أوهام الكانتون العلوي: طموحات الانفصال تصطدم برفض الداخل والخارج

على غرار الخطاب الذي تبناه الأكراد شمال شرق سوريا، يتردد في أوساط الساحل السوري، نداءات فردية علوية تطالب بحماية دولية للعلويين، وتقرير حق مصيرهم، في خطوة يقرؤها مراقبون أنها الملاذ الأخير للهروب من ملاحقة الحكومة السورية لمجرمي الحرب المشاركين في إبادة السوريين خلال سنوات حكم الأسد البائد.

ورغم أن هذه الأصوات التي ارتفعت في الساحل ولا سيما خلال محاولة انقلاب آذار/ مارس الفائت لا تعبّر بالضرورة عن توجه سياسي موحّد للطائفة في ظل رفض شخصيات من الطائفة ذاتها هذه الدعوات، إلا أنها تعكس حالة متقدمة في البيئة التي اعتبرت لعقود معقلًا صلبًا للنظام البائد.

نداءات انفصالية فردية

خلال فترة محاولة انقلاب الفلول على الحكومة الجديدة في الساحل السوري والتي طالت بإجرامها مدنيين عزّل وعناصر قوات الأمن العام، وما تلاها من رد عنيف من القوات الحكومية وقوات “غير منضبطة” شاركت بردع محاولة الانقلاب، خرجت الكثير من الأصوات من داخل الساحل السوري تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي إلى الساحل، كما دعت المجتمع الدولي لإجراء استفتاء بإشراف دولي لتقرير المصير للعلويين في مناطقهم، وصولًا إلى إقامة كيان “عصري” قائم على العلمانية والديمقراطية والمواطنة.

ومن أبرز هذه الشخصيات العلوية التي دعت إلى استفتاء لتقرير المصير والكنتون ذاتي الحكم، حفيد الشيخ صالح العلي، المحامي عيسى إبراهيم الذي زعم أنه يتحدث باسم العلويين، لكن دعوته لقيت معارضة العلويين أنفسهم، وتحديدًا من خاله محمد صالح نجل الشيخ صالح العلي.

وظهر إبراهيم، وهو رئيس ما يسمى بـ”حركة الشغل المدني”، في تسجيل مصور أوائل شهر نيسان/أبريل الجاري، يقرأ بيان يزعم أنه صادر عن ممثلين من الطائفة العلوية المقيمة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص، ويطالب فيه بحماية دولية وحكم ذاتي للعلويين في الساحل.

المطالب الفردية تصطدم مباشرة برفض الحكومة السورية الجديدة، وهو ما أكدته القيادة في إعلانها الدستوري، عدا عن رفضها مشروع الحكم الذاتي للأكراد شمال شرق سوريا وهو المشروع الأضخم من حيث وفرة مقومات وجوده دعمًا ومساحةً وموارد طبيعية.

وإلى جانب الموقف السوري، لا يمكن تجاهل الموقف تركيا الرافضة بشكل حاسم لأي كانتونات انفصالية على حدودها الجنوبية، ويمكن النظر إلى أن محاولة الأكراد بناء كيان شبه مستقل شرق الفرات، كلّف أنقرة تنفيذ ثلاث عمليات عسكرية كبرى (درع الفرات- غصن الزيتون- نبع السلام) لمنع تشكّل هذا الكيان الذي تعتبره تهديدًا لأمنها القومي، كونه يلاصق جنوب شرق تركيا ذي الكثافة الكردية.

وباعتبار أن الساحل السوري الذي يضم أقلية علوية يحاذي جغرافيًا لواء إسكندرون (هاتاي) الولاية ذات الغالبية العلوية، فإن أنقرة ستنظر لأي مشروع انفصالي في الساحل تهديدًا مشابهًا لتهديد مشروع الإدارة الذاتية الكردية، خاصة أنه قد يلهب مشاعر الانفصال في داخل حدودها إسكندرون.

البعد الطائفي والسياسي

يتسم البعد الطائفي والسياسي بين العلويين في تركيا والساحل السوري بالتعقيد مع تقاطعات محدودة تركزت في لواء إسكنردون (هاتاي) فقط، بسبب القرب التاريخي والجغرافي واللغوي والروابط العائلية معهم.

