ترجمة وتحرير: نون بوست
في 29 يناير/ كانون الثاني، بعد أسبوعين من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، دخلتُ غزة ضمن بعثة طبية مكوّنة من اثني عشر شخصًا. وبعد عبورنا جنوب إسرائيل في قافلة تابعة للأمم المتحدة، تبعنا مرافقة عسكرية إسرائيلية عبر متاهة من الحواجز الخرسانية. ثم ترجلنا من مركباتنا وسحبنا حقائب مليئة باللوازم الأساسية – شاش، ومضادات حيوية، وقسطرات طبية، ومقصات طوارئ – عبر باب معدني مضاد للمتفجرات. ومررنا بمنطقة عازلة مليئة بالأسلاك الشائكة، حيث نمت أزهار الهندباء بشكل مفاجئ وسط الخراب.
وأخيرًا، صعدنا إلى شاحنة صغيرة ذات زجاج أمامي محطم وتوجهنا إلى خان يونس، وهي مدينة يقطنها عدة مئات الآلاف في جنوب غزة. وكان سائقنا يناور لتفادي الحفر الكبيرة في الطرق، وكانت معظم المباني التي مررنا بها متضررة. وفي أحد التقاطعات، كان هناك مئذنة مسجد شامخة فوق أنقاضه. ومع ذلك، كانت المدينة تنبض بالحياة؛ فقد رأيت عائلة تحتسي الشاي داخل مبنى بلا سقف. وكان الغسيل يتدلى من الشرفات، والخس ينمو في فناء مبنى مدمر. إن ما يقرب من نصف سكان غزة، البالغ عددهم مليوني نسمة، هم من الأطفال، وكانوا في كل مكان يضحكون ويلوحون ويطيرون الطائرات الورقية.
عندما سجلتُ للمشاركة في العمل في غزة، في أواخر سنة 2024، كانت القوات الإسرائيلية تنفذ هجمات برية وجوية بشكل شبه يومي. وكان المرضى المصابون ينهالون على نظام الرعاية الصحية في القطاع، الذي كان بالكاد يعمل. كنت أتوقع أن أستقر في مستشفى واحدة وأقضي أسبوعين أساعد في علاج المصابين، لكن، عند وصولي، كانت القوات الإسرائيلية قد انسحبت من أجزاء من غزة، وتوقفت الضربات الجوية إلى حد كبير، وبدأت العائلات النازحة بالعودة إلى المناطق التي فرت منها. وهذا يعني أن رؤيتنا لم تقتصر على ما يجري داخل مبنى واحد فقط، بل أتيحت لي فرصة نادرة للحصول على صورة شاملة واستثنائية لحالة البنية التحتية الطبية في غزة.
قضينا الليلة في مستشفى ناصر، وهو مبنى مكوّن من خمسة طوابق باللونين البيج والبني، يقع في خان يونس. وعندما اقتربنا منه بالسيارة، صرخ أحد المارة من نافذة مركبتنا بعدما أدرك أننا من فرق الإغاثة: “ابقوا معنا! لا تأتوا فقط ثم ترحلون. فهنا تحدث الإنسانية!”.
كانت مستشفى ناصر قد تعرّضت لهجوم كبير في فبراير/ شباط 2024، عندما قصفت القوات الإسرائيلية المستشفى، وقطعت عنها الكهرباء والأكسجين، ثم اقتحمت المبنى. وقال أحد الأطباء لشبكة “سي إن إن” أنه تعرض لتفتيش عارٍ. وقال: “نحن محاصرون بالكامل. فلا يوجد كهرباء، ولا يوجد أكسجين، ولا يوجد تدفئة، بالكاد لدينا طعام أو ماء.”
وأفادت وزارة الصحة في غزة بأن الهجوم أسفر عن وفاة نحو اثني عشر مريضًا، فيما حذّرت منظمة الصحة العالمية من أن “أي تعطيل إضافي للرعاية المنقذة لحياة المصابين والمرضى سيؤدي إلى المزيد من الوفيات”.
أما الجيش الإسرائيلي فقدم رواية مغايرة، فقد ذكر أنه عثر في مستشفى ناصر على أسلحة، بالإضافة إلى أدوية كانت مخصصة لأسرى إسرائيليين. كما ادعت أنها ألقت القبض على مئات من الإرهابيين المشتبه بهم، بما في ذلك بعض الذين زُعم أنهم تظاهروا أو عملوا كجزء من الطواقم الطبية. وقال بيان للجيش الإسرائيلي: “تم تنفيذ العملية بطريقة تضمن تقليل التأثير على أنشطة المستشفى الجارية إلى أدنى حد، ومن دون الإضرار بالمرضى أو الطاقم الطبي. سيواصل الجيش الإسرائيلي العمل وفقًا للقانون الدولي ضد حركة حماس الإرهابية، التي تعمل بشكل منهجي من داخل المستشفيات.”
وقد تكررت هذه الديناميكية مرارًا وتكرارًا في مستشفيات غزة الستة والثلاثين؛ حيث برر الجيش الإسرائيلي قصف واقتحام المستشفيات، وهي جرائم حرب محتملة، باتهامه لحركة حماس بارتكاب جرائم حرب، من بينها تحويل المراكز الطبية إلى “مراكز إرهابية” والاختباء خلف البنية التحتية المدنية. لكن المسؤولين الإسرائيليين نادرًا ما يقدمون أدلة كافية تتيح لوسائل الإعلام والمنظمات الدولية التحقق من صحة هذه الادعاءات. ومن جهتها، تنفي حركة حماس استخدامها للمرافق الصحية لأغراض عسكرية.

