ترجمة وتحرير: نون بوست
تُمضي وسام بدوي (49 عامًا)، وهي أم لثمانية أطفال، أيامها في الانتظار والترقب، علّها تسمع صوت بوق شاحنة مياه تدخل حيّها. هذه الشاحنات التي يقودها متطوعون محليون، أصبحت شريان الحياة الأخير لها ولآلاف الفلسطينيين في مدينة غزة، في ظل تفاقم أزمة المياه الناتجة عن الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع.
تقول بدوي، المقيمة في حي تل الهوى، لموقع +972: “دُمّرت معظم خطوط إمداد المياه بسبب عمليات التجريف التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي، ولا تملك البلدية القدرة على إصلاحها. لا يوجد بئر قريب، لذلك أضطر لإرسال أطفالي إلى البحر لجلب المياه للاستخدام اليومي، ثم أخلطها بالمياه النظيفة عندما تصل الشاحنة، لتقليل ملوحتها وجعلها قابلة للشرب”.
بسبب النقص الحاد، شهدت أسعار المياه في أسواق غزة ارتفاعًا كبيرًا. تضيف بدوي: “يتراوح سعر غالون المياه بين 5 و8 شيكل (1.30 – 2.20 دولارًا). نحتاج إلى نحو خمس غالونات يوميًا للشرب والطهي، ومن الصعب تحمّل هذه التكلفة. كما أنه لا يوجد من يبيع المياه في منطقتنا، وإذا لم تأتِ الشاحنات، أضطر إلى السير مسافات طويلة لشرائها”.
في المناطق التي تغيب عنها الشاحنات، يُجبر كثير من السكان على قطع أميال والانتظار لساعات في طوابير طويلة لملء حاوية واحدة من أحد الآبار التي باتت بدورها نادرة، إما لأنها تعرضت للقصف أو أصبحت خارج متناول السكان بسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية.
وحذرت منظمة “يونيسف” من أن أزمة المياه في غزة بلغت “مستويات حرجة”، مؤكدة أن واحدًا فقط من كل عشرة أشخاص يتمتع حاليًا بإمكانية الوصول إلى مياه شرب نظيفة.
لكن هذه الأزمة ليست نتيجة عرضية للهجوم، بل جزء ممنهج منه. ووفق بيانات مكتب الإعلام الحكومي في غزة، دمّرت القوات الإسرائيلية 719 بئرًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
وفي العاشر من مارس/ آذار، قطعت إسرائيل ما تبقى من إمدادات الكهرباء، مما أجبر أكبر محطة تحلية مياه في القطاع على تقليص نشاطها. وبعد أيام، توقفت ثاني أكبر محطة عن العمل بسبب نفاد الوقود نتيجة الحصار الكامل الذي تفرضه إسرائيل على القطاع.

تعرّضت محطة غباين في مدينة غزة للقصف في مطلع أبريل/ نيسان، وفي الخامس من الشهر ذاته، أوقفت إسرائيل إمدادات المياه القادمة من شركة “ميكوروت” الإسرائيلية، التي كانت تؤمّن ما يقارب 70 بالمئة من مياه الشرب لسكان القطاع.
أحمد البحيصي، شاب في الثانية والعشرين من عمره من مدينة دير البلح وسط غزة، ويعمل بائعًا للمياه، قال لموقع +972: “إغلاق محطة التحلية (أكوا ماتش) لم يحرمنا فقط من مصدر رزقنا، بل حرم عددًا كبيرًا من الناس من الحصول على مياه نظيفة صالحة للشرب”.
وأشار إلى أنه يتلقى يوميًا اتصالات من الأهالي يطلبون منه إيصال المياه إلى منازلهم، لكنه لا يملك إلا الاعتذار، إذ لم تعد هناك أي محطة تحلية عاملة. وأضاف: “ما زلت أبحث عن بئر نشطة أستطيع شراء المياه منها، لكن الأسعار ارتفعت بشكل حاد، وأصبح من الصعب علينا الشراء ثم البيع للناس بأسعار معقولة”.