وبطبيعة الحال فإن العلويين في تركيا منقسمون بسبب التوجهات العلمانية والعلاقة المتوترة مع الحكومة التركية، ويعرفون غالبًا بـ “العلويين الأناضوليين” ويختلفون طقوسيًا وثقافيًا إلى حد كبير عن علويي الساحل السوري المنتمين إلى الفرع الشيعي.

ويشكل الأتراك العلويين حوالي الثلث، ويتركزون في وسط وغرب تركيا، أما الأكراد العلويون يتركزون في شرق الأناضول (مثل تونجلي)، فيما يشكل العرب النسبة الأقل (حوالي 5%)، ويتركزون في هاتاي، أضنة، ومرسين، وهم الأقرب ثقافيًا ولغويًا للعلويين السوريين الذين يشكلون نحو تسعة في المئة من سكان سوريا ذات الغالبية السنية، بتعداد يبلغ 1.7 مليون نسمة.

ويُبدي العلويون العرب تعاطفًا وتضامنًا رمزيًا مع العلويين السوريين، فمع اندلاع الثورة السورية وقفوا موقفًا معاديًا تجاهها، ومن حكومة حزب العدالة والتنمية التي دعمت الثورة السورية.

كما يميل العلويون في تركيا بالعموم إلى دعم الأحزاب العلمانية، خاصة حزب الشعب الجمهوري (CHP)، الذي يُنظر إليه أحيانًا كـ”حزب علوي” بسبب قياداته العلوية، وبعض العلويين الأكراد يدعمون الأحزاب الكردية مثل، حزب “الشعوب الديمقراطي” (HDP).

وشكّل علويو الساحل خلال حكم النظام البائد العمود الفقري له، وتحسنّت ظروفهم اجتماعيًا واقتصاديًا بعد تولي الأسد الأب المنتمي للطائفة العلوية السلطة في سوريا، ليرتبط وجودهم السياسي بتركيبة السلطة الأمنية والعسكرية، على عكس علويي تركيا وخاصة لواء اسكندرون الذين يُعتبرون من الأقليات الدينية المعارضة بالعموم لتاريخ حكومات أنقرة الإسلامية.

“نارلي”.. منبر الفتنة

في تركيا وتحديدًا في لواء اسكندرون ظهر الشيخ سليم نارلي، رئيس طائفة العلويين في لواء إسكندرون (هاتاي)، للعزف على وتر إنشاء كيان إداري علوي يتمتع بحكم ذاتي في الساحل السوري مستغلًا محاولة الانقلاب، إذ أصدر بيانًا باسم ما أسماه “العلويين في الساحل السوري”، أشار إلى أن “العلويين اتخذوا خطوة تاريخية بإعلان الإدارة الذاتية، زاعمًا أن هذه المبادرة تأتي ردًا على عقود من التهميش ومحاولات الانصهار القسري، وأن هذه الخطوة تمثل كفاحًا من أجل الوجود وقرارًا شجاعًا لتقرير المصير.

ودعا نارلي جميع أبناء الطوائف والمكونات الأخرى في المنطقة إلى الالتفاف حول هذه المبادرة بصوت واحد باعتبار أنها الجهة الوحيدة التي تحظى بالثقة الدولية والقادرة على تحقيق الهدف، واصفًا العمليات الأمنية التي أطلقتها الحكومة السورية ضد محاولة الانقلاب بأنها “مذبحة علوية”، متجاهلًا في الوقت ذاته الانتهاكات التي مارسها الفلول بحقّ مدنيين عزّل وعناصر الأمن العام.

وهاجم نارلي الحكومة التركية الداعمة للحكومة السورية الجديدة، قائلًا: “حكومة حزب العدالة والتنمية هي من درّبتهم.. إسلامكم هو إسلام يزيد.. عيب عليكم”، ولم يكتف بذلك بل تجاوز كل الخطوط الحمراء بدعوته العلنية إلى تدخل إسرائيل إلى المنطقة، حيث نقل عن بعض العلويين في الساحل قولهم: “إمّا أن نطلب الحماية من تركيا أو من إسرائيل”.

ويبدو أن نارلي وردًا على دعواته تلقّى صفعة قاسية من الحكومة التركية، بعد أن قدّم عرضًا مفاده أن “اللاذقية وطرطوس تريدان الانفصال عن سوريا والانضمام إلى تركيا، وأن العلويين لا يريدون الاستمرار مع الإدارة الجديدة في دمشق”.