كانت مستشفى ناصر قد أُعيد ترميمها إلى حد كبير، لكن آثار العنف كانت حاضرة في كل مكان. ففي حقل مجاور، كانت بقايا سيارات الإسعاف المحطمة والمتفحمة ممددة على الأرض. وعلى شرفة خارج المكان الذي كنا ننام فيه، أشار طبيب فلسطيني إلى ثقوب ناجمة عن رصاصات القناصة، وقال إنهم استهدفوه هو وزملاءه. وأخبرنا جرّاح ضمن فريقنا أنه، خلال مهمة سابقة، عثر على عظمة إصبع بشري في أرض المستشفى، ولعدم معرفته بما يجب فعله، قام بدفنها.
وفي اليوم التالي، تم نقل عدد منا إلى مستشفى شهداء الأقصى، الذي يقع على بُعد عشرة كيلومترات في وسط غزة. وأثناء توجهنا شمالًا، شاهدنا كتلًا سكنية كاملة مدمرة. وكانت مئات من الملاجئ المؤقتة، المصنوعة من صفائح معدنية وأبواب السيارات والسجاد وأغطية المشمع، قد أقيمت بينما كانت أكوام من الخرسانات منتشرة في كل مكان. وكان الناس يفرزون الحطام إلى أكوام، وقد مررنا برجل كان يكنس الشارع باستخدام مكنسة.
وكانت مستشفى شهداء الأقصى، وهو مجموعة من المباني المبنية بالطوب الأصفر والملئ بشظايا في حي سكني مكتظ، قد بُني في الأصل لاستيعاب بضع مئات من المرضى. ثم أدى القصف الجوي، والاجتياح الإسرائيلي البري، والاشتباكات العنيفة مع المسلحين الفلسطينيين إلى نزوح ما يقرب من مليون شخص إلى المنطقة. وكانت المستشفى تستقبل أحيانًا أكثر من ألف مريض في اليوم، وكانت تعاني كثيرًا من نفاد الوقود والإمدادات. كما أصبحت مستشفى الأقصى هدفًا أيضًا؛ حيث استهدفتها الغارات الجوية التي ضربت ساحة كانت تأوي آلاف الأشخاص النازحين في الخيام. وقال الجيش الإسرائيلي إن المستشفى كانت تؤوي مركز قيادة للإرهابيين.
وكان مرشدنا في مستشفى شهداء الأقصى هو محمد شاهين، وهو مقيم في جراحة العظام ويبلغ من العمر 35 سنة. لقد مازحنا قائلًا إن النزاع كان مفيدًا للياقته البدنية؛ فقد خسر ثلاثين كيلوغرامًا. وفتح باب سقيفة معدنية ضخمة كانت تُستخدم كغرفة علاج مؤقتة للمرضى. وقال: “لقد بنيّناها في عشرة أيام”. والآن كان المكان مظلمًا، مع وجود نقالات فارغة في الزوايا. وأضاف: “نحن ننتقل من مرحلة الصدمات إلى مرحلة إعادة الإعمار”. كان لا بد من توفير الرعاية الطبية لعدد لا حصر له من سكان غزة بسبب الإصابات السابقة والحالات التي لم يتم عالجها. وكان من الضروري إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة من الأحياء السكنية.
وكان قسم الطوارئ في مستشفى شهداء الأقصى عبارة عن مكان مظلم يحتوي على حوالي خمسة عشر سريرًا. ولدهشتي، لم يكن هناك سوى سرير واحد فقط مشغولًا بمريض. من الواضح أن تخصصي في طب الطوارئ لم يكن الطلب عليه كبير هنا منذ بدء وقف إطلاق النار. وقد اقترح مدير مستشفى شهداء الأقصى أنه بدلاً من العمل في قسم الطوارئ الهادئ بشكل غريب، ربما يجب عليّ توثيق حالة المستشفيات في جميع أنحاء غزة. وقال: “نحن نستحق حياة أفضل من هذه”.
وبعد ظهر هذا اليوم، رأيت شابًا في غرفة العمليات كانت يده اليسرى مشوهة. وكان الجراح يغسل يديه بينما يروي لي ما حدث: الشاب كان قد عاد إلى أنقاض منزله وانفجرت قنبلة. ولم تتوفر أربطة لوقف النزيف، لذا تم ربط قسطرة مثانة حول ذراعه لتقليل النزيف. كما لم تكن هناك أثواب طبية، لذا كان يرتدي قميص بولو أحمر عندما قام طبيب التخدير بتخديره.
وفي الطابق العلوي كان يوجد وحدة العناية المركزة. وكان أحدهم قد كتب على بابها، الذي كان مغلقًا، كلمة “وحدة العناية المركزة” باستخدام قلم ماركر أحمر. وفي الخارج، كان هناك رجل في الردهة قام بفتح الباب باستخدام ملعقة. وفي الداخل، كان أحد زملائي، وهو طبيب متخصص في العناية المركزة يدعى شيراز سليم، يعالج فتاة مراهقة تعاني من الحماض الكيتوني السكري، وهو أحد المضاعفات الخطيرة لمرض السكري يحدث بسبب نقص الأنسولين، لكن أطبائها كانوا يواجهون صعوبة في مراقبة مستوى السكر في دمها لأنهم لم يكن لديهم جهاز قياس السكر (جلوكوميتر)، وهو جهاز تبيعه الصيدليات الأمريكية بنحو عشرين دولارًا.
