدم جعل سوريا منصة إلى اللااستقرار الإقليمي المحلي.
“دمشق تهدف من وراء حادثة الاعتقال إلى إيصال التحولات التي تشهدها الساحة السورية بعد سقوط النظام وما تتطلبه عملية إطلاق الدولة والاستقرار، في ظل التحديات الإقليمية والمحلية والخارطة المعقدة من مصالح هذه الدول”، حسب حديث الباحث الطلاع لـ”نون بوست”.
حركة الجهاد الإسلامي
منذ التسعينيات باتت سوريا واحدة من أهم الحدائق الخلفية لحركة الجهاد الإسلامي، إذ وفر نظام الأسد الأب والابن الدعم السياسي والإعلامي لها، إضافة إلى تقديمه تسهيلات لوجستية للتواصل مع طهران وبيروت وغزة.
ووقفت الجهاد الإسلامي من الثورة السورية موقف المحايد، إذ لم تصطدم بالنظام المخلوع ولا بالمعارضة، وبقيت محافظة على وجود مكتبها السياسي في العاصمة دمشق، خاصة أنها تعتبر من أقرب الفصائل الفلسطينية إلى إيران عسكريًا وسياسيًا وتمويليًا، ومع سقوط النظام لم تغادر الحركة سوريا، كحال بعض الفصائل الفلسطينية المتورطة في انتهاكات بحق السوريين كونها كانت تقاتل إلى جانب الرئيس المخلوع.
لكن مع بقاء ارتباطها بإيران و”حزب الله”، فإنها تقف الآن موقفًا صعبًا أمام الحكومة السورية التي تعتبر أي علاقة مع الطرفين خطًّأ أحمر قد يكلفها الكثير.
تحولات دمشق
خلال عهد الحكم البائد لم تتوقف الاستهدافات الإسرائيلية لقيادات تتبع للجهاد الإسلامي في سوريا، إذ يمكن ملاحظة غارات بارزة بعد سقوط النظام في آذار/ مارس الفائت طالت المتحدث باسم الحركة “محمد الحاج موسى”، قبل أن تؤكد شبكة CNN أن المبنى المستهدف كان فارغًا، ما يشير إلى فشل العملية في تحقيق أهدافها.
وتبرّر “إسرائيل” استهدافاتها بمنع تموضع هذه الفصائل واستخدام الأراضي السورية كمسرح لشنّ هجمات ضدها، إضافة لقطع خطوط التواصل والتمويل مع طهران.
من جهة أخرى وأمام الضغط الإسرائيلي تربط أراءٌ أيضًا الوثيقة الأمريكية المقدَّمة لدمشق بمطالبها الثمانية للبدء بتخفيف العقوبات عنها، من بينها إصدار إعلان رسمي عام يحظر جميع الفصائل الفلسطينية والأنشطة السياسية وترحيل أعضائها لتهدئة المخاوف الإسرائيلية، مع تصنيف كل من الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” اللبناني تنظيمًا إرهابيًا.
مجلة “المجلة”، وبعد اطلاعها على ثلاث وثائق، أميركية وسورية وأممية، والتي رسمت الاتجاهات المحتملة للعلاقات بين دمشق وكل من واشنطن والأمم المتحدة، أشارت إلى أن دمشق اتخذت خطوات من بينها منع نشاطات الفصائل الفلسطينية المسلحة ومحاربة “داعش”.
يشير الباحث السليمان إلى أن القيادة السورية أكدت منذ البداية أنها لن تكون مصدر مشاكل وقلق لأي دولة من دول الجوار، لأنها تحتاج إلى تصفير مشاكلها مع جميع الأطراف والالتفات إلى الشأن الداخلي.
ويرى السليمان أن لا مشكلة إن كان تقويض عمل المنظمات الفلسطينية المرتبطة بالمحور الإيراني مرتبط بتنفيذ طلبات ورقة واشنطن، معللًا السبب بالقول، إن “السوريين يعيشون حالة مأساوية ومن واجب السلطة اليوم أن تنأى بأي مشاكل دولية، كما أن الحكومة لديها تموضعات إقليمية معينة وخاصة في الخليج العربي، ومع هذه التموضعات هناك وجهة نظر تجاه جميع الفواعل ضمن الدولة”.
ويتفق الباحث الطلاع مع الباحث السليمان في أن التحديات السورية الأمنية والاقتصادية والسياسية والتنموية التي تعتري المشهد السياسي تستوجب اليوم انكفاء الدولة على الداخل، وانتهاج سياسة إقليمية متوازنة هادئة تعزّز معدلات الاستقرار المحلي والإقليمي.
ختامًا.. في ظل الظروف التي تشهدها الساحة السورية لا يمكن أن يكون اعتقال قيادات بالجهاد الإسلامي مجرد حدث أمني عابر، بل مؤشر على تحوّلات سياسية عميقة قد تنأى فيها دمشق بنفسها عن حالة الاستقطاب في المنطقة، وتخضع فيها لضغوط واشنطن وشروطها، في رحلتها نحو فك عزلتها والخلاص من العقوبات والتصنيفات والنهوض بالبلاد الخارجة من حرب أصلًا.