تسعى تركيا لتشكيل تحالف قوي مع سوريا وخاصة على الصعيد الاقتصادي يكون له تأثيره الإقليمي، ولا سيما مع تغير بعض المفاهيم الجيوسياسية في المنطقة والذي يتوافق مع التغيير الكبير الحاصل في سورية.
في ظل مشاركة تركيا في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في سوريا الجديدة، تسعى أنقرة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية ورفع مستوى التبادل التجاري مع دمشق مستغلة الحدود البرية والبحرية المشتركة، حيث ترى أنقرة في سورية بوابة جغرافية واعدة للانفتاح نحو الخليج والمشرق العربي، وترى دمشق في تركيا بوابة للانفتاح نحو الجغرافيا الأوسع؛ أوروبا وآسيا الوسطى وروسيا.
وتمثّل خطاب الحكومة التركية في توجيه أنظار رجال الأعمال والمستثمرين الأتراك إلى السوق السورية التي تراها أرضًا خصبة للاستثمار وسوقًا واعدًا لتصريف منتجاتهم وتسهيل وصولها إلى مناطق أوسع عبر الأراضي السورية.
وخلال الأسبوع المنصرم أعرب وزير التجارة التركي عمر بولاط عن رغبة بلاده في التفاوض على اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع سوريا، جاء ذلك خلال زيارة له إلى دمشق التقى خلالها المسؤولين في الحكومة الجديدة، وذكر بولاط أن مسؤولي الحكومة السورية أعربوا عن رغبتهم في التعاون مع تركيا في كل المجالات، من زيادة التجارة والاستثمارات المشتركة وتحسين البنية التحتية والطاقة إلى النقل والطرق البرية والبحرية.
وعن لقاءات الوفد التركي بالمسؤوليين السوريين قال بولاط: “سنتحرك بسرعة كبيرة بشأن قضايا مثل تشجيع الاستثمارات وحمايتها، ومنع الازدواج الضريبي، والتعاون المصرفي، وافتتاح المصارف التركية في سوريا”.
وأوضح أن الحكومة التركية تسعى لمساعدة الإدارة الجديدة في البلد الجار، “لأن استقرار سوريا وقوتها ووحدتها، تعني استقرار تركيا وقوتها، وتعني القضاء على مشكلة الإرهاب، والقضاء بصورة كبيرة على مشكلة الهجرة، والقدرة على الوصول بسهولة إلى الخليج والشرق الأوسط عبر الطرق البرية المباشرة، وزيادة التبادل التجاري بيننا”.
وبعد عودة الوزير إلى تركيا أصدرت وزارة التجارة التركية قرارًا يسمح بعبور السيارات السورية، سواء كانت خاصة أو تجارية، عبر المعابر البرية بين سوريا وتركيا، ابتداءً من 21 أبريل/نيسان 2025. ويمثل هذا القرار خطوة هامة في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعد فترة طويلة من التقييدات التي فرضتها الظروف السياسية والتطورات الإقليمية منذ عام 2011.
اتفاقيات اقتصادية وتبادل تجاري مستمر
مرّت العلاقات الاقتصادية بين سوريا وتركيا في العقدين الآخيرين بمراحل عديدة لعل أهمها توقيع” اتفاقية التجارة الحرة” بين البلدين عام 2004 ودخلت حيز التنفيذ عام 2007 والتي قضت إلى إلغاء الرسوم الجمركية للكثير من السلع المتبادلة بين سوريا وتركيا، إضافة إلى تنظيم عدة مجالات اقتصادية مرتبطة بحقوق الملكية الفكرية والضرائب الداخلية وميزان المدفوعات والمساعدات الحكومية.
بفضل هذه الاتفاقية تجاوز حجم التجارة الخارجية بين سوريا وتركيا 2 مليار دولار أمريكي عام 2010، ثم قيّد اندلاع الثورة السورية ووقوف الحكومة التركية إلى جانب الشعب السوري في وجه نظام الأسد المخلوع هذه الاتفاقية وتم تعليقها عام 2011، في حين اقتصرت العلاقات التجارية بين سوريا وتركيا ما قبل ديسمبر/كانون الأول عام 2024 على المناطق الشمالية السورية المتاخمة للحدود الجنوبية التركية حيث بلغ حجم التجارة التركية السورية 1.43 مليار دولار أمريكي عام 2017 بزيادة 3% عن عام 2016.
