بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وجدت إيران فرصة مناسبة جدًا لمد نفوذها في الدولة العراقية الوليدة، في الوقت الذي كان العراق حتى وقت قريب، هو العدو الأول لها وخاضت معه حربَا دامت لثمانِ سنوات.
في هذا الصدد، لعِبت إيران على حاجة واشنطن لاستكمال احتلالها للعراق من خلال التخلص من المقاومة التي اندلعت مباشرة بعد الاحتلال والتي كانت في غالبها من العرب السنَّة، فساعدت الاحتلال في القضاء على المقاومة، وفي بناء الدولة العراقية الجديدة وفق شروطها، من خلال تقديمها لمواليها من الأحزاب الشيعية، كعناصر قادرة على إدارة هذه الدولة.
لكن في حقيقة الأمر كانت طهران تسعى لتأسيس دولة فاشلة غير قادرة على خدمة شعبها، حيث كانت الأحزاب الشيعية التي تصدت لأمر قيادة الدولة، ليست لها مشكلة مع المحتل الأمريكي للعراق، إذا ما ضمن المحتل بقائها بالسلطة.
سارت الأمور كما أرادت إيران وخططت، وبدأ تعاونها مع أمريكا بشكله السري أحيانًا والعلني أحيانًا أخرى للقضاء على أي مقاومة للاحتلال والعمل على تأسيس الدولة الجديدة وفق ما تريده طهران وواشنطن.
في المقابل كان عليها التعامل مع متطلبات ما يسمى بـ “النظام الديمقراطي الجديد” في العراق، والذي يجب أن يعطي الحق لكل الأطياف العراقية بالتمثيل السياسي والمشاركة السياسية في إدارة الدولة. لكنها عملت على تقليل التمثيل السياسي للعرب السنَّة، والعمل على تفتيت الكتل السياسية السنيَّة وتهميش المناصب السياسية والأمنية التي يحصل عليها السنَّة من خلال عملية المحاصصة السياسية والطائفية في البلد.
فكيف بدأت هذه العملية من التهميش للسنَّة؟ وما هي المجالات التي عملت عليها إيران لتحقيق ذلك؟ وما الأسباب التي دعت لفعل ذلك؟
شيطنة المقاومة العراقية الحقيقية
من بواكير العمل الإيراني على تهميش الفئة الاجتماعية الأكثر معارضة للتغيرات التي أحدثها الاحتلال والمتمثلة بـ “العرب السنَّة”، كان العمل على محاربة وشيطنة المقاومة العراقية التي في غالبها انحصرت في مناطق ذات غالبية عربية سنيَّة، بسبب البعد العقائدي والوطني لهذه الشريحة المجتمعية العراقية، والذي لا يسمح لهم بالتعاون مع المحتل مهما كانت جنسيته.
بينما كان الوضع في المناطق الكردية والشيعية مختلفًا قليلًا، جيث كانوا ينظرون للنظام السابق على أنه نظام ضد تطلعاتهم القومية (في الحالة الكردية) وضد عقائدهم الدينية كما في الحالة (الشيعية)، رافق ذلك، تغذية لمثل هذه المشاعر عند الكرد والشيعة من الجانب الأمريكي والإيراني على التوالي.
بدأ الجهد الإيراني في شيطنة المقاومة العراقية والعمل ضدها من خلال زجها للميليشيات الشيعية الموالية لها في مساعدة الجهد العسكري الأمريكي ضد المقاومين، سواء من خلال انخراطهم بالأجهزة الأمنية المشكّلة حديثًا، أو من خلال العمل بشكل مباشر ضد المقاومين بعمليات الاغتيال والانفجارات التي طالت مناطق السنَّة.
لكن الأخطر من ذلك، كان العمل على دعم تنظيمات متطرفة مثل تنظيم القاعدة لارتكاب جرائم بحق الشيعة والسنَّة وباقي العراقيين، بهدف الإساءة إلى سمعة المقاومة وضرب الحاضنة الشعبية التي تتعاطف معها.