وفي قسم الأطفال، وهو مكان ضيق كانت الشخصيات الكرتونية مرسومة على جدرانه، كانت الطفلة مريم البالغة من العمر تسع سنوات تبكي بهدوء بينما كان أحد زملائي يفحصها. كان شعرها مضفرًا بعناية ومربوطًا بمشابك صفراء. فقدت مريم ذراعها بسبب بتر بعد إصابتها في غارة جوية، كما اخترقت الشظايا جدار المثانة والمستقيم. وكانت قد خضعت لخمسة عمليات جراحية بالفعل. وعلى السرير المجاور، كان هناك طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات يحتاج لعملية جراحية بعد إصابته في غارة جوية، وتوفي شقيقه البالغ من العمر خمس سنوات في الهجوم. وكان الطفل يعاني من جرح جراحي مصاب بالعدوى. وقال لي سليم لاحقًا: “الأمر لا يبدو حقيقيًا. كيف يمكن لشيء مروع كهذا أن يكون حقيقيًا؟”.
وفي المساء؛ أطلعني أخصائي المسالك البولية الفلسطيني على صور عبر هاتفه لمرضى كان قد عالجهم. ورأيت شابًا قيل إنه أصيب برصاصة في المنطقة الحساسة من قبل قناص إسرائيلي، وامرأة في الخامسة والثلاثين من عمرها تعرضت لإصابة نتيجة انفجار في منطقة المهبل، ورجل تم تدمير كيسه الصفني. وكان وجه الطبيب، الذي انعكس توهج هذه الصور عليه، شاحبًا. وقد استمر في التمرير، متعمقًأ في الماضي، حتى دخلت ذاكرة كاميراته فجأة إلى واقع مختلف، صور لتجمعات عائلية، وأطفال يركضون على العشب.
في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عبر آلاف المسلحين بقيادة حماس إلى إسرائيل ونفذوا العديد من الهجمات المدروسة بعناية على المدنيين، وكان العديد منهم يحضرون مهرجانًأ موسيقيًا. وقام المسلحون على الدراجات النارية وفي شاحنات صغيرة بمحاصرة الأشخاص الفارين وفتحوا النار عليهم. وفي الكيبوتسات المجاورة، قاموا بمداهمة المنازل، وقتلوا بعض السكان واختطفوا آخرين. وقد قُتل حوالي ألف ومئتي شخص، بينهم عدة عشرات من الأطفال، وأُخذ أكثر من مئتين وخمسين شخصًا رهائن، تراوحت أعمارهم بين تسعة أشهر وخمسة وثمانين عامًا. (يظل تسعة وخمسون رهينة في غزة، ويعتقد أن أربعة وعشرين منهم على قيد الحياة.) وغمرت إسرائيل وبقية العالم صورًا للدمار والآثار المروعة للهجوم، بعضها أظهر جثثًا متفحمة لا يمكن التعرف عليها. وبحلول نهاية اليوم، كان القادة الإسرائيليون يتحدثون عن العدالة وكذلك عن الانتقام. فقد قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو: “سننتقم انتقامًا هائلًا لهذا اليوم الأسود. جميع الأماكن التي تختبئ فيها حماس، وتعمل منها – سنحولها إلى مدن من الخراب”.
لقد قامت القوات الإسرائيلية بإلقاء المزيد من القنابل في غزة الآن مقارنة بما سقط على لندن ودريسدن وهامبورغ مجتمعة خلال الحرب العالمية الثانية. وقُتل أكثر من خمسين ألف فلسطيني. ولم تُستثنَ المستشفيات، فمعظمها أصبح غير صالح للعمل. وقبل أسابيع من رحلتي، أفادت منظمة الصحة العالمية بأن أكثر من ألف من العاملين في مجال الرعاية الصحية قُتلوا، وأنها قد وثقت 654 هجومًا على المنشآت الطبية في غزة. وقال أحد ممثلي المنظمة إن القطاع الصحي في الأراضي المحتلة “يتم تفكيكه بشكل منهجي”. وفي الشهر الماضي فقط، تم تصوير جنود إسرائيليين وهم يفتحون النار على سيارات الإسعاف في جنوب غزة، مما أسفر عن مقتل خمسة عشر من عمال الإنقاذ. وفي البداية، ادعى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن المركبات “كانت تتقدم بشكل مريب نحو قوات الجيش الإسرائيلي بدون أضواء أو إشارات طوارئ”، لكن الجيش الإسرائيلي تراجع عن هذا البيان وفتح تحقيقًا بعد أن أظهرت لقطات نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” مسعفًا يرتدي الزي الرسمي بجانب سيارات إسعاف ثابتة وواضحة المعالم، أعقبها خمس دقائق من إطلاق النار المستمر من الجيش الإسرائيلي.

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كانت التقارير من داخل غزة محدودة للغاية. ووفقًا للجنة حماية الصحفيين، تم قتل ما لا يقل عن 169 من العاملين في وسائل الإعلام في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، كان أحدهم في خيمة إعلامية خارج مستشفى شهداء الأقصى السنة الماضية، وآخر بالقرب من مستشفى ناصر في وقت سابق من هذا الشهر. بينما كنت هناك، كان مجرد مغادرتي للمستشفى يشعرني بأنه أمر غير واقعي.
وفي إحدى الأمسيات، ذهبت في نزهة مع سليم وشاهين، وطالب طب يبلغ من العمر اثنين وعشرين سنة. ومررنا ببائعين يبيعون أحذية غير متطابقة وخضروات وصلت حديثًا. ورأيت رجلاً يجلس على كرسي حلاق يشذب شعره. وقيل لي إن هناك أصوات طلقات نارية تدوي في مكان بعيد، أطلقتها عصابات. وسمعت أصوات الطيور وألقيت نظرة حولي، كانت هناك ثلاث قفص معدنية مربوطة بجانب خيمة، كل منها يحتوي على طائر صغير داخلها. ثم وصلنا إلى مدرسة مهجورة كانت تستخدم كملجأ. وخرجت مجموعة من الأطفال من الظل. نادى صبي: “كيف حالكم!”. وقادنا الأطفال إلى السطح وأشاروا إلى حقل من أشجار الزيتون المزروعة حديثًا، مشهد جميل ومليء بالأمل. وقبل أن نغادر المدرسة، ركض الصبي، الذي كان يدعى علي، إلينا، ووضع ذراعيه حول كل منا، وأرجح قدميه السوداوين كما لو كانتا بندولًا، ولقد كانت ضحكاته ترن في أرجاء المدرسة.
وفي صباح اليوم التالي، أخذني طالب الطب إلى محطة إسعاف بجانب مستشفى شهداء الأقصى. كانت كل سيارة إسعاف تظهر عليها علامات الدمار. وقد أخبرني مسعف يبلغ من العمر ستين سنة أنه بعد قصف المباني، كانت الطائرات المسيرة تُحلق في السماء، وكان المسعفون يخشون الدخول حتى تختفي الطائرات. سألت المسعفين عن أصعب ما في هذا العمل، فقال أحدهم: “الاستجابة لقصف جوي واكتشاف أنه استهدف عائلتك”، وقال آخر: “انتشال جثث الأطفال”. وتوقف لحظة، ثم أضاف: “من الغريب أن العالم سمح بحدوث هذا لنا”.
وأخذني طالب الطب أيضًا إلى قسم جراحة العظام. وشرح جراح العظام وهو يشعل سيجارة قائلاً: “الإصابات الناتجة عن المتفجرات ملوثة، ونحن نقوم السيطرة على الأضرار”. وقال إنهم لا يمكنهم إصلاح العظام بالصفائح والمسامير، لأن الجرح سيتعرض للعدوى. وبدلاً من ذلك، في عملية تُسمى التثبيت الخارجي، يقوم الأطباء خلالها بدفع دبابيس معدنية عبر الجلد إلى العظم، ويتم ربط الدبابيس بهيكل خارجي للجسم. لقد كانت نسبة الإصابة بالعدوى لا تزال مرتفعة بنسبة تصل إلى ثمانين بالمائة. وبسبب نقص المحلول الملحي في المستشفى لغسل الجروح، كان الأطباء يخلطون مياه الصنبور مع الكلور المخصص لحمامات السباحة.
وفي ذلك اليوم، كان شاب يخضع لعملية جراحية في غرفة كانت في السابق مخصصة للفحص الطبي. وقال الجراح إن طائرة مسيّرة أطلقت النار عليه في فخذه، مما أدى إلى تهشم عظم الفخذ. وكان التثبيت الخارجي قد ساعد في تثبيت الكسر، لكن العظم أصبح مصابًا بعدوى لا يمكن السيطرة عليها. قام الجراح بإبعاد ذبابة كانت تحوم، ثم فتح الجرح ليُريني أطراف العظم الحادة والمكسورة. وكان يخطط لإجراء نوع شديد من البتر يُعرف باسم “ببتر الورك بالكامل”، وإذا نجا المريض من العملية، فمن غير المرجح أن يتمكن من المشي مجددًا.
ويُقدَّر أن حوالي ستة وعشرين ألف شخص قد خضعوا لعملية التثبيت الخارجي في غزة، وكثير منهم سينتظرون سنوات طويلة لإجراء جراحات متابعة. وقال جراح العظام: “ستكون حياة بائسة بالنسبة لهم”. ثم عرض لي صورة لأقدام مريض مشوهة تطلبت البتر. وبعد ذلك، مرّر إلى صورة صاروخ فضي بارز من الأرض أمام منزله. كانت الأحرف “جي بي يو-39” محفورة على جانبه. وفي وقت لاحق، بحثت عنها فوجدت أنها قنبلة موجهة أمريكية الصنع تزن 250 رطلاً، من إنتاج شركة بوينغ.

وكان الدمار الأسوأ في شمال غزة، والذي بدا في بعض الصور وكأنه هيروشيما بعد قصفها بالقنبلة الذرية. ووفقًا لشبكة “سي إن إن”، فإن معظم المستشفيات الاثنتين والعشرين في الشمال تعرّضت لهجمات مباشرة. وظللت أسمع أن مستشفى الشفاء، وهو المستشفى التعليمي والإحالة الرئيسي في غزة، قد دُمّر بالكامل.