بينما بلغ حجم الصادرات التركية إلى سوريا العام الماضي 2.2 مليار دولار أمريكي، وعقب التحولات السياسية الأخيرة في المنطقة بعد انتصار الثورة السورية سجلت الصادرات التركية إلى سورية زيادة بنسبة 20% في ديسمبر/كانون الأول تلتها قفزة أخرى بنسبة 38% في يناير/كانون الثاني وفقًا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك.
عادت “اتفاقية التجارة الحرة” بين دمشق وأنقرة إلى الواجهة من جديد بعد تولي حكومة الشرع زمام السلطة في سوريا، حيث صرح وزير التجارة التركي عمر بولوط في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن بلاده ستبدأ محادثات مع مسؤولين في حكومة دمشق لإعادة تفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، وتسعى تركيا في المرحلة المقبلة إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع سوريا إلى 10 مليار دولار على المستوى القصير والمتوسط حسب تصريح رئيس مجلس الأعمال التركي السوري إبراهيم أوزتشوركتشي.
الجذب الاستثماري وانتهاز الفرص
تمتلك سوريا عوامل جذب إستراتيجية عدة، بدءًا من موقعها الجغرافي الواقع عند مفترق الطرق مما يجعلها مركزًا محوريًا ولوجستيًا مهمًا في المنطقة، إضافة لكونها بوابة الشرق الأوسط إلى البحر المتوسط، ومقومات اقتصادية أخرى مثل القوة الشرائية الكامنة، والحاجة الماسة للبضائع والخدمات، وخاصة بعد سنوات من الحرب والعزلة والدمار.
وفي حديثه لـ “نون بوست” رأى الكاتب والباحث السياسي محمود عثمان، أن الاقتصاد السوري منهك بعد سنوات الحرب وسياسة النهب والسرقة الذي اعتمدها النظام السوري البائد والتي ساهمت في إضعاف القطاع الخاص وخفض القدرة الاستثمارية لرجال الأعمال السوريين، إضافة إلى ضعف القطاع العام الذي أورثه النظام المخلوع للحكومة السورية الجديدة بخزينة فارغة من المقدرات مما سيجعلها بحاجة كبيرة لجلب الاستثمارات الخارجية على حساب المستثمرين المحليين.
مع اجتماع مقومات الجذب الاستثماري والحاجة السوقية والرغبة الكبيرة لدى السوريين في هذه المرحلة في بناء بلدهم الذي استعادوه من النظام المخلوع، تسعى الدول والعديد من المؤسسات الصناعية والاستثمارية العالمية في انتهاز الفرص الاستثمارية الواعدة في سوريا الجديدة، وتتمركز تركيا والمستثمرين الأتراك على رأس الساعين لانتهاز هذه الفرصة ولا سيما بعد لجوء العديد من المنتجين والمستثمرين الأتراك في السنوات الأخيرة إلى نقل استثماراتهم إلى دول أخرى أقل تكلفة من حيث العمالة والكلفة الضريبية.
لا يقتصر هدف المستثمرين ورجال الأعمال والشركات التركية في التوسع في سوريا على البحث عن سوق لتصريف منتجاتهم، بل يتعدى إلى أهدف أخرى، يوصفّها محمود عثمان بالقول:
“أهداف رجال الأعمال من التوجه نحو سوريا للاستثمار ليست السوق السورية بحد ذاتها فالسوق السورية منهكة والقدرة الشرائية للمواطن السوري متواضعة جدًا.. سيكون الهدف الأكبر للمستثمرين الأتراك هو الاستفادة من انخفاض أجور العمالة السورية إضافة إلى وجود عمالة فنية متدربة وصاحبة خبرة، وباجتماع هذه العوامل سيستطيع المصنّع التركي زيادة إنتاجه ورفع نسبة الربحية إضافة إلى القدرة على تصدير هذه المنتجات إلى عملائهم المنتشرة في دول العالم دون عوائق تذكر”.