قطع شرايين الحياة
تُعد محطة غباين لتحلية المياه، وهي منشأة خاصة كانت تزود أجزاء من مدينة غزة ومخيم جباليا، من المصادر الحيوية للمياه في شمال القطاع. وفي الرابع من أبريل/ نيسان، استهدفتها القوات الإسرائيلية للمرة الثالثة منذ اندلاع الحرب، ما أسفر عن مقتل مجد غباين نجل أحد مالكي المحطة، والذي كان داخلها لحظة القصف، حيث تمزق جسده مع الأنابيب والخزانات.
قال أحمد غباين، شقيق مجد الأصغر، لموقع +972: “في كل مرة كانت القوات تقصف المنشأة، كانت الأضرار جسيمة. ورغم ذلك، كنا نعود لإصلاح ما يمكن إصلاحه بما نملكه من موارد شحيحة، فقط لنستمر في تزويد الناس بالمياه”.
لكن القصف الأخير كان مختلفًا، كما أوضح أحمد غباين: “في هذه المرة، استُهدِف البئر مباشرة بصاروخ ضخم، مما أدى إلى تدميره بالكامل. أبلغونا أنه بسبب التلوث الناتج عن الضربة أصبح من غير الممكن حفر بئر جديد في الموقع ذاته”.
وأضاف: “إسرائيل لم تستهدف فقط منشأة لتوزيع المياه، بل دمرت جزءًا من حياة عائلتي، وحرمت الآلاف من الحصول على المياه. كانت المحطة تخدم مناطق واسعة مثل حي التفاح، الشجاعية، الدرج، الشيخ رضوان، وجباليا. كان الناس يأتون من أماكن بعيدة لملء حاويات المياه. إنهم يمحون كل ما نعدّه شريانًا للحياة”.
يأتي قصف محطة غباين ضمن سياسة ممنهجة تتبعها إسرائيل منذ بداية الحرب، تقوم على استهداف آبار المياه والبنية التحتية المرتبطة بها، وقطع الإمدادات التي كانت تصل إلى غزة عبر الأنابيب الإسرائيلية.
وصف وائل أبو عمشة (51 عامًا)، وهو أب لسبعة أطفال، ومن المستفيدين من خدمات المحطة، استهدافها بأنه “ضربة موجعة” طالت مئات العائلات التي كانت تعتمد عليها كمصدر رئيسي للمياه.
وقال: “بعد تدميرها، بدأنا بالبحث عن بديل. وجدنا محطة أخرى لكنها بعيدة، وتحتاج إلى نصف ساعة مشيًا، ومياهها ليست نظيفة تمامًا، لكننا مضطرون لشربها”.
وتابع: “كنا نحصل على مياه الشرب من المحطة بأسعار ثابتة لم تتغير منذ ما قبل الحرب، وكثيرًا ما كانت تُوزّع مجانًا. كذلك، كان الماء المالح يُوزّع طوال اليوم بلا مقابل، وهو ما ساعدنا بعد أن دمّر الجيش الإسرائيلي أنابيب المياه التي كانت تزودنا من البلدية. أما الآن، فقد فقدنا كل أنواع المياه”.
وختم أبو عمشة: “الناس يعيشون معاناة يومية. أقطع مسافات طويلة وأنتظر ساعات لأملأ غالونًا واحدًا من الماء لعائلتي، وهو لا يكفي أساسًا. نضطر لخلطه مع ماء من محطة أخرى أقرب، رغم أنه غير صالح للشرب. ليس أمامنا خيار آخر”.
كارثة صحية عامة
لا تؤدي أزمة المياه إلى العطش فحسب، بل تهدد صحة المرضى بشكل مباشر. تقول سمر زعرب، وهي مريضة سرطان تبلغ من العمر 45 عامًا من خانيونس، وتعيش حاليًا في خيمة بمنطقة المواصي، لموقع +972، إن نقص المياه يزيد من معاناتها اليومية: “جسدي الضعيف بحاجة ماسة لمياه شرب نظيفة”.