عمل هذا التنظيم على استعداء جميع الطوائف العراقية وارتكاب الجرائم بحقها باسم السنَّة، واستغلت إيران هذا لاتهام كل عربي سنَّي بأنه يتبنى عقائد هذا التنظيم المتطرف، وبدأت تتنامى مشاعر عدم الثقة بهذا المكون العراقي الأصيل.
فضلًا عن هذا، قام التنظيم بمنع السنَّة من الانخراط بأي وظيفة حكومية في الدولة الجديدة، سواء كانت أمنية أم مدنية، الأمر الذي جعل العرب السنَّة في حالة تهميش كبير استفادت منه القوى الشيعية بشكل مباشر وشجعت عليه، وهذا كان من أهم أهداف إيران في العراق.
ودعمت إيران التنظيم ماليا وعسكريًا، وتَذكُر مصادر مقربة من فصائل المقاومة العراقية، بأنها وأثناء معاركها مع تنظيم القاعدة في العراق، عثروا على أموال وأسلحة إيرانية في مقراتهم، ناهيك عما كشفته وسائل إعلامية عديدة عن تواجد عدد من قادة التنظيم مع أسرهم يقيمون داخل الأراضي الإيرانية وبحماية السلطات هناك.
نفس الاجراء اتخذته إيران في تعاملها مع تنظيم داعش الذي أضر بالسنَّة بشكل بالغ جعلهم الحلقة الأضعف في العراق حتى الآن.
وأشغلت إيران وأدواتها المقاومة العراقية بحروب جانبية مع تنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم داعش، إضافة إلى أن هذه التنظيمات وجهت جهدها العسكري في محاربة المقاومة العراقية بدلًا من محاربة الاحتلال الأمريكي أو النظام الطائفي العراقي. الأمر الذي أضعف المقاومة ما اضطر الكثير من أفرادها، التوقف عن العمل ضد المحتل الأمريكي وتوجيه جهدهم لحرب هذه التنظيمات.
من جهتها، غضّت القوات الأمريكية الطرف عن تحركات العشائر السنيّة التي قاتلت تنظيم القاعدة بين عامي 2007 و2009، فيما عُرف لاحقًا بـ “الصحوات”، حيث نجحت هذه التشكيلات في كبح تمدد التنظيم داخل المناطق السنيّة، لكنها في المقابل تكبّدت خسارة كبيرة على مستوى الحاضنة الشعبية، إذ وُصفت من قبل البعض بأنها تخلّت عن مقاومة الاحتلال الأمريكي ووجهت سلاحها نحو فصيلٍ كان يُروَّج له – رغم طبيعته المتطرفة – على أنه جزء من المقاومة.
بعد القضاء على تنظيم القاعدة، عمل النظام العراقي الطائفي، على تفكيك قوات “الصحوات”، لاسيما وإن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة لهم لمحاربة التنظيم، مما جعلهم في خسارة حقيقة يصعب عليهم تعويضها، ما دفع فصائل المقاومة باعتزال العمل المسلح ضد التنظيم وضد القوات الأمريكية، ولم يتم الاعتراف بفضلهم من قبل النظام الحاكم سواء عملهم ضد التنظيم أو ضد قوات الاحتلال.
وبهذا لم يكن لها حظ يُذكر في المشاركة بحكم البلاد كما حصل لباقي الميليشيات الشيعية، فانجلى المشهد عن صورة إن الحكم تم الاستيلاء عليه بشكل شبه كامل من قبل الشيعة والكرد الراعي الأمريكي.
تفتيت الكتل السياسية السنيَّة وإضعافها
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والعمل على بناء عملية سياسية وفق ما يريده الاحتلال وبالتعاون مع إيران، رفض معظم السنَّة الانخراط بالعملية السياسية كونها إحدى منتجات الاحتلال، لكن هناك سياسيون سنَّة رأوا أن التفكير الواقعي يحتم عليهم الانخراط بالعملية السياسية لضمان حقوق أهل السنة والحيلولة دون استئثار الشيعة والكرد على مقاليد الحكم بالكامل.
وعلى هذا الأساس تم تشكيل أول تحالف سنَّي سياسي لخوض الانتخابات الأولى عام 2005، عُرف حينها باسم “جبهة التوافق العراقية” وكانت مُشكَّلة من الحزب الإسلامي العراقي، وحزب “مؤتمر أهل العراق، وحزب “مجلس الحوار الوطني العراقي” وحصلت هذه الجبهة على 44 مقعدا في البرلمان بالرغم من اعتراضها على نتائج الانتخابات واتهمتها بالتزوير.
على الرغم من العدد المتواضع لنواب السنَّة إلى أنهم كانوا مؤثرين سياسيًا، مما سبب للأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران صداعًا كبيرًا لهم، وقامت إيران وأحزابها، بالعمل على تفتيت هذه التحالف السنَّي من خلال محاربته سياسيًا واغتيال بعض الشخصيات البارزة فيه، مثل أياد العزي، وحارث العبيدي وغيرهم كثير.
أول انشقاق حدث داخل هذه الجبهة حينما اختلفت جماعة “الحوار” حول منصب رئاسة البرلمان بعد استقالة محمود المشهداني واستبداله بإياد السامرائي، فيما عمِدت الأطراف الشيعية للترويج لتهمة الفساد المالي للمسؤولين الحكوميين المنتسبين لهذه الجبهة، أو اتهامهم بالإرهاب، فنتج عن ذلك تفتت هذه الجبهة السياسية إلى غير رجعة.
كما أن فشل هذه الجبهة بتجنيب المناطق السنية من عمليات المداهمات والاعتقالات والقتل التي تطالها، أضر بشعبيتهم كثيرًا عند حاضنتهم الشعبية، بالأخص الحزب الإسلامي الذي انعكس ذلك على مستوى تمثيله بالبرلمان فلم يحصل بالانتخابات اللاحقة إلَّا على عدد قليل جداً من المقاعد النيابية.
في عام 2010، انخرطت جميع الأحزاب والكتل السياسية السنيَّة في تحالف اسمه “القائمة العراقية” والتي تزعمها السياسي أياد علاوي، وعلى الرغم من أن علاوي كان شيعيًا، إلا أن خطابه كان غير طائفي، فهي وبطريقة أخرى تعتبر قائمة انتخابية سنيَّة بامتياز.
وحينما ظهرت نتائج الانتخابات، كانت القائمة العراقية الفائز الأول فيها، إلا أنها فشلت في تشكيل الحكومة، بسبب تفسيرات المحكمة الاتحادية للدستور بأن الكتلة الفائزة هي الكتلة التي تجمع عدد نواب أكثر داخل قبة البرلمان وليس بالانتخابات، الأمر الذي استفادت منه الأحزاب الشيعية لتلتف جميعها وترشح نوري المالكي لرئاسة الوزراء للمرة الثانية بالرغم من عدم فوز كتلته بأغلبية المقاعد البرلمانية.
وفي السنوات اللاحقة ظهرت كُتل سياسية سنيَّة عديدة وفي كل المحافظات السنيَّة، الأمر الذي جعل الأصوات السنيَّة تتشتت في مقابل توحد القوائم الانتخابية الشيعيَّة والكردية. وغالبًا ما كانت إيران تحاول الحيلولة دون توحد الكتل السنيَّة وتقرب أحدهما على حساب الأخرى لتشتيت وحدة القرار السنَّي.