الانفتاح التجاري والسوق المفتوح بين السلب والإيجاب
في هذه المرحلة يبقى السؤال المهم حاضرًا: هل السوق السورية جاهزة لهذا الانفتاح التركي الكبير عليها؟ ومن سكون المستفيد الأكبر؟ وماهي ردة فعل التجّار والصناعيين السوريين اتجاه هذا الانفتاح؟
يقول: عثمان إنّ “الانفتاح الاقتصادي التام بين تركيا وسوريا سيحدث حالة من الإرباك والمنافسة غير المتوازنة للطرفين ولا سيما أن القطاع الصناعي والتجاري السوري هو قطاع ناشئ يحتاج إلى الكثير من الإمكانيات والخبرات لينهض ويكون قادرًا على المنافسة ولا سيما بعد خروجه من حرب دامت 14 عامًا، على عكس القطاع الصناعي والتجاري التركي الذي يرتكز على قاعدة صلبة مما سيجعله المستفيد وصاحب المكتسبات الأكبر على حساب القطاع السوري”.
يضيف عثمان: “لاشك أن الانفتاح التركي على سوريا يجب أن يكون من خلال برامج وأجندة معينة محكومة بعدة ضوابط ومحددات بحيث لا يكون هناك إغراق للسوق السورية بالبضائع التركية إضافة إلى حماية المستثمر والتاجر والصناعي السوري، وبذات الوقت لابد من وجود شراكات متوازنة في المجال الاقتصادي بين تركيا وسوريا ليتمكنوا من جلب الاستثمارات الخارجية، فإذا اجتمع المال الخليجي مع الخبرة الفنية والتقنية التركية في التصنيع يمكن أن تتحول سوريا إلى منصة صناعية تسمح لها بتطوير صناعاتها والنهوض بها لتكون منافسة في الأسواق العالمية”.
وفي حدثيه لـ”نون يوست” يقول يامن الشامي، رئيس حمعية رجال الأعمال لأجل سوريا إن “السوق السورية في هذه المرحلة جاهزة بشكل جزئي لمثل هذا الانفتاح، ولتحقيق الجاهزية الكاملة لابدّ من إصلاحات اقتصادية وتشريعية واضحة، إضافة إلى حماية حقيقة للإنتاج المحلي وتحقيق التوزان بين التبادل التجاري وبين إعادة إحياء الصناعات السورية، ووجود مؤسسات قوية لضبط الاستيراد وتنظيم المنافسة العادلة”.
ويرى الشامي أن ترحيب التجّار السوريين بهذه الانفتاح التجاري “ترحيب مشروط مرتبط بمصالح كل فئة”، فوفقًا له تنقسم أآراء التجّار السوريين إلى قسمين أساسيين، الأول ” قسم مرحب بالانفتاح التركي لأنه يسهل الوصول إلى بضائع ذات جودة وسعر مناسب، ويزيد حركة السوق”، والقسم الآخر “متخوف، خاصة أصحاب المعامل والمصانع الذين يرون في البضائع التركية منافسًا يهدد بقاءهم، خصوصًا في ظل ضعف الدعم الحكومي لهم”.
يتابع الشامي “الانفتاح التركي على السوق السورية قد يكون فرصة أو تهديدًا، بحسب الإرادة السياسية السورية، والقدرة على التفاوض، ووضع ضوابط عادلة تضمن تبادلًا متوازنًا، وتحمي المصالح الوطنية، فمن الممكن أن يساهم هذا الانفتاح في تشكيل فرص للشراكات التجارية خاصة في المناطق الحدودية ويوفر ميزة للمنتجين السوريين ستمكنهم من تصدير منتجاتهم للسوق التركي وأوروبا عبر تركيا، كما أنه من الممكن أن يساهم في انخفاض الأسعار نتيجة توفر بضائع متنوعة ويفضي إلى تحسين جودة المنتجات السورية بسبب المنافسة الكبيرة”.
ومن النظر من الزاوية الأخرى بتابع الشامي “أن هذا الانفتاح لن يخلو من الآثار السلبية العائدة على الاقتصاد السوق السورية كضرب الصناعات المحلية السورية بسبب ضعف الحماية للمنتج المحلي ويتسبب في تراجع فرص العمل المحلي في بعض القطاعات، إضافة إلى خلق خلل في الميزان التجاري لصالح الجانب التركي مما يزيد من التبعية الاقتصادية لتركيا، مما قد يتسبب ببعض الحساسيات السياسية والاجتماعية التي قد تنعكس على التعاون الاقتصادي بين البلدين”.
تسعى تركيا إلى إنشاء علاقات متينة مع سوريا في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية، بينما تحاول دمشق بناء علاقة متوازنة مع جارتها الكبيرة والقوية التي تربطها معها 900 كم من الحدود، وملايين اللاجئين، في ظل مخاوف من تغولها وهمينتها.