وفي صباح اليوم الخامس، انطلقت سيرًا على الأقدام برفقة أحمد الأصولي، أحد منسقي البعثة الطبية، على طريق الرشيد الساحلي المطل على البحر المتوسط. كنا نأمل في زيارة أهم المستشفيات في الشمال، وهو أمر لم يتمكن تقريبًا أي شخص من الخارج من فعله منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول؛ فالجيش الإسرائيلي لم يكن يسمح للصحفيين الأجانب بالزيارة دون مرافق، وكان العاملون في المجال الطبي غالبًا ما يبقون في مستشفى واحد لأسباب تتعلق بالسلامة, وعلى يسارنا، رأينا أمواج البحر المتلألئة والصيادين الذين يعتنون بشباكهم، وعلى يميننا امتدت أرض خراب. وارتفعت أعمدة من الدخان الأسود في الأفق، ولوّح علم أبيض في الهواء على سطح مبنى مدمر بفعل القصف.
بعد ساعات طويلة من المشي، نجح العسولي في إيقاف سيارة، فصعدنا إلى مقطورة حديدية مربوطة خلفها. جلس إلى جواري رجل فتح عبوة بسكويت، ومدّ يده ليقدم لي قطعة. على مشارف مدينة غزة، انتقلنا إلى سيارة رباعية الدفع بدت متضررة. من نافذة أحد المباني، رأيت امرأة تفرغ دلواً مملوءًا بالغبار، بينما كان رجل في شقة فقدت أحد جدرانها يُشعل سيجارة بهدوء.
كانت غرفة الطوارئ في مستشفى كمال عدوان شمال مدينة غزة غير قابلة للتعرف عليها كمرفق صحي. كنا برفقة عز، طالب الطب البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا، ذو الشعر الداكن والمجعد، والذي كان سيصبح مترجمنا في الشمال. زعمت قوات الدفاع الإسرائيلية أن المستشفى كان مركزًا عسكريًا لحماس. خلال غارة لقوات الدفاع الإسرائيلية في كانون الأول/ ديسمبر، دمر الحريق المستشفى، وكان من الواضح آثار الدخان المتصاعد من النوافذ المكسورة، مما ألقى سوادًا على الجدران الخارجية. ارتديت قناعًا جراحيًا وتبعت الجراح ساهر حماد إلى الداخل. كانت الرائحة الكريهة تملأ المكان، والزجاج المحطم يقرقع تحت أقدامنا. استخدمنا هواتفنا المحمولة للإضاءة. أشار عز إلى غرفة كان قد أجرى فيها امتحانًا سريريًا موحدًا خلال فترة النزاع. لم يتبقَ فيها الآن سوى هياكل محترقة لأسرّة. قادنا حماد إلى الطوابق العليا، نحو أجنحة الولادة التي طالها الحريق أيضًا. في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، وهي آخر وحدة من نوعها في شمال غزة، كانت الحاضنات المحطمة مبعثرة على الأرض. بعد استهداف الوحدة، نشرت إسرائيل مقطع فيديو قالت إنه يُظهر أسلحة تم العثور عليها داخل إحدى الحاضنات.
في جناح آخر، أرانا حماد ثلاث غرف عمليات متفحمة. كانت أشعة الشمس تتسلل من خلال سقف متهدم. أما جناح غسيل الكلى، الذي دُمر هو الآخر، فكان في نهاية الممر. غادرنا المستشفى عبر ما كان يُعرف بالمدخل الرئيسي، والذي أصبح مجرد فتحة كبيرة في واجهته المنهارة. أمام المبنى، أشار حماد إلى قبر جماعي. سألته عن عدد من دُفنوا هناك، فأجاب: “لا نعلم.”
غرفة عمليات محترقة في مستشفى كمال عدوان
دُمّر منزل عز في اليوم الثاني من الحرب، فانتقل للإقامة كمتطوع في مستشفى الشفاء، أكبر منشأة طبية في غزة، والذي يضم سبعمائة سرير وخمسًا وعشرين غرفة عمليات. لاحقًا، أعلنت قوات الدفاع الإسرائيلية أن معلومات استخباراتية أفادت بوجود مركز قيادة لحماس في أنفاق تحت المستشفى. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر2023، فرضت القوات حصارًا عليه أعقبه هجوم أدى إلى تعطيله، ونشرت لاحقًا صورًا قالت إنها لأنفاق وأسلحة تم العثور عليها في المكان.
قال عز إنه خلال الهجوم، اضطر الأطباء لإجراء عمليات استئصال للصدر دون مسكنات أو مهدئات لتخفيف الضغط عن الإصابات الداخلية، مضيفًا: “كان صراخ المرضى يصمّ الآذان”. لم يكن لديهم جهاز أشعة مقطعية ولا جراح أعصاب، وكان المرضى المصابون بإصابات شديدة في الرأس يتوقفون عن التنفس ويموتون. ورغم هذه التجربة، بدا عز مصممًا على مواصلة العمل في غزة بعد إنهاء دراسته بالخارج، قائلاً: “هذه هي غايتي”.
التقينا معتز حرارة، مدير قسم الطوارئ في مستشفى الشفاء، في مبنى كان سابقًا عيادة للمرضى الخارجيين قرب المستشفى، وقد حوّله إلى قسم طوارئ صغير يضم 28 سريرًا. بعد الغارات الجوية، قال حرارة إن المكان المؤقت كان يستقبل أحيانًا ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة مريض. ومع ذلك، فإن بقية مستشفى الشفاء كانت مهجورة؛ البهو الواسع سابقًا أصبح الآن ركامًا من الخرسانة والحديد المسلح. وعلى أحد الجانبين، انهار عمود مصعد مع جزء من السلالم المؤدية إلى القبو، بينما كانت بقايا السلم تتدلى من السقف. شققنا طريقنا بحذر بين أسرّة محترقة وعربات معدات إلى القسم الخلفي من الطابق الأرضي، حيث كان يقع قسم الطوارئ.
كان قسم الطوارئ فسيحًا لكنه شبه خالٍ، تغطيه طبقة كثيفة من السخام. لم يتبقَ من الجدار الخلفي سوى أعمدة متناثرة، ومن خلال الفراغات بينها، ظهرت مقبرة كبيرة خلف المستشفى، حيث تحولت الأنقاض إلى شواهد قبور. عندما سألته ما إذا كان بالإمكان ترميم أي جزء من المستشفى، هز حرارة رأسه نافيًا. وأكد مسؤول في جمعية “المساعدات الطبية للفلسطينيين”، وهي مؤسسة خيرية مقرها المملكة المتحدة، أن إعادة بناء المستشفى قد تستغرق أكثر من عشرين سنة.
منذ عام 1950، كانت إسرائيل من الدول الموقّعة على اتفاقيات جنيف، التي تنص صراحة على أن “المستشفيات المدنية لا يجوز استهدافها تحت أي ظرف، ويجب حمايتها واحترامها في جميع الأوقات”، كما تُحظر وفق البروتوكولات الإضافية لعام 1977 أي هجمات قد تؤدي إلى “خسائر عرضية في أرواح المدنيين أو إصاباتهم أو تدمير الممتلكات المدنية” إذا كانت هذه الخسائر مفرطة مقارنة بأي مكاسب عسكرية مباشرة. ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تعهدت إسرائيل بعدم استهداف البنية التحتية المدنية أو الموظفين غير العسكريين. وقال سفيرها لدى الاتحاد الأوروبي في تشرين الثاني/ نوفمبر2023: “سنفعل كل ما بوسعنا لتجنيب الأبرياء الأذى. نحن ملتزمون بالقانون الدولي”، يظل المستشفى محميًا بموجب القانون الدولي حتى في حال استقبال مقاتلين مصابين، لكن في حال استخدامه لـ”أعمال تضر بالعدو” مثل إخفاء مقاتلين أو تخزين أسلحة – وهي انتهاكات صريحة – يفقد المنشأة الحماية، وإن بقي الطاقم الطبي والمرضى المدنيون تحت الحماية القانونية.
في خريف العام الماضي، أجرى فريق بحثي من جامعة هارفارد دراسة تحليلية حول المسافة بين مستشفيات غزة والفجوات التي تُخلفها قنابل إم-84 زنة ألفي رطل. هذه القنابل قادرة على إزاحة أكثر من خمسة أطنان من التراب وتوليد موجات صدمة كفيلة بتمزيق الرئتين والجيوب الأنفية. “إنها تمحو المباني من على وجه الأرض”، حسبما قال مسؤول سابق في البنتاغون. ووفقًا للدراسة، فإن 84 بالمئة من مستشفيات غزة خلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب كانت ضمن نطاق الأضرار الناتجة عن فجوة واحدة على الأقل من هذا النوع من القنابل، بينما كان ربعها يقع في نطاق القتل المباشر. وقال أحد المشاركين في إعداد الدراسة، الطبيب وعالم الأوبئة المكانية ب. غريغ غرينوه: “لا أرى أي مؤشر على أنهم حاولوا تجنيب المدنيين أو البنية التحتية المدنية الأذى”، مضيفًا: “كيف يمكن استخدام هذا النوع من الأسلحة في هذا السياق، ومع ذلك الاستمرار في الادعاء بالامتثال للقانون الإنساني الدولي؟” وردًا على ذلك، صرّحت القوات المسلحة الإسرائيلية لمجلة “نيويوركر” بأنها “لا تستهدف المدنيين غير المتورطين عمدًا”، مؤكدة التزامها بـ”اتخاذ جميع التدابير الممكنة لحماية الفرق الطبية والحد من انقطاع الخدمات الصحية، وفقًا لما ينص عليه القانون الدولي الإنساني”.
عندما اجتزنا بوابة مستشفى الأهلي العربي – أقرب منشأة طبية ما تزال تعمل في شمال غزة – بدت لنا ملامح الدمار جلية: مبنيان بلون بني وبرج حديث مغطى بالألواح الشمسية، وقد تهشمت معظم نوافذه. تأسس المستشفى عام 1882 على يد مبشّرين أنجليكان، وتزينت واجهته بلوحة تذكارية تشير إلى عملية ترميم جرت عام 2011 برعاية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. كانت عربات الحمير تصل تباعًا حاملة مرضى جدد، كثير منهم يضعون دبابيس تثبيت خارجية بارزة من أطرافهم. تحوّلت الكنيسة، التي غطتها آثار الشظايا، إلى جناح طبي مؤقت. قادنا عز إلى غرفة طوارئ صغيرة، وكانت، رغم سريان وقف إطلاق النار، مكتظة بالكامل بالمرضى. لم تتوفر فيها أجهزة تنفس صناعي، ولا مزيلات رجفان، ولا حتى مضخات للسوائل الوريدية. أحصى عز جهازَي مراقبة للقلب و18 سريرًا، قبل أن يقول بنبرة يأس: “جهازان فقط لنصف مليون إنسان. هذا أمر لا يُصدق.”
عرّفني عز على فاضل نعيم، مدير مستشفى الأهلي. كان المستشفى معدًّا لاستيعاب خمسة وعشرين مريضًا فقط، لكنه كان يقدّم الرعاية يوميًا لمئات، ما اضطر البعض للنوم في العراء. كان نعيم الجراح العظمى الوحيد، لكنه درّب من استطاع مساعدته. قال: “لدي طالب طب في سنته الثالثة أصبح قادرًا على إجراء جراحة عظمية.”
مع بداية الحرب، تلقى عز مكالمة مروّعة من نعيم: والدته أُحضرت إلى الطوارئ بعد قصف منزل جدّيه. وعندما وصل المنقذون، انفجرت قنبلة ثانية. نجت الأم، لكن عشرين فردًا من عائلته – من بينهم والده، أخوه، جدته، ابنته، وصهرته – استُشهدوا؛ قال عز: “بعضهم ما يزال تحت الأنقاض.”
في بيت لاهيا، سُويت أحياء كاملة بالأرض. من بين المباني القليلة التي بقيت قائمة، كان المستشفى الإندونيسي، رغم تعرضه للقصف. كانت العصافير تحلق بين الأنقاض، وانفجارٌ بعيد – ربما لقنبلة غير متفجرة – دوى في الأفق. قادنا مروان سلطان، طبيب القلب ومدير المستشفى، عبر ممرات مظلمة، معطفه الأبيض يرفرف خلفه.
لم يكن يعمل سوى قسم الطوارئ، وأوضح سلطان أن الجراحين اضطروا لاستخدام كرسي أسنان في عمليات جراحة الأعصاب، وأجروا عمليات بتر على الأرض. أشار إلى حطام مولدات ومحطة أكسجين قائلاً: “دمروا رئتي المستشفى.” كانت هناك فتحة في الجدار أحدثتها دبابة. وفي ساحة المستشفى، رُصفت شواهد قبور من بلاط الأسطح. وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن أنفاقًا وأسلحة عُثر عليها في الموقع.
وقادني الدكتور سلطان إلى الطابق العلوي من المستشفى، إلى وحدة العناية المركزة، حيث كانت الرياح تعصف من خلال النوافذ المحطمة. أراد أن يريني شيئًا اكتشفه بعد انسحاب القوات الإسرائيلية. أشار إلى جهاز مراقبة قلب بدا عليه أثر رصاصة تخترق شاشته، وبجواره جهاز تخطيط قلب محطم.
ثم دخلنا غرفة تخزين واسعة كانت مليئة بأجهزة طبية – من مضخات السوائل الوريدية وأجهزة غسيل الكلى إلى أجهزة الموجات فوق الصوتية وقياس الضغط. بدا أن كل قطعة قد دُمرت بدقة عبر طلق ناري، في نمط بدا منهجيًا لا عشوائيًا، كان المشهد صادمًا. لم أستطع تخيل أي مبرر عسكري لتدمير أدوات تُنقذ الأرواح. وعندما طلبت تعليقًا، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: “الادعاءات بأننا نستهدف المعدات الطبية عمدًا كاذبة تمامًا”.
دامت الهدنة شهرين فقط. في فبراير/شباط، عدت إلى الولايات المتحدة، وفي 2 آذار/مارس، منعت إسرائيل دخول كل المساعدات الإنسانية إلى غزة، في محاولة للضغط على حماس لقبول شروط جديدة للهدنة. في 18 آذار/مارس، استؤنف القصف. في صباح اليوم التالي، تجاوز عدد الشهداء 400، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. سرعان ما امتلأت المستشفيات في الشمال بالمصابين، وسط نقص حاد في الإمدادات الطبية. وكتب لي عز رسالة قال فيها: “نواجه يوميًا قرارات مستحيلة.” وفي هذا الأسبوع، حذّر الجيش الإسرائيلي طاقم مستشفى الأهلي من ضرورة الإخلاء، وبعد 20 دقيقة فقط، دمرت الضربات الجوية قسم الطوارئ ومختبرًا وراثيًا، وقال الجيش إن حماس كانت تستخدم المرفق، وهو ما نفته الحركة.
عندما بدأت القنابل تتساقط على خان يونس، كان فيروز سيدوا، الجراح الأمريكي المتخصص في إصابات الصدمات والذي سبق له زيارة غزة، نائمًا في نفس الغرفة التي أقمت فيها في مستشفى ناصر. كان سيدوا قد التقى بعدد من العاملين في المجال الصحي الذين قاموا بمهمات طبية مشابهة لمهمتي، حيث تعرفت عليه في إحدى المحادثات الجماعية. استفاق سيدوا، وهو رجل هادئ ذو شعر قصير، بسبب انفجار موجة الضغط الناتجة عن تفجير الباب، فاندفع مباشرة إلى قسم الطوارئ.