وتتابع: “منذ أن نزحت قبل عدة أيام، تفاقمت معاناتي. شاحنات المياه لا تصل إلينا، والكمية القليلة التي نحصل عليها لا تكفي حتى لأبسط الاحتياجات اليومية مثل الغسل والتنظيف. ودون نظافة، تسوء حالتي الصحية. إذا لم أمُت من المرض، سأموت من قلة المياه النظيفة”.
وقال زهدي العزيز، مستشار نائب وزير الحكم المحلي في غزة، لموقع +972، إن “القطاع بأكمله يواجه كارثة إنسانية” بعد أن قطعت إسرائيل الكهرباء وأجبرت معظم محطات التحلية والمعالجة على التوقف عن العمل.
وأوضح العزيز أن الجيش الإسرائيلي استهدف بشكل مباشر المولدات الاحتياطية، وأصبح من شبه المستحيل تشغيل المنشآت: “85 بالمئة من مصادر المياه العذبة في غزة تم تدميرها، ما أجبر السكان على استخدام مياه ملوثة وغير صالحة للشرب”.
وأضاف: “حوالي 90 بالمئة من محطات التحلية الخاصة والعامة، وعددها الإجمالي 296، توقفت عن العمل، سواء بسبب الاستهداف المباشر أو نقص الوقود. كما توقفت خمس محطات رئيسية لمعالجة مياه الصرف الصحي، مما زاد من خطر التلوث البيئي وتفشي الأمراض”.
من جهته، وصف عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، الأزمة بلغة لا تقل حدة: “قوات الاحتلال الإسرائيلي دمرت أكثر من 64 بئر مياه في مدينة غزة وحدها، إلى جانب أكثر من 110 آلاف متر طولي من شبكات المياه، مما تسبب في انخفاض حاد في كمية المياه المتاحة”.
وأضاف: “حالياً، لا تعمل سوى 30 بئرًا، وهي غير قادرة على تلبية جزء بسيط من احتياجات السكان، خصوصًا مع تدفق النازحين من المناطق الشمالية”.
وتابع النبيه: “تبذل البلدية جهودًا كبيرة لإيجاد بدائل رغم محدودية الموارد، لكن حجم الدمار هائل ولا يمكن تعويضه في ظل الحصار والقصف المستمر. لا يوجد وقود ولا قطع غيار للمولدات أو مضخات الآبار. الآبار لا يمكن تشغيلها على مدار الساعة. واليوم، تعتمد حوالي 61 بالمئة من العائلات على شراء مياه الشرب من مصادر خاصة بأثمان باهظة، وهو مؤشر خطير على انهيار منظومة المياه العامة”.
وأشار عاصم النبيه إلى أن أزمة المياه تتزامن مع تفاقم الجوع، واستمرار الحصار، وارتفاع درجات الحرارة، وتدهور الأوضاع الصحية والبيئية نتيجة تراكم النفايات وتسرب مياه الصرف الصحي، وكل ذلك يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة السكان، خاصة في ظل انعدام المياه اللازمة للتعقيم والنظافة والطهي.
ورغم صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، قدّر النبيه أن متوسط كمية المياه المتوفرة يوميًا للفرد انخفض إلى ما بين 3 و5 لترات فقط، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الذي الموصى به وفق المعايير الإنسانية لتلبية احتياجات الشرب والطهي والنظافة خلال الأزمات، وضمان حماية الصحة العامة، أي 15 لترًا يوميًا.
وأضاف: “من المعروف أن ندرة المياه تسبب تفشي الأوبئة والأمراض الجلدية والمعوية. وإذا استمر الحظر المفروض على الوقود ومصادر الطاقة اللازمة لتشغيل المنشآت الحيوية، فقد يؤدي ذلك إلى توقف مرافق المياه والصرف الصحي بشكل كامل، مما سيفاقم الكارثة الإنسانية والصحية في المدينة”.
لم تردّ القوات الإسرائيلية على طلب موقع +972 للتعليق حتى موعد نشر هذا التقرير، وإذا ورد أي رد سيُضاف لاحقًا.
المصدر: +972