غير أن عرضه قوبل بالرفض من حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، إذ قال نائب رئيس حزب الحركة القومية في هاتاي، لطفي خاشقجي، لقد أوضحنا لهؤلاء القادمين إلى أنقرة (في إشارة إلى نارلي) أن أمن تركيا يبدأ من اللاذقية وحتى العراق.. نحن على دراية بالمؤامرة التي تحاك بالساحل، ونُصرّ على وحدة الأراضي السورية”.

في حديثه لـ”نون بوست”، يشير الباحث السياسي التركي عبد الله سليمان أوغلو، إلى أن “نارلي” هو مواطن تركي ويطالب بالتدخل في شؤون دولة أخرى، وهذا ينافي أبسط قواعد المواطنة في تركيا.

متسائلًا، أين صوت نارلي المطالب بالعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان في الساحل، عندما كانت الأكثرية تتعرض لإبادات جماعية وحملات تشريد واسعة في سوريا؟.

داعيًا في الوقت نفسه السلطات التركية إلى التحرك الفوري لفتح تحقيق بحقّ نارلي بتهمة إثارة القلاقل في دولة جارة قد تؤثر على أمن تركيا.

واقعية المطالب العلوية

تصريحات بعض الشخصيات العلوية في الساحل السوري والمتوافقة مع حديث الشيخ نارلي حول الحكم الذاتي، يعيد الأنظار إلى دولة “جبل العلويين” أو “إقليم العلويين” التي أسسها الانتداب الفرنسي في عام 1920 واستمرت حتى 1936، حيث كانت في البداية تتمتع بالحكم الذاتي تحت الحكم الفرنسي، وفي أواخر 1923 جرى إعلانها دولة، وعاصمتها اللاذقية.

وبعد سنتين فقط جرى إعلان الاسم الرسمي لها لتصبح “الدولة العلوية”، ولكنها في أواخر 1936 دُمجت بشكل كامل لتصبح جزءًا من الدولة السورية.

ومن فرنسا ذاتها التي أنشأت الدولة العلوية، اكتمل الثالوث العلوي، بعد أن أسّس علويون بالتزامن مع محاولة الانقلاب ما يسمى بـ”التجمع الفرنسي- العلوي”، حيث قدّم دعوى قضائية إلى النيابة العامة الفرنسية ضد القيادة السورية، زاعمًا أن الحكومة الجديدة انتهجت الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وجرائم ضد الإنسانية، بحقّ أبناء الطائفة العلوية.

يرى الباحث أوغلو أن طرح إقامة حكم ذاتي للعلويين والمدعوم من “نارلي” غريب جدًا، فنارلي يطالب بحكم ذاتي علماني وديمقراطي ويطالب بحماية إسرائيلية رغم أنه رجل دين.

ومن جهة أخرى، -حسب أوغلو- فإن مناطق الساحل التي يطالب فيها بحكم ذاتي علوي، ليست مناطق علوية خالصة، فالعلويون لا يشكلون فيها 20 في المئة بأحسن الأحوال، وهم منتشرون في القرى والجبال، أما حواضر مدن الساحل فهي من الأغلبية السنية، فكيف يمكن لأقلية أن تحكم حكمًا ذاتيًا؟

ولا يعرف على وجه الدقة كم نسبة العلويين في الساحل السوري، إذ لم تقم السلطات بعملية إحصاء ديمغرافي منذ عقود بعيدة، لكن نسبتهم على الأغلب تتراوح بين 30-40% من إجمالي السكان، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود كثيف للسنة في الحواضر الرئيسية: اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة، وهي المدن التي تمتد على طول الشريط الساحلي، كما يوجد أقلية مسيحية كبيرة فضلًا عن الإسماعيليين.

المطالب العلوية تبتعد عن الواقعية أيضًا كونها تفتقر أولًا إلى الدعم الدولي الراغب في جملته بـ”سوريا موحدة” ومنع تجدّد حرب لم تضع أوزراها بعد، عدا عن وجود كثيف أيضًا لمكونات سوريّة أخرى رافضة للفكرة، وتداخلِ مناطق سنية ذات تكتل واسع ضمن الساحل السوري نفسه.