خلال الساعات التالية، استقبل المستشفى 221 مصابًا، توفي منهم 92. بدأ سيدوا يبحث عن المرضى الذين يحتاجون إلى جراحة طارئة؛ حيث قال “كانت فوضى”، مضيفًا: “الغرف كانت مليئة بالأطفال الذين يموتون على الأرض، ينزفون، يصرخون، يبكون”. بينما كان بعض المرضى لا يزالون على قيد الحياة، إلا أن نقص الموارد جعل من المستحيل إنقاذهم. ورأى سيدوا العديد من الأطفال الذين أصيبوا بإصابات دماغية شديدة، وكان المستشفى يفتقر إلى جراح أعصاب، مما قلص الخيارات المتاحة.
عندما قام بتقييم حالة فتاة صغيرة، أشار إلى أحد أقاربها إلى زاوية معينة من قسم الطوارئ حيث يتم إرسال المرضى الذين هم في حالة موت، وقال له “احملها وخذها إلى هناك، وابقَ معها فقط”. ثم قام بتقييم حالة طفلة أخرى، في الخامسة من عمرها، كانت مصابة بشظايا في الصدر والبطن والرأس. كان قسم الطوارئ مكتظًا لدرجة أن سيدوا لم يتمكن من تحريك سريرها نحو جهاز الأشعة المقطعية، فحملها بنفسه. أظهرت الفحوصات أن إصابات دماغها قابلة للنجاة، فحملها مرة أخرى إلى غرفة العمليات وأجرى لها جراحة لإصلاح الإصابات الداخلية. وبعد خمسة أيام، بدأت الطفلة في استعادة قدرتها على الكلام.
يظهر مرون سلطان، طبيب القلب ومدير المستشفى الإندونيسي، وهو يشير إلى أجهزة طبية يبدو أنها تحطمت بفعل الرصاص.
بعد ذلك، تابع سيدوا علاج امرأة تحمل ثقبًا في ظهرها بحجم كرة التنس، ومريض آخر أصيب بتمزق في الشريان الأورطي، وطفل في الخامسة من عمره غطت الشظايا جسده بالكامل، ما تسبب في توقف قلبه. قام أحد زملاء سيدوا بفتح صدر الطفل كما تُفتح المحارة، وخاط الفتحات في بطيني قلبه. ثم أعاد تشغيل قلب الطفل بحقن مادة الإبينفرين مباشرة فيه، وتعاون مع سيدوا لإصلاح الأضرار التي لحقت بكبده، وحجاب حاجزه، وقولونه، ومعدته، وكليته. ورغم كل الجهود، توفي الطفل.
ويروي سيدوا أن أحد آخر مرضاه تلك الليلة كان فتى في السادسة عشرة يُدعى إبراهيم، أصيب بشظايا تسببت له في جروح معوية. قام سيدوا بخياطة المستقيم وإنشاء فغرة معوية، وهي فتحة في البطن تسمح للجهاز الهضمي بالشفاء. كان إبراهيم ذا شعر أسود ويبدو عليه الهزال من شدة سوء التغذية. ومع ذلك، كان من المتوقع أن يتعافى كليًا. لم يكن والد إبراهيم يعرف من الإنجليزية سوى كلمتين فقط: “شكرًا”، وكان يكررها بلا توقف. “كان ذلك مؤثرًا”، قال سيدوا.
وبعد خمسة أيام، كان إبراهيم على وشك الخروج من المستشفى. في ذلك اليوم، كان سيدوا في طريقه للاطمئنان عليه عندما استوقفه أحد زملائه. وبينما كانا يتحدثان عن حالة أحد المرضى، دوّى انفجار عنيف هز أرجاء المستشفى. سارع زملاء سيدوا الفلسطينيون بسحبه بعيدًا عن النوافذ؛ فقد تعرض المبنى للقصف. أعلن الجيش الإسرائيلي لاحقًا أن الضربة استهدفت قائدًا سياسيًا بارزًا في حركة حماس يُدعى إسماعيل برهوم، وزعم المتحدث باسم الجيش أن برهوم كان “في المستشفى لتنفيذ أعمال إرهابية”. وصف سيدوا هذا الادعاء بأنه “سخيف إلى أبعد الحدود”. وأضاف أن برهوم كان أحد أقارب إبراهيم، وأنهما كانا يتلقيان العلاج في الغرفة نفسها. “لقد كان مصابًا، وكان هنا كمريض”، قال. “وأنا أقول لك هذا بصفتي شاهد عيان”.
عقب القصف، أسرع سيدوا مجددًا إلى قسم الطوارئ. “لم نكن نعرف إن كانوا سيقتحمون المستشفى أو يقصفونه مرة أخرى”، قال لي. بعد فترة وجيزة، دخل عدد من الرجال وهم يحملون فتى مراهقًا ملفوفًا في شرشف. وضعوه على سرير في قسم الطوارئ. وعندما أزاح سيدوا الغطاء، صُدم بما رآه. فقد كان بطن الفتى ممزقًا وأمعاؤه تخرج منه، لقد كان إبراهيم، وكان قد فارق الحياة.
المصدر: نيويوركر