حاليًا، نحن أمام بعض الكتل السياسية السنيّة المتخاصمة أحيانًا، والمتصالحة أحيانًا أخرى، وهي: حزب “تقدم” بقيادة رئيس البرلمان المقال محمد الحلبوسي، وتحالف “عزم” المُشكّل من عدة أحزاب، والذي كان يترأسه خميس الخنجر، بينما يترأسه حاليًا مثنى السامرائي. وشكّلت هاتان الكتلتان تحالفًا جديدًا باسم “تحالف السيادة”، يتولى رئاسته حاليًا خميس الخنجر.
لكن يبقى السؤال، إلى أي مدى سيصمد هذا التحالف؟ خاصة أنه سبق وتحالفا من قبل، لكن انفضَّ تحالفهم لاحقًا.
تهميش العرب السنَّة في المناصب السياسية
بعد إسقاط نظام صدام حسين، حاولت الولايات المتحدة العمل على تأسيس دولة عراقية جديدة من الصفر، وحلت كل المؤسسات الحكومية والأمنية العراقية والعمل على تأسيس مؤسسات جديدة وبعناصر جديدة، وفي ظل المقاطعة العربية السنَّية لمؤسسات الدولة بعد الاحتلال، (والتي ساهم في الترويج لهذه المقاطعة تنظيم القاعدة وبعض الأطراف السياسية السنَّية التي رأت بأن مقاطعة الدولة العراقية لما بعد الاحتلال هو عملًا مقاومًا). استفادت الكتل السياسية الشيعية والكردية للاستيلاء على كل مفاصل الدول العراقية الجديدة، ماعدا تمثيل شكلي لبعض الأطراف السنيَّة التي اقتنعت بالمشاركة السياسية.
كما أن التصور المسبق الذي تبنته دولة الاحتلال عن طبيعة الحكم في العراق ساهمت بتكريس التهميش والاقصاء بحق السنَّة، فقد صرح الحاكم المدني الأمريكي بول برايمر، بأن “تحرير العراق” الذي قامت به الولايات المتحدة هو انهاء لحكم السنَّة الذي دام لـ 1000 سنة!
الأمريكي بول بريمير الحاكم العسكري للعراق في لقاء سابق مع #الجزيرة: عندما أطحنا بالرئيس العراقي #صدام فقد أطحنا أيضا بألف سنة من “التسلط السني” بداية من الخلافة العباسية مرورا بالأتراك وصولا إلى المملكة الهاشمية، وينبغي علينا عدم إسقاط العلويين في #سوريا. pic.twitter.com/vlXPJXFCw3
— سمير النمري Sameer Alnamri (@sameer_alnamri) January 4, 2020
عند تشكيل مجلس الحكم، أول مؤسسة سياسية أنشأها الاحتلال الأمريكي بعد سقوط النظام العراقي، مُنح السنّة تمثيلًا بنسبة 20%. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه النسبة أساسًا معتمدًا لتمثيل السنّة سياسيًا، سواء في الانتخابات أو داخل البرلمان أو في مختلف المؤسسات الأمنية والمدنية.
نتج عن ذلك، إنه في أول انتخابات وفقًا للدستور الذي تم اعتماده عام 2005، شكَّل التمثيل السياسي السنَّي الدرجة الثانية بعد التمثيل السياسي الشيعي، وذلك من خلال احتساب عدد مقاعد البرلمان للمحافظات السنَّية بأقل من قيمتها مقارنة مع المحافظات الشيعية، أما المحافظات الكردية فقد تضخمت للدرجة التي حازت على نسبة تمثيل سياسي بأكبر من حجمهما الحقيقي بمراحل.
ومن خلال التحالف بين الكتل الشيعية والكردية في البرلمان كان منصب رئيس الوزراء (وهو المنصب الأهم وفق الدستور العراقي)، من حصة الشيعة، ومنصب رئاسة الجمهورية للكرد، أما منصب رئاسة البرلمان فكانت من حصة السنَّة.

بالمقابل، قامت بدعم وتشكيل أجهزة أمنية عسكرية أخرى رديفة لا ترتبط بوزارة الدفاع، ويكون ارتباطها بشكل مباشر برئاسة الوزراء مثل جهاز مكافحة الإرهاب، وجهاز الأمن الوطني، وجهاز المخابرات وغيرها من الأجهزة الأمنية، كما استحدثت هيئة الحشد الشعبي بعد عام 2014، مرتبطة برئاسة الوزراء والتي تتشكل من ميليشيات سابقة معروفة بولائها لإيران، وتم دعم هذه الهيئة عسكريا وعقائديًا بشكل كبير مع غض نظر متعمد من قبل الجانب الأمريكي عن تغول هذه المؤسسة على حساب مؤسسة الجيش الرسمي.
وفي السياق، عمِلت الحكومات العراقية المتعاقبة لما بعد الاحتلال، على عدم تسليح الجيش العراقي بأسلحة نوعية بحجة عدم الحاجة لذلك، فيما عارضت الأحزاب الكردية تسليح الجيش بأسلحة نوعية لخشيتها من ارتكاب هذا الجيش مجازر عرقية ضد الكرد كما فعل النظام السابق!
كما انتشرت في هذه المؤسسة عمليات الفساد في صفقات التسليح الوهمية بشكل كبير، كذلك انتشار ظاهرة “الفضائيين” وهم جنود وموظفين وهمين يتقاضون على أسمائهم رواتب من خزينة الدولة.
فرضت الكتل السياسية الشيعية “فيتو” صريحًا على أي مساعٍ لتسليح الجيش العراقي بشكل فعّال، خشية من أن يشكّل هذا الجيش مستقبلًا تهديدًا على سلطتها، أو ينقلب عليها. ونتيجة لذلك، تراجع دور الجيش كمؤسسة سيادية مسؤولة حصريًا عن أمن البلاد، وأصبح يتقاسم هذا الدور مع قوى أمنية أخرى ذات ولاءات سياسية واضحة، في مقدمتها ميليشيا الحشد الشعبي الموالية لإيران، وقوات البيشمركة في إقليم كردستان، إلى جانب أجهزة أمنية مختلفة ترتبط بطهران بشكل مباشر أو غير مباشر.
لاحقًا، توسّع المشهد الأمني أكثر باستحداث فصائل مسلحة جديدة لا تتبع رسميًا لأي من المؤسسات الأمنية العراقية، ولا حتى للحشد الشعبي، بل تُعرَف بـ”الفصائل الولائية”، وتعمل تحت إشراف إيراني مباشر، داخل العراق وخارجه، وتنفذ أجندة طهران الإقليمية دون الرجوع إلى الدولة العراقية.
وفي الشمال، برز دور مجاميع مسلحة تابعة لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا انفصالية ضد تركيا، ويحظى بدعم إيراني لوجستي وسياسي.
تهميش مؤسسة رئاسة الجمهورية
من أبرز مظاهر التهميش السياسي الذي مارسته إيران داخل العراق، كان استهداف مؤسسة رئاسة الجمهورية. فعلى الرغم من أن هذا المنصب يتمتع بصلاحيات محدودة وفقًا للدستور العراقي، وجرى العرف السياسي على أن يُمنح للأكراد، إلا أن إيران ومعها الكتل الشيعية الحليفة، سعت لتقليص دور هذه المؤسسة إلى الحد الأدنى، حتى ضمن الصلاحيات البروتوكولية الممنوحة لها.
امتد هذا التهميش كذلك إلى مناصب نواب رئيس الجمهورية، التي خُصص أحدها للكتل السنيّة، حيث جُرّدت هذه المناصب من فعاليتها، لضمان تركّز السلطة الفعلية في يد رئيس الوزراء، الذي يجب أن يكون، وفق المحاصصة، من المكون الشيعي.
ولهذا السبب، حرصت الكتل الشيعية، عبر أغلبيتها البرلمانية، على منع وصول أي شخصية قوية أو مستقلة إلى رئاسة الجمهورية، لتظل المؤسسة بلا تأثير حقيقي، مقتصرة على التوقيع الرمزي لأحكام الإعدام وحضور المناسبات الرسمية.
وعندما شغل شخصية سنيّة وازنة مثل طارق الهاشمي منصب نائب رئيس الجمهورية، وأبدى معارضة علنية لسياسات الكتل الشيعية، جرى استهدافه سياسيًا وقضائيًا بتهم تتعلق بالإرهاب، طالت حتى أفراد حمايته، ما اضطره إلى مغادرة البلاد، لتنتهي بذلك مسيرته السياسية، وتُطوى صفحته حتى اليوم.
وهنا يبرز التساؤل، لماذا هذا الإصرار من الكتل السياسية الكردية على التمسك بمنصب رئاسة الجمهورية بالرغم من قلة تأثيره في العملية السياسية؟
يرجع ذلك لعدة أسباب أهمها، أن منصب رئيس الجمهورية يعتبر حامي للدستور، والكرد حققوا مكاسب كبيرة من هذا الدستور الجديد ولا يريدون التضحية بها، كذلك هناك أسباب تتعلق بالفساد المالي، فرئيس الجمهورية له صلاحيات مالية كبيرة يمكن من خلالها توفير دعمًا ماليًا كبيرًا للحزب الذي يخرج منه رئيس الدولة.
إضافة إلى أسباب أخرى أقل شأنًا، مثل العقدة التي يعاني منها السياسيون الكرد، على اعتبار انهم كانوا يتعرضون للتهميش بعهد النظام السابق، فهم حريصون على الحصول على أعلى منصب في الدولة العراقية الجديدة حتى لو كانت صلاحياته قليلة.
هذا الأمر تم استغلاله من قبل إيران والكتل السياسية الشيعية، للضغط على الكرد لتقديم تنازلات تتعلق بالمضي بالأجندة الإيرانية، فقد تم الضغط على الرئيس لتوقيع أحكام الإعدام بحق المئات من أفراد المقاومة العراقية السنَّية أو الأبرياء المنتزع اعترافاتهم بالتعذيب، وكذلك العمل على زيادة تهميش المكون العربي السنَّي، والعمل على دعم التوجهات السياسية للكتل الشيعية واستفرادها بالحكم.
تهميش رئاسة البرلمان العراقي
وبنفس المنهج الذي اتُّبع مع مؤسسة رئاسة الجمهورية، تعاملت إيران مع مؤسسة رئاسة البرلمان العراقي، رغم ما لها من أهمية استراتيجية داخل النظام السياسي، كونها الجهة المسؤولة عن تشريع القوانين، ومراقبة أداء الحكومة، والمصادقة على تعيين رئيسي الجمهورية والوزراء.
ورغم أن العُرف السياسي اقتضى أن يُمنح هذا المنصب للمكون السنّي، في مقابل منح رئاستي الجمهورية والوزراء للأكراد والشيعة، إلا أن إيران سعت إلى تحجيم دوره والتأثير عليه بشكل مباشر.
فمنذ البداية، حرصت طهران على أن يتم اختيار رئيس برلمان مقرّب منها، من خلال استثمارها لأغلبية الكتل الشيعية داخل المجلس، ثم ضمنت إحاطة هذا الرئيس بمجموعة من الشخصيات المتحالفة معها ومقربين منها داخل مكتب رئاسة البرلمان، خصوصًا من خلال منصبي النائبين، اللذين يُفترض أن يكون أحدهما شيعيًا والآخر كرديًا، بحسب تقاسم السلطة الطائفي والإثني.
ومن مصلحتها كذلك – كما تشير الوقائع – أن يكون رئيس البرلمان من الشخصيات الضعيفة وغير القادرة على اتخاذ مواقف حاسمة، بما يضمن سهولة السيطرة على المؤسسة.
وشهدت السنوات الأولى من عمر البرلمان بعد 2005، قوة كبيرة لرئاسة البرلمان، لكن هذا المنصب تلاشى تأثيره شيئًا فشيئًا من خلال العمل على إضعاف دوره، أضف إلى ذلك، ما كانت تقوم به المحكمة الاتحادية من عرقلة لعمل البرلمان بسبب أن لديها الحق في تفسير مواد الدستور العراقي، فقد لعبت المحكمة الاتحادية (المسيطر عليها إيرانيًا) دورًا كبيرًا في العمل على إضعاف مؤسسة البرلمان وقولبتها بما يخدم إيران.
ومن أشهر تلك التدخلات، هو تفسير المحكمة الاتحادية للكتلة الأكبر التي مكَّنت نوري المالكي الحصول على ولاية ثانية لرئاسة الوزراء عام 2010 واقصاء أياد علاوي، وإقالتها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي عام 2023، وغيرها من الإقالات لنواب سنَّة شكلوا حجر عثرة أمام أجندة إيران.
كما استفادت إيران من البرلمان حينما استطاعت إصدار قانون الحشد الشعبي عام 2016، وضغطت على رئيس البرلمان حينها سليم الجبوري لتمرير هذا القانون، ومن ثم قطعت على الجبوري الطريق للوصول للبرلمان مرة ثانية.
أما اليوم، نشهد أضعف رئاسة للبرلمان بدورته الحالية والتي يترأسها محمود المشهداني ذو الشخصية الضعيفة التي لا تتوانى عن تنفيذ أي شيء يصب في خدمة الأجندة الإيرانية في العراق. ومن قبلها كان النائب الشيعي محسن المندلاوي الذي ترأس البرلمان قعد إقالة الحلبوسي.
تهميش منصب رئاسة الوقف السنَّي
الوقف السنَّي والوقف الشيعي، يعتبران بحسب الدستور العراقي وريثا وزارة الأوقاف العراقية السابقة، واختص الوقف السنَّي بالمسؤولية عن كل أوقاف المسلمين التي أوقفت لصالح المسلمين ومسؤول عن جميع المساجد العراقية ما عدا كردستان وما يتبعها من عقارات موقوفة.
وكون الوقف السني مؤسسة كبيرة تتحكم بأموال طائلة وعقارات كبيرة على عكس مقارنتها بالوقف الشيعي المسؤول عن المراقد الشيعية فقط، ركَّزت إيران وأحزابها في العراق، على أن تكون رئاسة هذا الوقف من شخصيات سنيَّة ضعيفة ومنسجمة مع توجهاتها حتى تتمكن من تجريد هذا الوقف من ممتلكاته واستكمال مخططها الطائفي بالاستيلاء على بعض مساجد السنَّة وتحويلها إلى حسينيات أو الاستيلاء على الأراضي التابعة لتلك المساجد والاستيلاء على العقارات التي تعود ملكيتها للأوقاف السنَّية.
والأخطر من ذلك كان التأثير العقائدي على أهل السنَّة والجماعة لتغيير عقائدهم أو التأثير عليها لتتوافق مع العقائد الشيعية القادمة من إيران تمهيدًا لتشيع البلد كما حصل ذلك سابقًا في إيران قبل قرون.
أثار هذا الوضع الكثير من الإشكالات والجدل حول ديوان الوقف السني، حيث عملت طهران على تغيير رئاسته عدة مرات، في أغلب الحالات بدعوى الفساد المالي أو التفريط في عقارات الوقف، خشية استفحال غضب السنَّة جراء الاستيلاء على مقدساتهم وأوقافهم الإسلامية.
وتمثل الخطورة في هذه الجهود الإيرانية، بالعمل على إلغاء ملامح الدين الإسلامي السنَّي بالعراق، من خلال هدم مراقد الصحابة الكرام في العراق أو اهمالها كما في حالة مرقد الصحابي الجليل الزبير بن العوام، والعمل على هدم المساجد التاريخية.
كما سلمت المساجد لبعض الجماعات الصوفية المنحرفة وتعيين أئمة المساجد منهم للتأثير على عقائد الناس، وزرع الفتنة بين المسلمين السنَّة. وكل هذا كان يتم من خلال رئاسة الوقف السنَّي، والذي يتم اختياره وتعينه من قبل رئيس الوزراء.
كما أن الحكومة تعمدت تهميش الوقف السنَّي وافقاره، ففي مقارنة بسيطة، بين المخصصات المالية التي تمنحها الحكومة للوقف السنَّي والوقف الشيعي، نرى أن هناك فارقًا كبيرًا وتهميشًا عظيمًا لصالح الوقف الشيعي لدواعي طائفية واضحة لا يختلف عليها اثنان.
تهميش مجالس المحافظات السنَّية
انسحب التهميش أيضًا إلى مجالس المحافظات والحكومات المحلية في المناطق ذات الأغلبية السنيّة، إذ تعرضت هذه الكيانات، سواء مجالس المحافظات أو المحافظون، لإقصاء منهجي هدفه تقليص قدرتها على تقديم الخدمات، تمهيدًا لتحجيم الحضور السياسي للسنّة.
في محافظة ديالى ذات الأغلبية العربية السنَّية، شغِل منصب المحافظ منذ الاحتلال ولحد سنة 2015 محافظ ينتمي لأحزاب سنيَّة، ولكن تغيرت الحالة بعد أن رمى هادي العامري زعيم “ميليشيا بدر” بكل ثقله لانتزاع المحافظة من السنَّة وتسليمها لأحزاب شيعية، ومنذ ذلك التاريخ يتم تداول منصب المحافظ بين شخصيات تابعة لأحزاب شيعية وأغلبية مجلس المحافظة هم من الشيعة. بسبب ما تم استحداثه من تغيير ديمغرافي على المحافظة وتحالف الأقلية الكردية بالمحافظة مع نظرائهم الشيعة لإدارة المحافظة دون مراعاة لحقوق الأغلبية السنيَّة.
وفي محافظة نينوى قامت إيران ومن يواليها بالتقرب من شخصيات سنية لإدامة أجنداتها في تلك المحافظة وبالتحالف مع أحزاب كردية، حتى بات المحافظ لا يشغل منصبه إلى بموافقة شيعية وكردية ومباركة إيرانية.
المشهد نفسه تكرر في محافظتي صلاح الدين ومحافظة الأنبار. كما أن احدى وسائل الضغط على المحافظات السنَّية هو تقليل حصص انفاقها على المشاريع الخدمية المقدمة للمواطنين، أو تلفيق اتهامات الفساد على المحافظين غير المتعاونين معهم، مما يجعل هناك فجوة كبيرة تحدث بين المواطنين وممثليهم من الأحزاب السنيَّة، فيما اقتصر تنفيذ بعض المشاريع الخدمية بالمحافظات السنيَّة، على استثمارات ومساعدات تقدمها بعض الدول الخليجية.
ختامًا فإن الدور الإيراني في العراق والذي يعمل على تهميش السنَّة ومحاولة تشيع أعداد كبيرة منهم، لا تقوم به إيران بدافع انتقامي جراء خسارتها لحرب الثمانينات مع العراق فحسب، إنما ينطوي على مخطط استراتيجي تنفذه إيران في العراق، تبتغي منه استعادة ما تسميه جزءً من أراضي دولتها الفارسية التي كانت تمتد طولا وعرضا في الأراضي العربية، بل أن عاصمة إمبراطوريتهم “المدائن” كانت في العراق قبيل الفتح الإسلامي، وسيكون العراق بعد ذلك هو البوابة التي تمكنها الاستيلاء ومد نفوذها إلى جميع الدول العربية، ولن تجد مثل الطائفية والولاء الطائفي مطية وسيلى كي تستخدمها في سبيل تحقيق ذلك المشروع.