ويمكن القول إن الجانب التركي -إلى جانب الحكومة السورية التي أكدت في إعلانها الدستوري على وحدة البلاد- هو من أشد الرافضين لأي تقسيم لسوريا سواء على أسس طائفية أو قومية، لأنه يفتح الباب لتقسيمات مشابهة داخلها كالأكراد في الجنوب الشرقي، والعلويين في لواء إسكندرون، ما يرفع حساسية أنقرة تجاه أي مشروع انفصالي، بحجة التقارب العرقي أو الطائفي.

عدا عن أن إقامة كيان علوي يعزّز سيناريو “بلقنة سوريا” ما يرفع احتمالات توسع العدوى الانفصالية إلى الداخل التركي ذي التنوع الطائفي والإثني والديني الواسع، والأهم من ذلك الرغبة في إغلاق الباب على الطرفين الإسرائيلي والإيراني، فالأول راغب بتفتيت سوريا إلى كيانات درزية وكردية، والثاني برز دعمه واضحًا للانقلاب في الساحل السوري.

حسب حديث “شاشانك جوشي” وهو باحث من المعهد الملكي للدراسات الدفاعية والأمنية في لندن لرويترز فإن” تركيا ستعارض بشدة إقامة دولة علوية لإنها قلقة بشأن شكاوى العلويين على أراضيها”.

يرى “يمان زباد”، باحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، أن الدعوات التي تتالى من عدة أطراف بإنشاء حكم ذاتي بعيدًا عن أي حوار أو مطالب هي دعوات ليست واقعية وتُعارض المفهوم الوطني، وهذا الأمر ينطبق على الدعوة التي أطلقها “سليم نارلي”، التي يعود أصلها إلى رفض عدة قرى تسليم مطلوبين ساهموا في جرائم ضد الشعب السوري.

وشدد في حديثه لـ”نون يوست”، أن هذا السلوك لا يرتبط بطائفة بعينها، وهو مرفوض لأنه نتيجةً طبيعية لتهرّب بعض المجموعات العلوية من العدالة الانتقالية باتجاه دعوات انفصالية لا تؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى وتأخر التعافي المبكر في البلاد.

احتمالات التصعيد

عودة الوضع المتأزم إلى الساحل ومحاولة إعادة التمرد ولو بشكل محدود واردٌ كونه يفتح بابًا أمام بعض الجهات العلوية المتشددة لاستخدام التمرد كورقة ضغط تهدف لإعادة تدوير مطالبها بالانفصال، لا سيما أن إيران الداعمة لهم في تمردهم السابق ما تزال تتطلع لإعادة موطئ قدم لها في سوريا عبر البوابة العلوية المكون الأقرب إليها عقديًا في سوريا.

لا يعتقد “زباد” أن هناك إمكانية تصعيد خارجية ولكن تحاول هذه الدعوات الضغط على الحكومة عبر ملف العقوبات، وإقناع الدول الغربية بعدم رفعها في الوقت الحالي. مشيرًا إلى أن هذه الدعوات تعارضها دول إقليمية بسبب تهديد أمنها القومي، ورفض أن يكون هناك كينونات أو إدارات قائمة على أساس إثني وعرقي، وهذا تمّ التصريح به عدة مرات وخاصة من تركيا.

من جهته، لا يرى الباحث أوغلو أن طرح إدارة حكم ذاتي في الساحل يتناغم مع محاولات الدولة الجديدة لبسط سيطرتها على كامل التراب السوري وإنصاف جميع المكونات السورية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ويشير أوغلو أن الولايات والدول الأوروبية رغم أنها تطالب بضمان حقوق الأقليات، إلا أنها لم تدعم مثل هكذا خيار، لأن الظرف السياسي والاقتصادي والعسكري لا يدعم أي توجّه من هذا القبيل، وقسد أكبر دليل على ذلك، إذ رأينا الضغط الدولي على “قسد” للتفاوض مع دمشق وكذلك في درعا، وبناء على ذلك فلن يتلقى العلويون أي دعم جديّ لإقامة حكم ذاتي لهم.

ختامًا.. مع ما تروجّه بعض الأصوات الشاذّة لإقامة إدارة ذاتية علوية في الساحل السوري تبقى الفكرة إلى الآن مجرد وهم سياسي مستحيل التحقق في ظل المتغيرات الداخلية والتحديات الاقتصادية والافتقار إلى الموارد القادرة على إنهاض مشروع في الساحل، والأهم سعي الحكومة السورية لإغلاق أبواب الإدارات الذاتية وعلى رأسها الإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا.